لجريدة عمان:
2025-04-30@09:19:40 GMT

إسماعيل كاداريه الروائي المراوغ!

تاريخ النشر: 13th, July 2024 GMT

إسماعيل كاداريه الروائي المراوغ!

(1)

«ليست الثقافةُ وطنيةً خالصة ولا إنسانيةً خالصة، ولكنها وطنية إنسانية معًا، وهي في أكثر الأحيان فردية أيضًا، فمن ذا الذي يستطيع أن يمحو بتهوفن من موسيقى بتهوفن؟ ومن ذا الذي يستطيع أن يمحو راسين من شعر راسين؟»..

(الدكتور طه حسين في «مستقبل الثقافة في مصر»)

(2)

ربما كانت العبارة التي صدرنا بها هذا المقال لعميد الأدب العربي طه حسين أصدق تعبير وتوصيف لإبداع الأديب والكاتب والروائي الألباني الراحل إسماعيل كاداريه (1936-2024) الذي غادرنا منذ قرابة الأسبوعين عن 88 عامًا، حفلت بروائع الأعمال والروايات والقصص التي ترجمت إلى أغلب لغات الدنيا، ووضعت الأدب الألباني، واللغة الألبانية، وأدب البلقان عمومًا في صدارة المشهد الإبداعي العالمي في نصف القرن الأخير، أو يزيد!

ومهما اختلف الرأي واشتد الجدل وحمي وطيس النقاش حول مواقف الكتاب والأدباء السياسية أو الأخلاقية، ومهما كان الاتفاق أو الاختلاف معها أو ضدها، فإن ما يبقى ويظل خالدا هو "الإبداع" والنص الأدبي.

. تلك الرواية أو هذه القصة أو هذه الملحمة.. إلخ.

ومن ذا الذي يستطيع أن يمحو كاداريه من روايات وقصص كاداريه؟! إذا ما قمنا بالقياس والوزن على عبارة طه حسين الآنفة..

ومهما كان الرأي مع أو ضد كاداريه فيما ينظر له البعض على أنه كان يعلن مواقف مؤيدة للديكتاتورية في ألبانيا أو أن له مواقف مناهضة للعرب والفلسطينيين في الصراع العربي الإسرائيلي، فإن ذلك كله سيزول ولا يبقى إلا الفن المعبر عن السؤال الإنساني المؤرق والهم الوجودي والمعرفي الذي برع الروائي الألباني في تصويره وتجسيده في أعماله ورواياته التي حظيت بشهرة عارمة ووافرة في كل اللغات والثقافات ومنها العربية..

بل إن ثمة روايات بعينها نالت من الشهرة بعد ترجمتها إلى العربية ما لم تنلها غيرها.. ومن ينسى أصداء روايته الشهيرة «من أعاد دورونتين؟» أو روايته الأشهر «الحصار» أو بعض قصصه القصيرة التي ترجمت إلى العربية ونشرت بكبريات الدوريات الثقافية العربية (العربي الكويتية على سبيل المثال، والدوحة القطرية، وأخبار الأدب المصرية، وغيرها)

(3)

وعلى الرغم من بداياته الشعرية واتخاذه الشعر نقطة انطلاق لتعبيره الأدبي، فإنه سرعان ما اتخذ "الرواية" طريقًا للمعرفة والتأمل والتفلسف، وسبر أغوار الإنسان ذلك الكائن العجيب والغريب والمجهول!

لقد كان صادقًا وأمينًا وهو يعبر عن رؤيته للكتابة؛ فالكتابة عنده "ليست بالمهنة السعيدة أو التعيسة، هي بين هذا وذاك، هي تقريبًا حياة ثانية، أكتب بسهولة، ولكنني دائم التخوف من أنني قد لا أكون جيدًا، تحتاج إلى مزاج مستقر، أما السعادة والتعاسة فكلتاهما لا تناسبان الأدب؛ لأنك في سعادتك تميل إلى الخفة والتفاهة، وفي تعاستك تتشوش رؤيتك، عليك أن تعيش أولًا، وتجرب الحياة، ثم لاحقًا تكتب عنها"..

(من حوار معه ضمن حوارات باريس ريفيو، ترجمة أحمد شافعي)..

عندما يجابه الكاتب مضطرب المزاج أو الذي يعاني صراعًا وتوترًا غير مسبوق بين قناعاته الذاتية وبين مواءماته التي تكاد تفرض عليه فرضا فإن ذلك يقوده باللزوم وبالضرورة إلى اكتئاب حاد أو اعتلال عام ومزمن..

أقول عندما يترجم هذا الكاتب الذي يعاني ذلك إلى كتابة عظيمة وإنسانية وصادقة، فأنا أعتبره ضمن هذه السبيكة الفذة من الروائيين الكبار الذين قرروا أن يترجموا كل هذه الصراعات والتوترات والاعتلالات إلى أدب رفيع وإلى كتابة لا مثيل لها في رهافتها ومجازيتها وتصويرها وتوسلها بكل أساليب الخيال والجمال والمفارقة الممكنة،

ولذلك، فيما يرى عماد فؤاد فيما كتب عنه، عُدت "الرمزية" و"الغموض" أساسين جوهريين في كتابة إسماعيل كاداريه الروائية بشكلٍ عام، فالمبالغة كانت أداته الأسلوبية الرئيسية، وقد أبدع معظم أعماله وأفضلها في ظل ديكتاتورية أنور خوجة الفجّة، والتي أخرست الجميع، فقد كانت الكتابة في ألبانيا في عهد خوجة -كما هي تحت سلطة أية ديكتاتورية- "لعبة محفوفة بالمخاطر، تشبه السير على حبل مشدود بين نقطتين غير مرئيّتين"، بحسب وصف كاداريه نفسه.

وقد كان كاداريه من هؤلاء الكتاب الذين لا تتوقف كثيرًا أمام مواقفهم المعلنة وتشابكات علاقاتهم بالسلطة في زمنهم بقدر ما تتوقف عند طبيعة مواقفهم الفنية في أعمالهم الإبداعية لأنها هي الأصدق والأبقى والأكثر خلودا من وقائع وأحداث حياتهم التي ستنتهي بنهاية رحلتهم في هذه الحياة.

بهذا المعنى -فيما أتصور- يتقاطع كاداريه ومسارات إبداعه مع الكاتب والروائي اليوناني العظيم نيكوس كازانتزاكيس الذي كتب «المسيح يصلب من جديد» مثلما كتب «زوربا» المدهش العجيب اللعين!

وهو بهذا المعنى يشترك بل يكاد يتفق مع نجيب محفوظ الذي يستحيل أن تطابق بين مواقفه المعلنة تجاه السلطة والسياسة ومجرياتها في بلده وفي العالم العربي والعالم كله، وبين ما عبر عنه في أدبه ورواياته التي حملت أصدق وأهم تعبير فني عن تلك الأحداث والمجريات!

ومثلهم جميعًا (كادارايه وكازانتزاكيس ونجيب محفوظ وصلاح جاهين وغيرهم) وكل الكتاب العظماء الذين ترجموا صراعاتهم المعلنة والداخلية إلى نصوص خوالد..

(4)

قبل كاداريه لم يكن أحد يعلم شيئًا عن "الأدب الألباني" أو "اللغة الألبانية"؛ وليس ثمة خلاف حول أن كاداريه هو الذي نقل الألبان وأدب البلقان عمومًا من دوائر التلقي المحدودة بحدود المتكلمين بهذه اللغة إلى آفاق لا تحد بعد ترجمة روايته الشهيرة «جنرال الجيش الميت» التي ترجمت إلى الفرنسية عام 1970، ثم إلى الإنجليزية، وعنهما إلى لغات عديدة أخرى.

"ألبانيا" في نصوص كاداريه بلاد صغيرة، وشعب عريق، تاريخ مأساوي ونصف عدد السكان خارج الحدود (يوجدون في كوسوفو) شعب طيب بل بالغ الطيبة والمسالمة ونظام فاسد رزح بثقله وكراهة ديكتاتوريته قرابة نصف القرن على قلب هذا الشعب الطيب وهذه البلاد الجميلة، يصفها كاداريه على لسان الإمبراطور الإيطالي الذي كان يزور ألبانيا للمرة الأولى (في قصة قصيرة له نشرت ترجمتها العربية بمجلة "العربي" الكويتية قبل سنوات طويلة)، يقول:

"لقد حدثوه عنها، إنها بلاد ساحرة، جبالها شامخة وأساطيرها عريقة، ورجالها أشداء، فلما شاهدها الإمبراطور أول مرة، تأكد في سره (أن ألبانيا ذات طبيعة ساحرة حقًا)، وارتاحت عيناه وهو يسرح نظره من سيارته المكشوفة في امتداد الجبال في الأفق"...

في دراسته عن المنازلات التي استمرت لسنوات بين إسماعيل كاداريه، وبين الديكتاتور الألباني أنور خوجة، يؤكد الناقد الفرنسي فريديريك كاسوتي على خصوصية ألبانيا في التاريخ الأوروبي المعاصر، فيما ينقله عنه عماد فؤاد، فهي من ناحيةٍ: "بلد غير عادي، ضاعفت عزلته الطويلة عن بقية العالم منذ سقوط الشيوعية من غرابته، وهو بلد حديث إلا أن شعبه أقدم، وصحيح أن المنطقة استقلت عن الدولة العثمانية عام 1913، إلا أنها كانت مستعمرة إيطالية لفترة قصيرة، كما أن ألبانيا دولة بلقانية، وليست لاتينية، وهي علمانية، وإن كان أغلب سكانها من المسلمين، وهي شرقية رغم أن سكانها ينحدرون من أصول أوروبية، ويزعم كثير منهم أنهم ينحدرون من العرق الأتروسكي"!

هنا بالضبط تكمن عظمة الأدب وخلوده وبراعة الكتاب والأدباء والروائيين، هنا سنعرف عن ألبانيا ونراها بعين الخيال أكثر مما نعرفه من الخرائط وكتب التاريخ والجغرافيا! شغف القراء غير العرب وبالتحديد الأوروبيين بقاهرة نجيب محفوظ والقاهرة الفاطمية أكثر مما قرأوا عنها من دراسات وكتب متخصصة! الأمر نفسه في يونان كازانتزاكيس وكريت التي لم يكتب أحد عنها وعن ناسها وطبائعهم وخرافاتهم وأساطيرهم وصراعاتهم مثلما كتب صاحب «الإخوة الأعداء»!

(5)

ينضم كاداريه إلى هؤلاء العظماء برصيد يقترب من 50 رواية (نشرت أعماله الكاملة في طبعتها الفرنسية في سبعة مجلدات).. كتب في العديد من الأنواع الأدبية، واستعمل العديد من الأدوات الكتابية، فكتب الأليجوريا، والملهاة، والأعمال التاريخية، والأسطورية، هربًا من رقابة خوجة القاسية وانتقامه الدموي من المعارضة مهما يكن الشكل الذي تتخذه. وتمثل أعماله تأريخا لتلك العقود الرهيبة برغم أن قصصه غالبًا ما تجري في الماضي السحيق، وفي بلاد غير بلده (من حوارات باريس ريفيو، ترجمة أحمد شافعي)..

سيبقى من كاداريه ما يستحق البقاء، وبالتأكيد سبكون ممثلا في نصوصه وأعماله.

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

أدباء وباحثون: أدب الطفل يبني الهوية ويزرع القيم الإنسانية في الأجيال

أكد عدد من الكتّاب والباحثين في أدب الطفل أن القراءة وأدب الطفل يشكلان أدوات أساسية لبناء شخصية الطفل وتعزيز هويته الثقافية، مشيرين إلى أهمية غرس القيم العربية والإنسانية في سن مبكرة، وإلى دور الأدب في معالجة القضايا الاجتماعية بطريقة تناسب وعي الأطفال، وتشجعهم على التفكير النقدي والانفتاح على التنوع. وشددوا على أهمية تمثيل مختلف الخلفيات والثقافات في كتب الأطفال لتعزيز الشعور بالانتماء والاحترام المتبادل، مؤكدين أن الأدب يسهم في بناء مجتمعات أكثر تماسكاً، ويُعد وسيلة فعّالة لتجاوز الاختلافات الثقافية وتعزيز القيم المشتركة مثل الصداقة والتسامح.

جاء ذلك خلال ندوة حوارية بعنوان "قصص توحدنا"، نظمتها هيئة الشارقة للكتاب ضمن البرنامج الثقافي لمهرجان الشارقة القرائي للطفل 2025، وتحدث فيها كل من: الكاتبة الإماراتية بدرية الشامسي، وروندا روماني، مؤلفة وصحفية أمريكية من أصل سوري، والكاتب المغربي الحسن بنمونة، والباحث والأكاديمي التونسي الدكتور نزار القمري، وأدارتها الإعلامية عائشة المازمي، من إذاعة بلس 95 في الشارقة.

 

خصوصيات ثقافية

بدرية الشامسي، تحدثت عن اختفاء الفروق بين الفئات العمرية في تلقي المعرفة، تماماً كذوبان الحدود الثقافية العالمية في ظل وفرة المعرفة وسرعتها، مؤكدة أهمية توعية الطفل في سن مبكرة لتكون عنده حصانة ثقافية ومعرفية، وتعزيز القيم العربية لأن شخصية الطفل تبنى خلال السنوات الخمس الأولى، مشيرة إلى أهمية الأدب في معالجة كل هذه القضايا الاجتماعية والثقافية، حيث يمكن لأدب الطفل أن يكون أداة قوية لمناقشة القضايا الهامة بطريقة مناسبة للأطفال، مما يشجعهم على التفكير النقدي وتطوير وعي اجتماعي، إضافة إلى تأثير القصص على الهوية والانتماء وتعزيز التراث المحلي أو من ثقافات أخرى.

 

زرع الأمل

بدورها، تحدثت روندا روماني عن كتاباتها وحضور الهوية وقضايا الحرب والسلام، ومحاولتها زرع الأمل من خلال هذه الكتابات في نفوس الأطفال، كما أشارت إلى أهمية تمثيل التنوع والشمولية في أدب الطفل، وضرورة وجود شخصيات وقصص متنوعة تمثل مختلف الخلفيات الثقافية والاجتماعية والقدرات في كتب الأطفال، ما يساعدهم في الشعور بالانتماء والتقدير لذواتهم وللآخرين، مبينة أن أدب الطفل يلعب دوراً رئيساً في الوحدة والتنوع وبناء جيل أكثر انفتاحاً وتقبلاً للآخر. كما تحدثت عن تجربتها الشخصية مع القصص وكيف تؤثر الكتب في حياة الأطفال ونظرتهم للعالم، وكيف يمكن لهم أن يترجموا هذه التجارب في أعمالهم وحياتهم.

 

مشتركات إنسانية

أما الحسن بنمونة فأصَّل لمفهوم الاختلافات الثقافية، خاصة بين الشرق والغرب، مؤكداً ضرورة التركيز على المشتركات الإنسانية التي يقدم الأدب، حيث تتكرر الموضوعات المشتركة منذ فجر التاريخ، مثل الصداقة، والتعاون، والرحمة، والتسامح، والعدالة، ويعيد الكتّاب كتابتها بطرق مختلفة وجديدة، لذلك عليهم إعادة إنتاج هذه القيم التي تمثل البعد الإنساني للأدب والقوة الحقيقية للقصص بأساليب جديدة، وتمكين الأطفال من معرفة اللغة وتذوق الأدب، لافتاً إلى أن مهمة الكاتب ليست بناء المجتمع فقط، بقدرما هي صناعة الأدب وتكييف كل الموضوعات لجعلها متلائمة مع البيئة الثقافية وبناء مجتمعات أكثر تماسكاً ووحدة، إضافة إلى استكشاف قوة القصص في جمع الناس وتجاوز الاختلافات.

 

أدوار علمية

من ناحيته، قال الدكتور نزار القمري: "تلعب القراءة دورًا علميًا مهمًا لا يمكن تجاهله؛ فالقصة يمكن قراءتها في أي زمان ومكان، وتُسهم في تنمية اللغة وتوسيع الخيال. كما أن تأثير القراءة على الطفل كبير، فهي تحفزه على التفكير وتساعده على تكوين صور ذهنية تعزز قدراته الإدراكية". كما أشار إلى دور القصص في بناء الجسور الثقافية وتعريف الأطفال بثقافات وعادات وتقاليد مختلفة، مما يعزز التفاهم والاحترام المتبادل بينهم وبين أقرانهم من خلفيات متنوعة، وكسر الصور النمطية وتعزيز التعاطف مع الآخر.

وتندرج هذه الجلسة ضمن ندوات مهرجان الشارقة القرائي للطفل، والذي يضم إضافة للجلسات مجموعة واسعة من الإصدارات الجديدة المخصصة للأطفال واليافعين إلى جانب برنامج حافل بالفعاليات التفاعلية والعروض والأنشطة التثقيفية والترفيهية التي تستمر على مدار 12 يوماً.

مقالات مشابهة

  • المجد للبندقية التي حرست المواطن ليعود الى بيته الذي كانت قحت تبرر للجنجويد احتلاله
  • فتيان بن علي الشاغوري الأسدي.. شاعر برع في وصف دمشق
  • نكهة اللبان
  • الماضي الذي يأسرنا والبحار التي فرقتنا تجربة مُزنة المسافر السينمائية
  • الترجمة مدخل لفهم العالم العربي ونصرة فلسطين.. ميشيل هارتمان: الأدب المكان الذي يمكننا أن نجد فيه المزيد من التقارب
  • الدكتور إسماعيل كمال يتفقد أعمال الصيانه بمحور وكوبرى بديل خزان أسوان
  • مقارنة صادمة.. إسماعيل الشتيوي يكشف فارق التمثيل الدبلوماسي بين ليبيا ومصر
  • الأدب مع الذكاء الاصطناعي.. تكلفة خفية لم تكن في الحسبان
  • "اسمه الأسمر".. رواية جديدة تفتح أفقاً جديداً في الأدب العُماني
  • أدباء وباحثون: أدب الطفل يبني الهوية ويزرع القيم الإنسانية في الأجيال