الثابت والمتحول في السياسة الإيرانية
تاريخ النشر: 13th, July 2024 GMT
على مدى أقل من نصف قرن، منذ قيام الثورة الإسلامية الإيرانية بقيادة الخميني في فبراير/ شباط ١٩٧٩، التي شارك فيها جل الشعب الإيراني حينها، وحتى الآن، فإن السياسة الخارجية الإيرانية تجاه المنطقة – وتجاه العالم العربي تحديداً- لم تتغير إلا تكتيكياً، أما استراتيجياً فلم يحدث فيها تغيير، وظلت السردية السياسية ذاتها حاضرة لدى الإيرانيين بحقبتيهم الشاهنية والخمينية، مع فرق في الأيديولوجيتين الحاكمتين.
تعود هذه الفكرة دائماً إلى الحضور، ويعود الجدل حولها مع كل نتائج للانتخابات في إيران، ومنها هذه الانتخابات الأخيرة التي نتج عنها صعود مسعود بزشكيان الإصلاحي على خلفية رحيل سلفه المحافظ إبراهيم رئيسي. لكن بعض القراءات لا يزال لديها غبش كبير في فهم الذهنية الإيرانية جيدا، وأن إيران الثورة الإسلامية هي نسخة لا تتغير ولا تتبدل مهما جاء رئيس ورحل آخر، وأن الديمقراطية الإيرانية المحكومة بولاية الفقية هي الحاكمة لصانع القرار الإيراني أيًّا كان صانع القرار هذا، محافظًا أو إصلاحيًّا.
صحيح أن المشهد السياسي الإيراني يتنافسه تياران واضحان، وهما التيار المحافظ والتيار الإصلاحي، ومن خلال هذين العنوانين نفهم طبيعة تركيب المجتمع السياسي الإيراني، ولكن مثل هذا التقسيم لا يكفي لفهم المجتمع الإيراني ما لم نفهم طبيعة القضايا التي يختلف حولها التياران أو يتفقان، لكي ندرك إلى أي حد يمكن أن نجد مدخلا يستدعي الحديث عن ثابت ومتحول في السياسة الإيرانية.
فمن يعود إلى قراءة طبيعة السياسة الإيرانية خلال نصف القرن الماضي، منذ ما قبل الثورة الإيرانية الخمينية، يدرك جيداً أنه ليس ثمة تحول كبير فيما يتعلق بجوهر سياسة إيران تجاه العالم العربي في المستوى الاستراتيجي ، وأن الجديد في هذه السياسة هو البُعد الطائفي الذي يتم التعبير عنه بمبدأ تصدير الثورة، و هو بعد تكتيكي لا يقل تأثيرًا عن البعد الآخر القومي لنظام الشاه، الذي احتلت قواته جزر طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى، وكان يطالب بالبحرين، ولم يعترف باستقلال البحرين إلا عام ١٩٧١ بموجب صفقة مع البريطانيين.
أما بالنسبة للمرحلة التالية، وهي مرحلة جمهورية إيران الإسلامية، فإن سياساتها واضحة في أجلى صورها، والحديث عن انقسام سياسي بين المحافظين والإصلاحيين هو حديث عن انقسام تكتيكي، لا يمكن أن يصل إلى تغيير استراتجية النظام في علاقاته بالخارج، والعالم العربي في مقدمة هذا الخارج.
انقسام الإيرانيين إلى محافظين وإصلاحيين لا يخرج عن إدارة رؤية واستراتيجيات نظام ولاية الفقية.. لا تغيير في هذه الاستراتيجيات، فالمحافظون هم الأعلى صوتاً في التعبير عن سياسة النظام واستراتيجياته، فيما الإصلاحيون هم الأخفض صوتاً والأكثر دبلوماسية في التعبير عن تلك السياسات والاستراتيجيات ذاتها، التي تتم صناعتها من قبل المرشد الأعلى، ويُخرجها مجلس تشخيص مصلحة النظام.
فالرئيس الإصلاحي الأبرز، محمد خاتمي، الذي فاز لمرحلتين رئاسيتين (١٩٩٧م – ٢٠٠٥م)، وزار أمريكا – الشيطان الأكبر بحسب المصطلح الإيراني- وعبر عن أسفه واعتذاره عن احتجاز الرهائن في السفارة الأمريكية بطهران عشية الثورة، هو الرئيس الإيراني الذي تم في عهده غزو كل من العراق وأفغانستان من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، ولم تمانع إيران أو تتخذ أي موقف رافض لذلك، بل ظلت تتماهى مع الغزو الأمريكي وفقاً لسياسة عدم المواجهة والصدام. ورغم حالة العداء وانقطاع العلاقة الرسمية بينهما كان ثمة تماهٍ تام من قبل نظام خاتمي مع الغزو الأمريكي لدولتين جارتين لإيران، بل صرح محمد علي أبطحي، نائب خاتمي حينها، بأنه لولا إيران ما سقطت كابول وبغداد بيد الأمريكان.
ما نريد قوله هنا، إن الحديث عن تغيير وتبديل في سياسات إيران الخارجية، لمجرد صعود رئيس إيراني ورحيل آخر نتيجة انتخابات تجري وفقا لديمقراطية الولي الفقية، ليس سوى نوع من الأوهام والأماني، لأن السياسات الإيرانية ذاتها قائمة، لم تتغير ولم تتبدل منذ وصول الخميني للسلطة، وتحكُّمه كولي الفقية بكل صغيرة وكبيرة في الشأن الإيراني ثابت، وإنما يأتي الحديث عن ديمقراطية في هذا المناخ كنوع من المجاز والدعاية ليس إلا.
ولهذا كان عديد من مفكري إيران يجادلون دائماً حول هذا الأمر، وأنه لا تستقيم الديمقراطية مع فكرة ولاية الفقية مطلقاً، فمفهوم الولاية مفهوم متعارض مع فكرة الديمقراطية أساساً كما ذهب لذلك آية الله مهدي حائري يزدي، وهو ابن الحوزة الدينية في قم، ويحظى باحترام كبير، إذ يقول: إن الحكومة في الإسلام – ويقصد الإسلام الشيعي- يجب أن تتأسس على التمثيل أو الوكالة وليس الولاية”، وهو يقصد هنا حكومة ولاية الفقية الحاكمة في إيران.
وهي الفكرة التي تلتقي مع ما ذهب إليه المفكر اللبناني، العلامة محمد مهدي شمس الدين، بخصوص ولاية الفقية؛ إذ قال إن ولاية الفقية لا تستقيم مع فكرة الحرية والاختيار التي يجب أن يكون مصدرها الأمة، وبالتالي طالب محمد مهدي شمس الدين بفكرة ولاية الأمة كبديل لولاية الفقية الفرد، ومثل هذا النقاش خاض فيه كثيرون، منهم المفكر عبد الكريم سروش ومحسن كديفوار، وغيرهما كثير.
وبالتالي، فإن الحديث عن تغيير في السياسية لا يستقيم على منهج واضح المعالم في محاكمة نظام ولاية الفقية، النظام القائم في إيران، ولا في البناء النظري على وجود قراءة دقيقة لطبيعة مخرجاته، وأنه يمكن الركون إلى أن ولاية الفقية تعكس حقيقة تمثيل الأمة الإيرانية كلها، وخاصة إذا ما عدنا في أبسط الأحوال للنظر مثلاً في نسبة المشاركين في الانتخابات التي لا تتجاوز ٤٠٪ من مجموعة الناخبين، فذلك ربما يعكس حالة من عدم الانسجام والقبول بمخرجات انتخابات معلومة النتائج مسبقاً.
وانطلاقاً من هذا، فإن مسألة الحديث عن تحولات في السياسات الإيرانية هو – بالنظر إلى كل هذه الحقائق- ضرب من التمني، وقراءة حالمة وغير دقيقة؛ ومن ثم فإن إيران الشاه لا تختلف كثيراً عن إيران الولي الفقية، ومن باب أولى فإيران المحافظين هي إيران الإصلاحيين.. إيران دولة إرث تاريخي إمبراطوري قومي، لم تستطع طوال تاريخها بعد الإسلام أن تتخطى هذا الإرث وتتحرر منه إلا بالقدر الذي يحقق مصالحها وأهدافها في محيط لا يزال يتوجس من إيران وأطماعها الاستراتيجية.
إن أي قراءة سطحية لهذا الإرث والتاريح والحاضر الإيراني، لا يمكن أن تكون من منظور علمي واقعي للأمر، ولا يُبنى عليها موقف متماسك تجاه إيران وسياساتها، لأن تاريخ الثورة الإسلامية على مدى ٤٥ عاما الماضية لا يشي بأي نوع من التفاؤل في إمكانية بناء جسور تواصل حضاري للعيش المشترك مع إيران، ما لم يحدث ثمة تغيير حقيقي من خارج البنى الإيرانية التقليدية، أي من خارج أطر مخرجات إيران ولاية الفقية، وهذا ما يعني أن القراءة الرومنسية لا تصلح مطلقا لبناء جسور تواصل، ولا حتى من قبيل الواقعية السياسية.
إيران دولة وازنة، وجارة مهمة للعالم العربي، وذات امتداد حضاري وتاريخي أيضاً، ولا يمكن تجاوز هذه الحقائق في أي علاقة مع إيران.. ولكن هذا كله لا يمكن أن يتغافل المطامح والآمال الإمبراطورية المحركة للسياسة الإيرانية، التي باتت اليوم تتمدد في فضاء عربي متضعضع ومتداعٍ وفارغ، تتمكن إيران من ملئه بسهولة، بفعل أدواتها الخشنة ممثلةً بالمليشيات، وبفعل فشل الدولة الوطنية العربية في تأسيس اجتماع سياسي متماسك. وإن أي طوباوية حالمة في التعاطي مع إيران لا تعني سوى مزيد من الانهيارات العربية لصالح هذا المشروع الإيراني، الذي لا يخفي توجهاته وطموحاته، وليس في قاموسه ثابت ومتحول.
المقال نقلاً عن موقع “مدونة العرب”
المصدر: يمن مونيتور
كلمات دلالية: إيران اليمن كتابات يمن مونيتور الحدیث عن یمکن أن لا یمکن
إقرأ أيضاً:
زيارة البرهان إلى مصر: محاولة لالتقاط أنفاس السياسة وسط ركام الحرب
في أغسطس 2023، قام الفريق أول عبد الفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة السوداني، بأول زيارة خارجية له منذ اندلاع الصراع العسكري في السودان بين القوات المسلحة وقوات الدعم السريع في أبريل من نفس العام. اختيار مصر كأول محطة خارجية يحمل دلالات استراتيجية عميقة تتجاوز البروتوكول الدبلوماسي، وتعكس حسابات معقدة ترتبط بالسعي إلى تثبيت الشرعية وإعادة هندسة المشهد السياسي المأزوم.
رمزية الزيارة وموقع مصر الإقليمي
أن تكون مصر هي الوجهة الأولى للبرهان بعد اشتعال الحرب يعكس إدراكه لمركزية القاهرة في معادلة الاستقرار الإقليمي. فمصر والسودان يرتبطان بروابط تاريخية وجغرافية حيوية، أبرزها نهر النيل والحدود المشتركة، فضلًا عن امتدادات المصالح الأمنية والاقتصادية. كما أن لمصر موقعًا مؤثرًا في الاتحاد الأفريقي والجامعة العربية، مما يمنحها قدرة على توظيف نفوذها في الساحة الدولية لدعم حلفائها.
زيارة البرهان جاءت في لحظة حرجة حيث كانت الحرب الداخلية قد أحدثت شروخًا واسعة في بنية الدولة السودانية، وأنتجت أزمة إنسانية خانقة، مما جعل الحاجة إلى دعم إقليمي ودولي أكثر إلحاحًا. في هذا السياق، لم تكن الزيارة مجرد تواصل دبلوماسي بل محاولة لترميم شرعية مهترئة ومواجهة عزلة متزايدة.
الترويج للانتقال الديمقراطي: خطاب أم تحول؟
أكد البرهان خلال لقائه بالرئيس عبد الفتاح السيسي التزامه بالانتقال إلى الحكم المدني، في محاولة واضحة لإعادة تصدير خطاب "التزام الجيش بالديمقراطية"، الذي لطالما قوضته الممارسات الفعلية منذ انقلاب 2021. هذه التصريحات، رغم أهميتها الشكلية، قوبلت بشكوك واسعة من أطراف محلية ودولية، نظرًا للسجل الحافل من المراوغة السياسية وإقصاء المدنيين.
مصر بدورها تبنت خطابًا داعمًا لوقف إطلاق النار والحوار السياسي، لكنها حافظت على توازن حساس بين الترويج للوساطة وبين الدفاع الضمني عن حليفها التاريخي: الجيش السوداني. هذا الموقف المزدوج يثير تساؤلات حول مدى حياد مصر كوسيط، خاصة في ظل التقارير التي تشير إلى دعمها النسبي للقوات المسلحة في مقابل ميل أطراف خليجية، مثل الإمارات، لدعم قوات الدعم السريع.
تعقيدات الصراع الداخلي وحدود الوساطة
الحرب في السودان ليست مجرد صراع بين جيشين، بل هي معقدة بطبيعتها، تتداخل فيها الحسابات القبلية، والصراعات على الموارد الاقتصادية، والتدخلات الإقليمية المتباينة. هذه الطبيعة المركبة تقلل من فعالية أي وساطة تقليدية، وتجعل الدور المصري، مهما كان نابعًا من نوايا حسنة أو مصالح استراتيجية، قاصرًا عن تحقيق اختراق حقيقي دون تنسيق أوسع مع قوى إقليمية ودولية.
كما أن شرعية البرهان تظل موضع جدل داخلي، إذ يعتبره كثيرون شريكًا رئيسيًا في إجهاض الثورة السودانية التي أطاحت بنظام البشير، مما يجعل خطابه عن "الانتقال الديمقراطي" خاليًا من الثقة الشعبية.
التحدي الإنساني الغائب
من النقاط اللافتة غياب أي طرح عملي خلال الزيارة لمعالجة الأزمة الإنسانية المتفاقمة، حيث يعاني أكثر من 25 مليون سوداني من آثار الحرب. لم تُطرح مبادرات لإنشاء ممرات إنسانية آمنة أو ضمان وصول الإغاثة الدولية، وهو قصور فادح بالنظر إلى حجم الكارثة. مما يعزز الانطباع بأن الزيارة كانت تستهدف في المقام الأول إعادة ترتيب الأوراق السياسية أكثر من معالجة التداعيات المباشرة على الأرض.
رهانات المستقبل بين الفرص والمخاطر
تشكل زيارة البرهان إلى مصر فرصة لفتح نافذة تفاوضية جديدة إذا ما اقترنت بجهد إقليمي جماعي وضغوط دولية تفرض مسارًا حقيقيًا نحو الحل السياسي الشامل. غير أن غياب آليات تنفيذية واضحة لوقف إطلاق النار، واستمرار الانقسامات الداخلية والإقليمية، يهدد بأن تبقى الزيارة مجرد تحرك تكتيكي في لعبة النفوذ الإقليمي، دون تأثير ملموس على إنهاء الحرب أو تخفيف معاناة المدنيين.
المطلوب اليوم ليس الاكتفاء بخطابات عمومية عن "السلام والديمقراطية"، بل تحركات عملية تشمل وقف الأعمال العدائية، إشراك القوى المدنية الحقيقية في التفاوض، وفرض ضمانات دولية تحول دون تجدد الحرب. بخلاف ذلك، سيظل الصراع في السودان مرآة لصراعات إقليمية ودولية أوسع، يدفع ثمنها الشعب السوداني وحده.
zuhair.osman@aol.com