قراءة في كتاب: أطروحات ما بعد التنمية الاقتصادية: التنمية حريّة – محمود محمد طه وأمارتيا كومار سن (مقاربة)، (6- 15)
تاريخ النشر: 13th, July 2024 GMT
قراءة في كتاب: أطروحات ما بعد التنمية الاقتصادية: التنمية حريّة - محمود محمد طه وأمارتيا كومار سن (مقاربة)، (6- 15)
تأليف عبد الله الفكي البشير- الناشر ط1: مركز أسبلتا للاستنارة والنشر، أيوا، الولايات المتحدة، الموزع: دار الأجنحة للنشر والتوزيع، الخرطوم.. ناشر الطبعة الثانية: دار بدوي للنشر، كونستانس، ألمانيا، 2022
بقلم بدر موسى
ماجستير برامج دعم التنمية في دول العالم الثالث (2000)، جامعة أيوا، الولايات المتحدة
يدرس حالياً في ماجستير التدريس والتعليم، جامعة أيوا، الولايات المتحدة
bederelddin@yahoo.
لقاء العقول الكبيرة
تحت العنوان أعلاه يقول عبدالله إن العقول الكبيرة، المشغولة بالإنسان وكرامته، والساعية في سبيل إقامة السلام، وأنسنة الحياة وتعميرها، تلتقي في أطروحاتها أو بعضها، حتى ولو اختلفت المنطلقات والمناهج والمرجعيات الثقافية والفكرية. وأضاف، قائلاً: إن اللقاء بين العقول الكبيرة هو الوضع الطبيعي، طالما ظلت الإنسانية هي هويتها ومرجعيتها وغايتها، ويكون من غير الطبيعي ألا تلتقي. ولكن ليس شرطاً أن يكون الاتفاق التام. فلقد التقى طه وسن في رؤيتهما تجاه التنمية، مع اختلاف المناهج والمرجعية الثقافية والفكرية، وفي ظل اتفاق على الغاية، وهي الإنسان وكرامته. ومثل هذا اللقاء، في تقديري، يجب أن يكون موضعاً للشراكة في الاحتفاء والاهتمام. كون اللقاء بين العقول الكبيرة في ساحة الإنسانية، يُرفع من مستوى الحوار، ويُخصّب الحياة، ويثري التراث الإنساني، من خلال اتاحته لفرص التعارف بين العقول، والتلاقح بين الثقافات، والتصاهل بين الأفكار والأطروحات، إلى جانب أنه يُهيئ للناس أن يجتمعوا على الأصول الإنسانية، فضلاً عن تنمية الوعي بوحدة المصير المشترك.
ويذكر عبدالله، قائلاً: هنا لابد من الإشارة إلى الدعوة النبيلة التي قدمها سن للتداول الصريح حول كتابه. ففي مقدمة كتابته أكد على أهمية دور المناقشات العامة كونها أداة التغيير الاجتماعي والتقدم الاقتصادي، وأوضح، قائلاً: واتساقاً مع هذه النظرة، فإنني "أقدم كتابي هذا أساساً للتداول الصريح في الرأي وللدراسة النقدية الفاحصة". وعن شعوره إذا ما أثارت دراسته هذه أي اهتمام، وأفضت إلى المزيد من النقاش العام، أعرب، قائلاً: "فإنني هنا يكون لي كل الحق بأن أشعر بأنني كوفئت بخير الجزاء". ولهذا فإن هذه المقاربة تجيء استجابة لدعوة سن هذه، على الرغم من اختلاف المنطلقات والمناهج والمرجعيات بين سن، الذي يتقفى أثر العلم المادي التجريبي، وطه الذي يقدم الفهم الجديد للإسلام.
الفهم الجديد للإسلام: مستوى ما بعد العقيدة حيث يبدأ العلم
إنطلق سن، كما يقول عبدالله تحت العنوان أعلاه، في رؤيته تجاه التنمية من تخصصه العلمي وخبرته الطويلة التي تمتد لأكثر من ستة عقود، في مجال الاقتصاد والتنمية والفلسفة، والعمل في المؤسسات الدولية، مستخدماً المناهج العلمية الحديثة، بينما أنطلق طه في رؤيته من مرجعية الفهم الجديد للإسلام، الذي طرحه عام 1951، وهي القرآن في مستوى آيات الأصول (الآيات المكية)، وقد وسمه بـ الرسالة الثانية من الإسلام. وأوضح عبدالله بإن الفهم الجديد للإسلام يقوم، كما بيَّن طه، على ما بعد العقيدة، حيث يبدأ العلم، بينما يقوم الفهم السائد للإسلام، على مستوى العقيدة. وفي هذا أورد عبدالله حديث الأستاذ محمود، حيث كتب، قائلاً: يقول الأستاذ محمود: "حين كانت معجزة الرسالة الأولى من الإسلام هي بلاغة القرآن، فإن معجزة الرسالة الثانية من الإسلام هي (علمية) القرآن". وأوضح عبدالله، قائلاً: إن ما خرجنا به في هذا الكتاب يؤكد ويثبت علمية طرح الرسالة الثانية من الإسلام تجاه التنمية، إذ جاء الطرح متوافقاً مع آخر أطروحات الفكر التنموي في العالم، بل زاد عليه. فقلد كانت التنمية موضوعاً مركزياً في مشروع طه، وقد تناولها في العديد من كتبه، منها: قل هذه سبيلي (1952)، وأسس دستور السودان لقيام حكومة جمهورية فدرالية ديمقراطية اشتراكية (1955)، والإسلام (1960)، ورسالة الصلاة (1966)، والرسالة الثانية من الإسلام (1967)، وتطوير شريعة الأحوال الشخصية (1971)، والثورة الثقافية (1972)، وتعلموا كيف تصلون (1972)، والدين والتنمية الاجتماعية، (1974)، وغيرها، إلى جانب أحاديثه ومحاضراته، فضلاً عن العديد من المقالات التي نُشرت في الدوريات (الصحف والمجلات) خلال عقدي الخمسينات والستينات من القرن الماضي. يُذكر أن آخر مقال نشره طه كان في مجلة صوت المرأة، يناير 1969، وتناول فيه موضوع المرأة في حلقتين.
"الحرية هي روح الحياة.. فحياة بلا حرية إنما هي جسد بلا روح"
يقول عبدالله إن الشرط المركزي لنجاح عملية التنمية، عند الأستاذ محمود، هو الحرية. كون الحرية، عنده، هي روح الحياة، فحياة بلا حرية، كما يقول، إنما هي جسد بلا روح، كما أن الحرية هي الفيصل بين حياة الحيوان، وحياة الإنسان. ويرى بأن هدف التنمية هو تحرير الإنسان ونهضة المجتمع، وغايتها الإنسان. وأي تنمية بدون إعطاء العناية بالفرد وكرامته واحترام خياراته وضمان مشاركته بفعالية، مكان الصدارة، منخذلة، ومنهزمة، لأن الفرد هو الثروة الحقيقية. فالأصل، عنده، الفردية، ولكي ما يحقق كل فرد فرديته لا بد من الحرية. كما أن الحرية الفردية تتطلب الحرية من الخوف الموروث، وهو ما لم يرد عند سن، والمترسب في أغوار النفس بسبب البيئة الطبيعية. وتقوم على الحرية من الخوف، كما يرى طه، حريتان اثنتان هما: الحرية من الفقر، والحرية من الجهل. والخوف، من حيث، هـو، كما يرى طه، هو الأب الشرعي لكل آفات الأخلاق ومعايب السلوك، فهو رأس كل الرذائل، وسبب الفتك، والعنف، عند القوي، وهو سبب الخديعة، والغش، عند الضعيف. ولا سبيل إلى التحرير من الخوف، كما يقول، إلا بالعلم. فالخوف، عنده، جهل والجهل لا يحارب إلا بالعلم. العلم بحقيقة البيئة الطبيعية التي عاش، ويعيش فيها، والتي عن الجهل بها، نشأ الخوف في صدور الرجال والنساء، أول الأمر. ولا يكون التحرير من الخوف إلا بالعلم الذي يقود إلى اكتمال التـواؤم بين البيئـة الطبيعية، وبيـن الحيـاة البشرية.
إن تحرير الفرد من جميع صور الخوف الموروث، عبر العلم بدقائق حقيقة البيئة الطبيعية، يحقق للفرد الاتساق والتواؤم والتكيف مع البيئة، فينتفي الجهل. كما يستطيع أن يعيش في سلام من العداوات، والمجاعات والكوارث البيئية. ولذلك وجب، كما يرى طه، الاهتمام بإعطاء الفرد صورة كاملة، وصحيحة، عن علاقته بالمجتمع والكون. إن العلاقة بين الإنسان والكون، كما يقول طه، ظلت مادة التعليم والتعلم، من لدن فجر الحياة البشرية وإلى يوم الناس هذا. ولا ينفصل التعليم وفائدته ووظيفته عن البيئة وعناصرها. فالتعليم هو تمليك الحي للقدرة، وتَكمُن فائدته، كما يرى، في مقدرة المتعلم أن يوائم بين نفسه وبين بيئته، كما أن وظيفة التعليم هي أن يأخذ المتعلم صورة كاملة وصحيحة عن البيئة التي يعيش فيها. ولكن من هو المعلم عند طه؟ هو المعلم الواحد، الله، الله هو المعلم الأصلي، بينما المعلـم المباشر هو العناصر المتعددة في البيئة. والمادة التي يعلمها المعلم الواحد، الله، عند طه، هـي المقدرة على التواؤم بين الحي وبيئته. ويرى طه بأن كل عناصر البيئة حية، ولكنها حياة فوق إدراك العقول، ولا تصبح حيـاة في إدراك العقول حتى تخرج، من المادة غـير العضوية، المادة العضوية، وهـي ما تسمي، اصطلاحـاً، بالحياة. ولهذا فهو يقول: “الحياة أصدق من العلم".
نواصل في الحلقة القادمة.
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الحریة من کما یقول من الخوف کما یرى ما بعد
إقرأ أيضاً:
اقتلاع الكيزان: الوهم والحقيقة
بقلم: الريح عبد القادر
(1 من 2)
من أخطر ما يعيشه "المستنيرون" السودانيون في فترة هذه الحرب وهمُ اقتلاع الكيزان. ومن المخيف أن الغالبية العظمى منهم يتوهمون أن اقتلاع الكيزان سيكون تحصيلَ حاصل، وضربةَ لازب؛ فتراهم جالسين لا يفعلون شيئاً، في انتظار أن تهوي شجرة الكيزان إلى الأرض من تلقاء نفسها. وسببُ هذا الوهم ما اشتهر بينهم من نبوءة محمود محمد طه عن اقتلاع الكيزان. الكل يحفظ عن ظهر قلب "وسوف يقتلعون من أرض السودان اقتلاعاً". وهكذا نجد المستنيرين (المرادف العصري للمثقفين) وقد تحولوا إلى الإيمان بفتح المندل، وضرب الرمل، ورمي الودع، في نوع من العطالة الثقافية، والتواكل الثوري، مما لا يليق بدعاة التغيير.
لقد نسيَ هؤلاء، من فرط استهانتهم بعدوهم، حقيقة أنّ الكوزنة فكرة، وإنْ كانت خاطئة. والأفكار تُحاربُ بالأفكار؛ والفكرة الخطأ لا تموت إلا بالتوعية والتنوير. فمن بين جميع الذين يكتبون عن خطل التجربة الكيزانية وفشلها، قلما تجد من يتصدى لتفنيد "المبادئ المؤسِّسة للفكر الكيزاني". وبدون بيان خطل هذه المبادئ، ونسف حججها ودعاواها، سيظل الكيزان عقبة كأداء تعترض طريق بناء دولة الحرية والسلام والعدالة في السودان. بيد أنّ الخبر الجيد أنّ المبادئ التي يقوم عليها الفكر الكيزاني أوهى من بيت العنكبوت. لكن معظم الذين يهاجمون الكيزان إنما يهاجمون ممارستهم، ويتركون منبع فكرهم، ولا يعدم الكيزان أن يجدوا المبررات للدفاع عن فشل تجربتهم، والاستماتة في إحيائها ومواصلتها.
وأعتقد أن ما يعرف بنبوءة محمود محمد طه قد لعبت دوراً سلبياً في تخدير "المستنيرين" وإيهامهم بأن اقتلاع الكيزان قادم مثل فلق الفجر. ولو عُنِي هؤلاء بتحليل نبوءة محمود لتبيّنوا عوارها بأدنى جهد. يقول محمود محمد طه "إن من الأفضل للشعب السوداني أن يمر بتجربة حكم جماعة الهوس الديني". ونعلم الآن جيداً أن تجربة حكم جماعة الهوس الديني هي أسوأ ما مرّ به السودان. ويضيف محمود "وسوف تكون تجربة مفيدة للغاية"، ونعلم الآن أن هذه التجربة قد أذاقت الشعب الأمرين، وأدخلت البلاد في فتنة أحالات نهارها إلى ليل، فما هي التجربة "المفيدة للغاية" التي جناها الشعب السوداني من التشريد والاغتصاب والموت والدمار؟
إن دور قادة الفكر والرأي والسياسة والكياسة ليس في أن يتركوا شعوبهم تقع في دوامة الحروب والفتن، وترك النساء والفتيات يتعرضن للاغتصاب والتشريد، وترك الشباب يموتون موت الضأن في معارك عبثية، وترك الممتلكات عرضة للنهب والتدمير، بحجة أن يتعلم الشعب من هذه التجربة المدمرة. بل إنّ دور القادة الحقيقيين هو تجنيب شعوبهم كل هذه المآسي بسداد الرأي، والحكمة، وحسن التدبير. ويمضي محمود في "نبوءته" قائلاً إن حرب الكيزان "سوف تنتهي فيما بينهم". نعم، سوف تنتهي فيما بينهم، لكن إذا انهزم الشعبي، فسينتصر الوطني، أو إذا انهزم أحمد فسيظفر حاج أحمد. لكنهم لن يُقتلعوا من أرض السودان اقتلاعاً إلا بجهد ثوري مصحوب بجهد فكري لا يقلّ ضراوةً ومثابرة.
وفي هذا الصدد، لا يذكر الكثيرون أن المرحوم محمد أحمد محجوب سبقَ محمود محمد طه بعشر سنوات في توقع ما يحدث للسودان بسبب الكيزان. قال المحجوب مخاطباً الترابي عام 1967م: "إنني لا أخاف على السودان من تبسمك ولا من أحلامك، تبسم كما يحلو لك، واحلم كما تشاء من أحلام؛ ولكنني أخاف على السودان أن تعتلي السلطة فيه يوماً ما أو أحد اتباعك، وبذلك سوف يفقد السودانُ كلمته، والمواطنُ أسباب عيشه، ولا يجد لقمة العيش الكريمة، وسوف يكون مبغضاً من أقرب الأقربين إليه".
لم يرسم المحجوب خارطة طريق للنجاة من حكم الكيزان. لكنه على الأقل كان أكثر شفقةً وخوفاً على الشعب السوداني، وحذرنا من أننا لن نجد لقمة العيش الكريم في سوداننا، بسبب حكم الكيزان وحربهم، فنضطر إلى اللجوء إلى أقرب جيراننا فيوصدون دوننا الأبواب.
إنّ توقع نهاية الظالمين ليس دليل عبقرية، فهو مما هو مشاهد في التاريخ، ومما هو معلوم في سنن الله في خلقه. ولكن نهاية الظالم لا تعني نهاية الظلم. فقد يخلف الظالم من هو أشد ظلماً منه. ولذلك لا بد من خلق البيئة التي لا يمكن أن يترعرع فيها الظلم أو ينمو. وفي حالة الكيزان، علينا أن نعترف أن فكرهم يعشعش في رؤوس عضويتهم. وقطع الرأس وترك الجذور ليس من الحكمة في شيء. بل علينا أن نعترف أيضاً أن 30 سنة من حكم الكيزان قد جعلت الكثير من الناس كيزاناً بفهمهم وسلوكهم وإن لم ينتموا تنظيمياً للكيزان.
في الحلقة الثانية من هذا المقال سنتناول كيفية التصدي لفكر الكيزان من جذوره. وسنعتمد مقاربةً تقوم على تفكيك هذا الفكر، وإزالة الرغام والركام الكثيف الذي يغلفه، لكي ننفذ إلى جوهره. إنّ جوهر الفكر الكيزاني هو طلب السلطة، والتناجي للوصول إليها من دون بقية المواطنين، والعمل على المحافظة عليها بكل الوسائل. وطلب السلطة في الإسلام منكر عظيم. لا يشفع فيه وضع الغايات النبيلة، مثل إقامة الدين وتطبيق الشريعة وخلاف ذلك. وهو ما سنستعرضه في الجزء القادم بحول الله تعالى.
alrayyah@hotmail.com