الطاقم الطبي والتعاطف مع المريض
تاريخ النشر: 13th, July 2024 GMT
مما يُلفت النظر في أمسية تدشين كتاب «كلنا مريم» لمحمد المرجبي مساء الثلاثاء الماضي، الحضور الكثيف لأطباء وممرضين وأطقم صحية في أمسية يتوقع المرء لأول وهلة عندما يعلم أنها مقامة في النادي الثقافي، أن حضورها سيقتصر على الكُتّاب والأدباء فقط. بل إن هذا الحضور «الطبّي» إن جاز التعبير - تعزّز أكثر بحضور معالي الدكتور هلال السبتي وزير الصحة الذي جاء إلى النادي قارئًا الكتاب وألقى مداخلة عنه في ختام الأمسية.
والحق أن واحدة من ميزات «كلنا مريم»- عدا قصته الإنسانية المؤثرة حول معاناة الفتاة مريم سنواتٍ مع المرض، والجانب الأدبي الرائق في عدد غير قليل من صفحاته- أنه يصلح أيضًا للنظر إليه على أنه دراسة غير مقصودة عن تعامل الكادر الطبي مع المريض وأهله القائمين عليه، ذلك أن الكتاب يطوف بنا خلال صفحاته التي تجاوزت الخمسمائة، عبر مستشفيات ومراكز صحية عديدة في عُمان والهند وتايلاند والبحرين، ويشرح بأدق التفاصيل كيف كان تعامل الأطقم الصحية في هذه المستشفيات والمراكز الصحية مع مريم وأهلها. يقول المرجبي في أحد مواضع الكتاب واصفًا العاملين في المستشفى: «نشعر أن قلوب العاملين هنا تختلف عنّا في صلابتها وتحمُّلها. مؤكد أنهم مثلنا يتألمون ويشعرون بالآخرين، ولكنها طبيعة عملهم، ولا بُدَّ أنهم قد دُرِّبوا على هذه الظروف والبيئات. نلاحظ أيضًا الفروق الإنسانية بين العاملين، ونتمسك كثيرًا بمن نشعر أنهم يحسّون بنا أكثر من غيرهم».
هذه العبارة الأخيرة «نتمسك كثيرًا بمن نشعر أنهم يحسّون بنا أكثر من غيرهم» هي بيت القصيد ومربط الفرس، وتُحيلنا إلى تعليق معالي وزير الصحة في مداخلته التي سبقت الإشارة إليها، فقد قال معاليه: إن «هذا الكتاب فيه الكثير من الدروس التي يجب على العاملين الصحيين الانتباه لها والنظر إليها، وهي النظرة إلى المريض وعائلته»، مضيفًا أن «على العامل الصحي سواء كان طبيبًا أو ممرضًا أو فنيًّا أن ينظر إلى الحالة المرضية من منظور مختلف؛ منظور المريض، وليس منظور الطبيب فقط أو العاملين الصحيين»، سابقًا دَعْوتَه هذه بتذكيرنا من واقع خبرته طبيبًا بما يمكن تسميته «الاعتياد أو الألفة» من قبل العاملين في القطاع الصحي لمشاهد المرض والموت بشكل يوميّ، مما يجعلهم يتعاملون مع المرضى أو عائلاتهم بطريقة قد تبدو لهؤلاء خالية من العاطفة، وإن لم تكن كذلك.
هذا الحديث عن العاطفة يقودني إلى رأي طبيب عُماني آخر بعد أن قرأ «كلنا مريم»، يقول: «هناك أمور كثيرة لا تركز عليها الطواقم الطبية بالدرجة المطلوبة للأسف الشديد، ألا وهي مشاعر ومخاوف وأحاسيس المريض وأقاربه، وبالذات والديه»، ويضيف: «عندما ندرّس طلبتنا في كلية الطب نركّز على ما يُسمّى empathy وهو التعاطف، أو «التقمص العاطفي» أي القدرة على فهم مشاعر المرضى وأهلهم، ووضع نفسك مكانهم، لكنَّ هناك جانبًا آخر لا يكون التركيز عليه بالدرجة ذاتها للأسف وهو ما يسمى sympathy أي الشفقة والتعاطف بدون ضرورة الشعور بالمشاعر نفسها التي يمر بها المريض أو عائلته».
في الكتاب يمتدح المرجبي طبيبًا عُمانيًّا لأنه «دمث الأخلاق، يتعامل مع مرضاه بشكل إنسانيٍّ عالٍ»، ويُشيد بممرضة تايلاندية يقول: إنه وأفراد عائلته يأنسُون إليها «لإنسانيتها الواضحة» معهم، ويُبدي امتنانه لممرضة أخرى هندية حضرت إلى المستشفى صباحًا رغم أن مناوبتها ليلية، لا لشيء إلا لتُهدي مريم هدية في عيد ميلادها، لأنها علمتْ أنه سيُحتَفل به في المستشفى ذلك الصباح. في المقابل فإن ممرضة أخرى في مستشفى آخر ودولة أخرى رفضت الحضور إلى المستشفى في غير وقت مناوبتها، وأدى ذلك إلى أن تلغي الطبيبة المناوِبة رخصة الخروج التي قررها الأطباء لمريم، ببرود مستفزّ، متجاهلة فرحة الفتاة التي قضت ثلاثة أشهر في ذلك المستشفى، منها شهران في العناية المركزة. لا أظن قارئًا للكتاب لن يشعر بالامتعاض والغضب الشديد من تلك الطبيبة وممرضتها.
يُخبِرنا المرجبي أيضًا أنه أطلق وأفراد عائلته على طبيب هندي لقب «الدكتور البغيض» رغم أنه «يؤدي عمله بضمير» كما يقول، والسبب أن كل من تناوبوا من أفراد العائلة في الإقامة مع مريم في المستشفى «أجمعوا أنه مغرور وجافّ حتى في تعامله مع طاقم الممرضات»، كما لم يخفِ امتعاضه من طبيب عُماني شاب، يبدو أنه قليل الخبرة، ألقى في وجه المرجبي وعائلته بــ«قنبلتين» في وقتٍ كانوا فيه أحوج ما يكون إلى بصيص أمل، أو مصباح صغير يضيء لهم نفق الحزن والقلق على مريم، سأكتفي لضيق المساحة بذكر واحدة من هاتين القنبلتين: «القنبلة الأخرى التي لم أتوقعها منه وبدون أي تحفظ أو مراعاة أني أبوها أن يقول لي بالحرف: «غالبًا بتتوفّى»، بل وقال لعلي شقيق مريم : «يبدو أنها مسألة ساعات فقط!!!».
من هنا أفهم فقرة مهمة في الكتاب توضّح كيف ينظر المريض وأهله للقائمين على علاجه، يقول المرجبي فيها: «عظماء هم أولئك الأطباء والأطقم الطبية الذين تنبض قلوبهم بمشاعر الإنسانية، وتجري في عروقهم دماء الوطنية، وتمتد عيونهم قبل أياديهم ليمسحوا على رأس المريض، ويشدّوا على يد أهله، ويعوا أن الشفاء بيد الله الذي جعلهم أسبابًا جميلة وأرواحًا نقية، تزرع فينا الأمل والتفاؤل. وتعسًا لأولئك الذين لا يجدون في المهنة إلا جسرًا لأجندات شخصية ومكانة اجتماعية ومتاجرة بأوجاع المرضى».
يَختصِر هذا كله في عبارةٍ موحية الطبيبُ الكندي وليام أوسلر، أحد أبرز رموز الطب في العصر الحديث بعبارته الشهيرة: «إنه أمر أكثر أهمية أن نعرف أي نوع من الأشخاص الذي يعاني من المرض، بدلًا من أن نعرف أي نوع من المرض يعاني منه الشخص».
سليمان المعمري كاتب وروائي عماني
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
مجلس الوزراء يوافق على مشروع قانون تنظيم المسؤولية الطبية وحماية المريض
وافق مجلس الوزراء في اجتماعه اليوم برئاسة الدكتور مصطفى مدبولي على مشروع قانون بإصدار قانون تنظيم المسؤولية الطبية وحماية المريض، حيث كان مشروع هذا القانون أحد مطالب الحوار الوطني.
ويستهدف مشروع القانون تحقيق عدة اعتبارات، منها التأكيد على الحقوق الأساسية لمتلقي الخدمة الطبية أيا كان نوعها، والارتقاء بتنظيم هذه الحقوق، مع توحيد الإطار الحاكم للمسؤولية المدنية والجنائية التي يخضع لها مزاولو المهن الطبية في صعيد واحد.
كما يستهدف مشروع القانون إنشاء لجنة عليا تتبع رئيس مجلس الوزراء تسمى "اللجنة العليا للمسؤولية الطبية وحماية المريض"، تتولى إدارة المنظومة في الدولة من خلال آليات محددة قد يتم التوسع فيها مستقبلا بعد تقييم التجربة وقياس نتائجها، ويتيح مشروع القانون كفالة نظام للتأمين الإلزامي للمنشآت الطبية ومقدمي الخدمة من مزاولي المهن الطبية من خلال إنشاء صندوق تأمين حكومي يتولى المساهمة في التعويضات المستحقة عن الأخطاء الطبية، وكذلك إتاحة إمكانية قيام الصندوق بالمساهمة في تغطية الأضرار الأخرى التي قد تنشأ أثناء وبسبب تقديم الخدمة الطبية ولا صلة لها بالأخطاء الطبية.
ويأتي مشروع القانون في ثلاث مواد إصدار بخلاف مادة النشر، التي نصت على أن يُنشر هذا القانون في الجريدة الرسمية، ويُعمل به من اليوم التالي لانقضاء ستة أشهر من تاريخ النشر، كما يأتي مشروع القانون في ثلاثين مادة موضوعية مقسمة إلى خمسة فصول، منها ما يتعلق بالتزامات مقدم الخدمة والمنشأة، والتعويض عن الأضرار الناجمة عن الأخطاء الطبية، وغيرها من مواد العقوبات لمن يخالف احكام هذا القانون.
وبين مشروع القانون ما يتعين على مقدم الخدمة الالتزام به، والأمور التي يحظر عليه الاتيان بها، كما سرد الحالات التي تنتفي فيها المسئولية الطبية