جريدة الرؤية العمانية:
2024-08-10@19:14:47 GMT

يوسف وإخوته

تاريخ النشر: 13th, July 2024 GMT

يوسف وإخوته

حاتم الطائي:

 

 

◄ غزة اليوم يأكلها الذئب.. ولم يأت أعداؤها بـ"دم كذب" بل دم حقيقي نشهده كل لحظة

◄ مثلما صمد يوسف الصديق تصمُد غزة الأبية وتُقاوم بجسارة لا مثيل لها

◄ 21 أخًا لـ"غزة" تقاعسوا عن مساندتها.. لكن "يوسف غزة" لم يعد يحتاج إليهم

 

ثمَّة قصة عظيمة تستوقفُني دائمًا، وأتكئ على أحداثها لفهم مُجريات هذه الحياة التي نعيشها، ولا أقصد الحياة الآنية؛ بل الحياة في كل زمان ومكان.

.. إنَّها قصة نبي الله يُوسف بن يعقوب -عليهما السلام- والتي وصفها الله -جل في عُلاه- بأنها "أحسن القَصَص"، ليس فقط لأنها رُوِيَت بالكامل في سورة واحدة في حدث استثنائي بالقرآن الكريم، ولا لأنها تجمع كل عناصر القصة بمفهومها المُعاصر من مُقدمة وحبكة وخاتمة؛ بل الأهم أنها تروي سيرة نبي عظيم واجه المِحَن والفِتن والمؤامرات واحدة تلو الأخرى، لكنه نَجَا منها جميعًا و"حَصْحَصَ الحَقُ" وتبيَن للجميع أن يوسف "الصديق" اكتسب هذه الصفة لأنه صدق في قوله وفعله، وصدق في إيمانه بالله، وصدق في حديثه مع الجميع، والأهم أنه صدق فيما عاهد الله عليه من جهاد النفس ومُكافحة الأكاذيب والضلالات، وقد تَحَملَ -عليه السلام- كُل التُهم والادعاءات وكان رَدُه المُستبشِر بالخير دومًا: "إنَه ربي أحسن مثواي".

ومن المُؤسِف أن قصة النبي يوسف تكرَّرت في أزمنة وأمكنة عديدة، ونراها اليوم ماثلةً وحاضرةً بقوة أمام أعيُننا، نُشاهدها ونقرأ عنها يوميًا، منذ أكثر من 76 عامًا، إنها قصة فلسطين الأبية، التي تُشبه قصة نبي الله يوسف التي وقعت أحداثها الأولى في أرض كنعان (التي تضم اليوم فلسطين)، عندما تآمر إخوة يوسف للتخلص منه، حقدًا وحسدًا عليه، ظنًا منهم أنه "الأحب" إلى أبيهم منهم رغم أنهم "عُصبة"، فاستدرجوه وألقوه في غيابات الجُب، وتخلوا عنه في صحراء قاحلة، لكن الله كتب له النجاة، ثم مرَّ بالعديد من المؤمرات الأخرى والفِتَن، إلا أن العناية الإلهية أنقذته في كل مرة.

اليوم نرى فلسطين، وتحديدًا غزة، وقد تخلى عنها الجميع؛ القريب والبعيد، وتآمر عليها الإخوة وغير الإخوة.. اليوم غزة "أكلها الذئب"، لكن للأسف لم يأتِ الأعداء بـ"دَمٍ كَذِبٍ"؛ لأنَّ الدم الذي نراه كل ساعة وكل دقيقة وكل لحظة هو دمٌ حقيقي، والجثث التي نشاهدها بالفعل أكلها الذئب الصهيوني المتوحش بتواطؤ أمريكي وغربي، وخذلان عربي وإسلامي لم يكتبه التاريخ من قبل، وصمت دولي يؤكد أننا نعيش في زمن العار والهوان.. زمنٌ لم يعد للإنسان الفلسطيني فيه أي ثمن، ولم يعد هناك شِبر آمن في غزة؛ حيث يقبع ما يزيد عن مليوني إنسان في محيط ضيق للغاية، تحت القصف والدمار، يفترشون العراء، مَرَّ عليهم الشتاء القارس بأمطاره الثلجية، ورياحه العاصفة، وهم ثابتون متشبثون بالأرض، ودخل عليهم الصيف بقيظه الحارق، فثبتوا مرة أخرى تحت لهيب الشمس وانعدام الماء والغذاء وكُل مقومات الحياة، بينما "إخوة يوسف" يتفرجون من بعيد، لا يملكون سوى التنديد والشجب والإدانة، دون أي فعل حقيقي ينتشل هؤلاء الصابرين المُرابطين من جحيم الحرب التي يرزحون تحت نيرانها منذ أكثر من 9 أشهر.

ومن عجائب قصة النبي يوسف أنه عندما شرع إخوته في التخلص منه وإلقائه في البئر، أوحى إليه الله تعالى ليُطمئِنه أنه سينجو، وأنه سيُخبرهم يومًا ما بما فعلوه فيه، مصداقًا لقوله تعالى: "وَأَوحَينَآ إِلَيهِ لَتُنَبئَنهُم بِأَمۡرِهِم هَذَا وَهُم لَا يَشعُرُونَ"، وهو ما حدث في نهاية السورة، عندما قال لهم: "هَل عَلِمتُم ما فَعَلتُم بِيُوسُفَ". وفي واقعنا الحالي، نرى السكوت والصمت تجاه ما يحدث في غزة، فمثلما صمَدَ يوسف عندما أُلقي به في البئر بالقوة، تصمُد غزة الأبية، وتتحدى قوى الأرض كلها، وتُقاوم ببسالة وجسارة لا مثيل لها. وكما واجه يوسف مؤامرة إخوته عليه، تُواجه غزة اليوم المؤامرة الدولية عليها، من قوات صهيونية مُجرمة مُتوَحشة، تُمارس أبشع صور الإبادة الجماعية، بدعم أمريكي وبريطاني وغربي، لكنها صامدة وصلبة في وجه أعنف عدوان حربي، بأعتى الأسلحة وأشد الذخائر وأكثر القنابل تدميرًا. غزة صامدة اليوم بفضل المقاومة الباسلة، التي تستلهم من الدين الحنيف وسورة يوسف العِبر والحِكَم، وتؤمن أن "يد الله فوق أيديهم"، وأن "كلمة الله هي العليا"، وكلمة الله هي الوعد الإلهي بالنصر والتمكين... "ألا إن نصر الله قريب".

وعندما نُمعن التفكير في قصة النبي يوسف، نكتشف أنه بفضل مُقاومته لكل المؤامرات التي حِيكَت له والفِتن التي أُريدَ له أن يسقط في براثنها، صار بعدها رجلًا عظيمًا، ذا شأنٍ كبير، فكان مسؤولًا عن "خزائن الأرض"، بينما آل الحال بإخوته إلى الفشل والإخفاق في حياتهم. وكذا الحال بالنسبة لفلسطين، التي ورغم المحن والنكبات التي تعرضت لها، إلا أن الشعب الفلسطيني ظل صامدًا في وجه جميع المؤامرات والخذلان من الجميع. واليوم نرى غزة شامخة عزيزة برجال المقاومة البواسل وبشعبها الصابر المُحتَسِب الذي ما يزال يتحمل الويلات، وفوق كل ذلك لم يفقد الأمل، لأنه يؤمن بالله ويؤمن بما ورد في سورة يوسف على لسان نبي الله يعقوب "إِنهُۥ لَا يَاْيۡـَٔسُ مِن روۡحِ ٱللهِ إِلا ٱلۡقَوۡمُ ٱلۡكَٰفِرُونَ"، ولأنهم يعلمون يقينًا أنهم على حق، وأن "إخوة يوسف" وغيرهم على باطل!

إنَ ما تشهده غزة العِزة ترجمةٌ لسُنة الحياة، منذ أن خلق الله الأرض ومن عليها وحتى قيام الساعة؛ فالنصر حليف المُجاهدين المُحتسبين، مهما طال الزمن، ومهما تآمر القريب والبعيد، ومهما تخاذل المتخاذلون؛ فالجهاد من أجل تحرير الأرض، والنضال حتى انتزاع الكرامة والحقوق، والمقاومة بهدف طرد المُستعمِر... كل ذلك يمثل سُنَّة الحياة، والهدف الذي ينبغي على كل إنسان أن يعمل من أجله، في حين أن الاستكانة والرضا بالهوان والذُل لن يجلب سوى العار والخزي والهزيمة الساحقة بكل مرارة.

إنَنَا عندما نتأمل سِيَر الأبطال والمقاومين في مختلف العصور والأزمنة، نُدرك أن النصر المُؤزَر هو النهاية العادلة والطبيعية لأعمال المقاومة والنضال والجهاد، وفلسطين على مَر التاريخ انتصر لها أصحاب العقيدة القتالية العادلة الحريصون على إحقاق الحق وإقامة العدل في الأرض. ولننظر إلى القائد المغوار صلاح الدين الأيوبي، الذي انتصر لفلسطين وطرد الصليبيين المُعتدين منها، فلو أن للدولة الأيوبية إنجازًا وحيدًا فقط لكان فتح فلسطين على يد القائد صلاح الدين الأيوبي.

ويبقى القول.. إنَّ ما يجري اليوم من مآسٍ ومذابح وما يُرتكب من جرائم حرب وإبادة جماعية في قطاع غزة، يؤكد أن النصر لن يتحقق إلا بأيدي أبطال المُقاومة، الصامدين منذ أكثر من 282 يومًا، يحاربون عدوًا خسيسًا ويُكبدونه الخسائر ويُلحقون به الهزائم المريرة، دون أن يُحقق هذا العدو ولو جزء من انتصار! ومن المؤسف أن نجد "إخوة يوسف" اليوم وقد تخلوا عن أخيهم، نجد 22 "أخًا" يتقاعسون عن مُساندة أخيهم، لكن المُفاجأة أن "يوسف" لم يعد يحتاج إلى إخوته. "غزة يوسف" باتت هي المعادلة الصعبة والشوكة التي لا تنكسر؛ بل وتحولت إلى سيفٍ حُسامٍ خرج من غمده، ليقطع رؤوس المُؤامرة والتطبيع، فقد وضع "طوفان الأقصى" حدودًا فاصلة وخطوطًا حمراء، بين ما كان يُخطط لها بليلٍ وفي الغرف المُغلقة سرًا، وبين ما باتت تريده الآن بكل وضوح وعلانية.

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

كلمات دلالية: لم یعد التی ت

إقرأ أيضاً:

الأهمية.. صناعة أم دور؟

من يسبق من؟ هل الأهمية تسبق القائم بالفعل؛ أم العكس؟ هل الأهمية صناعة يوجدها الفعل المنجز أم أن الفعل هو الذي يعلي من شأن من قام به؛ فيصنع منه بطلا ذا أهمية ما؟ ما الفرق في الأهمية؛ بين النتيجة المتحصلة من عمل ما؛ وبين الذي أدى ذلك العمل فكانت نتيجته كما هي ماثلة على الواقع؟ من هم الذين يصنعون فوارق موضوعية لمحصلات هي في حكم المتحقق وفي عرف المجتمع: من المُقَدَّرْ الفاعل أو النتيجة المتحصلة من فعله؟ ولنضرب لذلك مثالا نعيشه جميعا: فالأب هو المنشئ للأسرة باتفاق الجميع؛ وهذا أمر مسلم به؛ ولكن ما مدى الأهمية التي يشكلها الأب في حاضنة الأسرة بعد نيف من الزمان؟ بمعنى هل سيحافظ الأب على أهميته مع تقدم العمر؟ ونعني بالأسرة هنا المجموعة التي تضم الزوج والزوجة والأولاد، مع الأخذ في الاعتبار أن الأولاد نتيجة لثنائية الزوج والزوجة لأن وجودهم في الحياة مرتبط بهذه العلاقة التي نشأت بوجود الزوجين، وكيف تقاس هذه الأهمية عندما نصل إلى موقفين؛ الأول: ابن/ ابنة؛ يسلم أباه/ أمه؛ إلى دار للعجزة، والثاني: ابن/ ابنة، يقارع أباه/ أمه؛ الحجة بالحجة أمام منصة المحكمة في شأن ما من شؤون الحياة؟ هذه المواقف هي نتيجة أيضا لعشرة امتدت زمنا، لعب فيه الوالدان أو أحدهما دورا مهما وبطوليا، شكل في لحظتها الزمنية أهمية كبرى، وكان بطلا في محيط الأسرة، ثم تراجعت هذه الأهمية حتى وصل الأمر كما هو المثال أعلاه، قد يقول قائل: هذه حالات استثنائية، وأتفق معه، ولكن هذا الأب، وهذه الأم، إن سلما من دور العجزة، ومن الوقوف أمامهما عند منصات المحاكم، فإنهما لن يسلم كلاهما أو أحدهما من أن تكون له/ لها غرفة جانبية في المنزل الكبير، وعلى زاوية لا تمثل أهمية ما كانا عليه؛ وقد تكون هذه الغرفة المتواضعة في المنزل الذي أنشآه كلاهما مع بداية الحياة الزوجية، هل هذا استثناء أيضا؟ في أكثر من مرة ذكر لي أحد ما: إنه التقى بـ «أفراد» كانوا في يوم من الأيام مسؤولين كبار في مستويات مختلفة، يتحدثون عن قطيعة غير معهودة، وغير متوقعة من زملاء لهم كانوا يستظلون بمظلة واحدة، ويتقاسمون الهم والسرور في لحظات استثنائية، هذه القطيعة هي أيضا نتيجة من مخلفات الأهمية التي يشكلها المنصب في زمن ما، وأفصحت عنها عدم الحاجة إلى الطرف الآخر في زمن متأخر، ولا تزال الأسئلة الحائرة، والضاربة بعمق الألم عن من يمثل الأهمية: الشخص الذي لعب دور الأب/ الأم، أو المفهوم الذي ينسل منه دور الأب/ الأم كفاعل في حضن التربية، أم هو الشخص الذي كان مسؤولا كبيرا، وأصبح مجردا من المسؤولية - بحكم سياق الحياة المعتاد - حيث عاد إلى حالته كفرد عادي بين أحضان المجتمع كغيره من البسطاء، أم مفهوم المسؤولية المنبثقة منها الهالة الإدارية المحيطة بهذا الشخص أو ذاك في زمن ما، وأصبح بخلاف ذلك؟ وهنا مقاربة بسيطة ربما تذهب إلى تقريب المعنى، وهي حالة السيف المستخدم في الحروب في زمن ما، أو الخنجر، أو الخيل، التي ذكرها أبو الطيب المتنبي مفتخرا بها، ومعتزا بدورها في تعضيد شجاعته: «الخيل والليل البيداء تعرفني؛ والسيف والرمح والقرطاس والقلم» هل هذه الأدوات كلها تمثل أهمية ما اليوم قياسا بالدور الذي كانت عليه في الأزمان المتقدمة؛ «قَبِّض السيفَ ضاربه»؟ ألم تصبح للزينة فقط؟ وحتى في الأزمنة المتقدمة هل تعود الأهمية إلى هذه الأدوات؛ أم إلى من يستخدمها وفق المعنى المطروح في هذه المناقشة؟

مقالات مشابهة

  • بصورة ..استقبال كريم عبد العزيز لـ يوسف الشريف في كواليس مسرحية السندباد
  • الأهمية.. صناعة أم دور؟
  • أدعية مؤثرة للوالدين: نبع الحنان وبركة الحياة
  • الرئيس بن يوسف بن خدة جنب الجزائر مصير السودان الحاضر.. هذه التفاصيل
  • الرئيس بن يوسف بن خدة هو الذي جنب الجزائر مصير السودان الحاضر.. هذه التفاصيل
  • عالم أزهري يكشف أول شيء خلقه الله تعالى في الوجود
  • ما هو أول شيء خلقه الله تعالى في الوجود.. عالم أزهري يجيب (فيديو)
  • منة تيسير: أنا مع نظرية محمد رياض وهو تكريم الفنانين على قد الحياة(حوار)
  • رغم شبح الحرب.. الحياة في لبنان مستمرة بلا توقف
  • عايز تبقى دكتور روح " ديمشلت" ..قائمة جديدة للحاصلين على أكثر من 90% (خاص)