ليس من قبيل «الهجاء اليساري» فقط أن نشبِّه الرأسمالية العالمية بطبيعة الحشائش الانتهازية، فهي كذلك بالفعل؛ تنمو وتزدهر في أفضل الظروف وأسوئها. لا شيء يوقف آلتها المزودة بميكانيزمات الإصلاح الذاتي والتطوير التلقائي لأدائها. إننا نتحدث عن نظام اقتصادي لا يكتفي بإشباع احتياجاتنا الأساسية، بل تكمن ثورته وثروته معًا في مداعبته العميقة للرغبات الكامنة في تضاعيف النفس البشرية التي لا غور لها، حيث يمثل الاستثمار التجاري للرغبات جوهر سوق الاستهلاك حول العالم ( لا بدَّ أن نميز هنا بين الحاجة والرغبة).
لا يتطلب الأمر قراءة متخصصة لملاحظة ما يميز النظام الرأسمالي من هذه الناحية؛ فاقتصاد السوق على استعداد دائم لاستغلال أي ظرف كان؛ نلاحظ أنه يستفيد من أجواء الحرب كما يستفيد من زمن السلام والاستقرار، ويربح في فترات الكوارث والأوبئة والأمراض كما يربح في ظل العافية وإقبال الناس على الأطعمة والعادات الصحية مستفيدًا من تحوُّل الرياضة إلى موضة استعراضية. الأهم في ذلك أنه نظام مبهر بقدرته على تسليع كل شيء وتغليفه تمهيدًا لعرضه خلف زجاج المتاجر وفي لوحات الإعلان المضيئة وفي النوافذ الترويجية التي تنبثق تباعا بصورة مزعجة على صفحات الإنترنت. وفي ظل التحالف العميق بين شركات التسويق ووسائل الإعلام، لا يكاد هذا النظام يرفض شيئًا بالمطلق. شهيته مفتوحة دائمًا، ويتمتع بمرونة عالية تتيح له التفاوض مع أي من خصومه والمساومة على أي مبدأ أو فكرة من أجل مضاعفة الربح. فكل الأفكار والأيقونات المناهضة له -مهما بلغت رمزيتها- قابلة لإعادة إنتاجها على شكل موضة جديدة في الأسواق، بمنهجية تسويقية مريعة تستطيع تحويل صورة أعتى الماركسيين الثوريين إلى سلعة، حتى لو كان ذلك الرأس الماركسي العتيد هو أرنستو تشي جيفارا شخصيًّا، الرمز المرادف للثورة، والذي سخَّر حياته ومواهبه الثورية المتعددة كلها (كقائد عسكري منظر لحرب العصابات، ثم كسياسي ورجل دولة في فترة قصيرة، وككاتب وخطيب في الوقت نفسه، بل وحتى كطبيب) خدمةً لهدف واحد يتلخص في الثورة الأممية على الإمبريالية العالمية ونهجها الاقتصادي المتمثل في الرأسمالية الاحتكارية.
في خمسينيات القرن الماضي هتفَ تشي بالشعار الثوري البسيط الذي أطلقه رفيق دربه فيدل كاسترو: «العار على المال»، وانطلق في مشوار نضالي ملحمي قاد خلاله ثورة شعبية مسلَّحة حتى اليوم الذي وقع فيه بطريقة شبه انتحارية في الكمين الأخير بيد القوات البوليفية المدعومة -كما هو معروف- من قبل وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية. حتى تلك اللحظة كانت تنقصه صورة نهائية تصادق على قوله «إن المرء في الثورة إما أن ينتصر أو أن يموت» العبارة التي وردتْ في رسالته الوداعية القصيرة لفيدل. وذلك ما تم بالفعل؛ حين اكتملت أبعاد الصورة الأسطورية فور إعدام الثائر الجريح بتلك الطريقة التي بتنا نعرفها. ولكن قبل ذلك بقليل، هل نستطيع أن نسأل إن كان تشي قد طمح لمشهد نهائي موثق خالص له وحده بدلًا من السقوط كسائر الثوار المغمورين في أرض المعركة؟ ينقل الرقيب البوليفي برناردينو أوانكا صيحة تشي في اللحظة الأخيرة قبل الأَسر، وقد تعطَّلت بندقيته، قائلًا: «لا تطلقوا النار! أنا تشي جيفارا، وأساوي حيًّا أكثر من ميت».
اليوم، بعد أكثر من نصف قرن على تلك الصورة النهائية، تحول الرمز إلى مادة إعلانية مَشاع مبتورةٍ عن سياقها التاريخي. تلك التراجيديا الملحمية التي شغفت ثوار العالم منتصف القرن العشرين تُعرض هذه الأيام في شكل نكتةٍ سوداء على مواقع التجارة الرقمية، جرّب أن تبحث مثلا على موقع «أمازون»: قميص يحمل صورة تشي مقابل 16 دولارًا بعد الخصم مع التوصيل إلى بلدك. صورةٌ أخرى على ولاعة، أو «بيريه» عسكري كوبي مع النجمة الخماسية، لدينا ألوان متعددة منها، اختر اللون الذي يناسبك، وعلينا التوصيل، فقط مقابل 14 دولارًا بعد التخفيض بنسبة 8%. بضاعة أخيرة لفتتني كانت عبارة عن قبعة عليها صورة تشي داخل دائرة حمراء مشطوبة (كإشارة: ممنوع التدخين) وكان الوصف المكتوب:
Anti-Communist/Anti-Che Guevara !
لم يترك الابتذال التجاري في صورة «الثائر البطولي» الشهيرة التي التقطها المصور الكوبي ألبرتو كوردا، أي ملمح حقيقي يدل على سيرة صاحبها وعلى معاني حياته سوى النجمة الخماسية التي تتوسط كُمَّته الحربية (البيريه) بالإضافة إلى اللون الأحمر الدموي الذي صبغ به الفنان الأيرلندي جيم فيتزباتريك خلفية الصورة بعد أن اقتبسها من مصورها الأصلي عام 1968.
كان كوردا قد التقط الصورة الأشهر لتشي في هافانا عام 1960، حيث يظهر بقسماتِه الصارمة خلال مراسم تشييع ضحايا انفجار السفينة الفرنسية «لا كوربي» التي انفجرت أثناء تفريغ حمولتها من الذخيرة والقنابل اليدوية موديةً بحياة العشرات. ومنذ التقاطها ظلت الصورة مِلكية عامة تُقتبس في جميع أرجاء العالم، في أعمال فنية أو إعلامية أو ترويجية، فضلًا عن اقتباسها لأغراض سياسية كما يحدث في المظاهرات، وذلك طيلة عقود لم تكن فيها كوبا من بين الدول الموقعة على اتفاقية «برن» لحماية المصنفات الأدبية والفنية، تلك الاتفاقية التي وصفها كاسترو بأنها شيء «برجوازي». غير أن المصور اضطر غاضبًا في أواخر حياته لخوض معارك قانونية لحماية حقوق الصورة من الابتذال والاستغلال التجاري في الحملات الإعلانية التي تقودها بعض الشركات. وكان الحدث الأبرز حينما رفع دعوةً قضائية عام 2000 على إحدى شركات الخمور الكبرى التي وضعت الصورة في ملصق حملة إعلانية لشرابِ «الفودكا»، حيث سجلت الجارديان البريطانية تصريحه بعد رفع الدعوى القضائية قائلًا: «لو كان تشي جيفارا لا يزال على قيد الحياة، لكان قد فعل الشيء نفسه. إن استخدام صورة تشي لبيعِ الفودكا يعد إهانة لاسمه وذكراه. فهو لم يشرب الخمر قط، ولم يكن مدمنًا على الخمر، ولا ينبغي أن يرتبط الخمر بذكراه الخالدة».
سالم الرحبي شاعر وكاتب عماني
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
عراضة شامية وترويج تجاري في باحة سجن صيدنايا يثير استياء سوريين.. إليك ما جرى
أثارت فعالية الإعلان عن تأسيس "رابطة معتقلي الثورة السورية" من قبل معتقلين سابقين، الجمعة، موجة واسعة من الانتقادات في الأوساط السورية بسبب مظاهر احتفالية وإعلانات تجارية ضمها.
وتداول ناشطون عبر مواقع التواصل الاجتماعي مشاهد من ساحة سجن صيدنايا سيئ السمعة تظهر مشاركة فرقة "عراضة شامية" في الفعالية بالإضافة إلى قيام شركات تجارية تعنى ببيع القهوة والشوكلاتة بوضع لافتات تجارية في الموقع.
صور من سجن #صيدنايا تظهر تسويقاً تجارياً لبعض المُنتجات على جُدران السجن .
هذا الذي حلَّ بإرث الذين أعادونا إلى الديّار ولم يعودوا. #عليكم_اللعنة
. pic.twitter.com/oAKQQUO0MP — مُحَمّد الخَليِّل (@mohammad19857) February 14, 2025
وأثارت المشاهد استياء طيف واسع من السوريين الذين انتقدوا إقامة مظاهر احتفالية في باحة السجن الذي حول نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد إلى ما وصف بأنه "مسلخ بشري".
وكان السجن الواقع جنوبي العاصمة دمشق تصدر المشهد السوري عقب سقوط نظام الأسد في الثامن من كانون الأول /ديسمبر الماضي، بسبب ما تضمنه من مشاهد تعكس وحشية النظام في التعامل مع المعارضين داخل معتقلاته.
ويحمل سجن صيدنايا رمزية لدى السوريين بشكل عام وذوي الضحايا والمغيبين في سجون النظام المخلوع، الذين يتجاوز عددهم حاجز الـ100 ألف مختف قسريا لم يعلم مصيرهم بعد سقوط النظام، وفق منظمات حقوقية.
وفي تقرير سابق لها عن سجن صيدنايا بعنوان "المسلخ البشري"، أكدت منظمة العفو الدولية، على وجود ادعاءات ذات أساس قوي حول إعدام آلاف الأشخاص شنقا في عمليات إعدام تحت الأرض في سجن صيدنايا.
والشهر الماضي، أثارت مبادرة أطلقها فريق يعرف باسم "سواعد الخير" لطلاء أحد سجون النظام في محافظة اللاذقية غضبا واسعا في الأوساط السورية بسبب ما قالوا إنه "طمس" للأدلة التي تدين النظام و"مسح" لذاكرة المعتقلين والمفقودين.
وكان الرئيس السوري في المرحلة الانتقالية أحمد الشرع التقى في قصر الشعب بالعاصمة دمشق مع عدد من روابط أهالي المعتقلين والمغيبين قسريا في سجون النظام المخلوع، وذلك بعد انتقادات شديدة لما قيل إنه غموض في موقف السلطات الجديدة تجاه ملف العدالة الانتقالية.
عراضة ودعاية قهوة وبسطات في أفظع مسلخ بشري وآلة قتل ومخزن ألم في تاريخ سوريا.
تفاهة وإهانة بمرتبة الجريمة للملايين من عوائل وأقارب وأصدقاء ضحايا سجن صيدنايا العسكري pic.twitter.com/chiwBDeHPi — أحمد أبازيد Ahmad Abazeid (@abazeid89) February 14, 2025 الرحمة بأهالي المعتقلين والمعتقلات! السجون مسارح جريمة ولازم تتسكر فوراً!#سوريا pic.twitter.com/4RLminEubw — Wafa Ali Mustafa (@WafaMustafa9) February 14, 2025 يجب مقاطعة كل منتج يتم التسويق له في ساحات او جدران صيدنايا
هنا قُتل آلاف الناس ومجرد ذكر إسمه آلاف الدمعات تُذرف
ليس مكان للطبل والزمر والدعايات#سوريا #سوريا_الان #الثورة_السورية #صيدنايا pic.twitter.com/ILOUg7zAXF — قصي (@Qusaii_sy9) February 14, 2025 من أين اكتسب بعض السوريين كل هذا الكم من الوقاحة اللامبالاة وقلة الذوق!
مآسينا ليست مكان لعرض البراندات
ساحة سجن صيدنايا، قذر من يكتسب على دماء الشهداء pic.twitter.com/k3lYBJHJug — Ibrahim Omar (@IbrahimOmar_99) February 14, 2025 من فعالية الإشهار لرابطة معتقلين الثورة التي أقيمت اليوم في سجن #صيدنايا العسكري!!!
هذا مكان لو أقيمت فيه المآتم آلاف السنين لا يكفيه فكيف يُقام به فعاليات فيها ما نراه في الصور؟ pic.twitter.com/1k0RkFX6Nf — تمام أبو الخير (@RevTamam) February 14, 2025 #إعلانات لشركات مواد غذائية وعراضة أمام سجن #صيدنايا..تريدون كسب المال وزيادة أرباحكم من أمام هذا المكان الذي قتل فيه الآلاف وتم كبسهم في المسالخ البشرية.. ألم تتابعوا الحماقة المرتكبة عند طلاء أحد السجون في #اللاذقية التي أزعجت كل السوريين..ألا تخجلوا من أنفسكم.#سوريا pic.twitter.com/17aGlhey78 — Waseem Al Ekhwan وسيم الإخوان (@WaseemEkh) February 14, 2025 #سجن_صيدنايا مكان يحكي قصص آلام آلاف المعتقلين ومعاناة سورية قاطبة فلا تكاد تخلو عائلة أو بيت وإلا لهم معتقل أو أكثر ..
تحويل هذا المكان المبني بدماء وصرخات وأنات أهلنا وإخوتنا لساحة للعراضة والمهازل وسوق لترويج البضائع هو أمر سفيه ومنحط وقـ ـذر
أين سيف الحكومة من هذا الأمر ؟ pic.twitter.com/bAgZOtT2ER — محمد عبد القادر حمود (@Hamoudi_Free_Sy) February 14, 2025 بن الحموي وبسكويت لاتار وعراضة وطبل وزمر ضمن فعالية في #سجن_صيدنايا!
مع الاحترام للقائمين على هذه الفعالية ونواياكم التي أرجّح أنها طيبة، لكن ألم يخطر ببالكم أن طريقة تعاملكم مع أكثر قضية حساسة للسوريين فيها تسفيه وإهانة لآلام وتضحيات المعتقلين وذويهم، الذين لا يملكون إجابات… pic.twitter.com/n6LvDC6kHa — Bahaa Dabous (@Bahaa_Dabous) February 14, 2025 ⭕️ عراضة و طبل و تزمير قدام سجن صيدنايا!!
انتو شو مخكن؟؟ ووقت منقلكن مكوعين بتزعلو؟
لو عندكن ذرة شرف و احترام للشهداء و المعتقلين الي تعذبو ما بتعملو هالمسخرة!!
انتو مؤسسة قلة الشرف و الضمير
*الرجاء النشر الموضوع ما مزحة ابداا #مؤسسة_رابطة_معتقلي_الثورة_السورية#بن_الحموي pic.twitter.com/idtdmznZFE — Solaf Dardir (@Solafdardir) February 14, 2025 أغبى شيء شفته اليوم!
تُجار الأزمات وأصحاب العراضات لا يهمهم الشهداء ولا المعتقلين ولا مشاعر أهلهم، كلّ همهم تجارتهم وكيف يحصلون على المال، حتى ولو كان المال مغطى بدماء السوريين!
• رسالة للمسؤولين عن سجن صيدنايا: كيف وافقتم على هكذا أمر؟!#سوريا #صيدنايا #سجن_صيدنايا #دمشق pic.twitter.com/2txfwQOpuI — Ahmad Al Kheder (@ahmad_alkheder1) February 14, 2025 ما هذه المهزلة امام سجن صيدنايا#سوريا pic.twitter.com/zDX6UHyfAx — Abdalrhman AK (@klf_ak) February 14, 2025