للمتنبي فكرته الخاصة عن الزمن فزمنه زمن مستحيل، ونتلمس هذا المعنى في قوله: 
أُريدُ مِن زَمَني ذا أَن يُبَلِّغَني/ ما لَيسَ يَبلُغُهُ مِن نَفسِهِ الزَمَنُ
وهذا بيت جاء بين بيتين قبله وبعده، وكأنما البيت هذا محبوس بينهما يحاصرانه ويقمعانه، أو كأنه جاء ليفجر الدلالة كقنبلة تنسف المعاني. على أن البيتين يصفان حال المتنبي الواقعية، وهي حال ليست سويةً ولا تتسق مع شروط المعاش المتطلب لأي كائن حي، وحسب تشخيصه لوضعه يقول:
بِمَ التَعَلُّلُ لا أَهلٌ وَلا وَطَنُ/ وَلا نَديمٌ وَلا كَأسٌ وَلا سَكَنُ
أُريدُ مِن زَمَني ذا أَن يُبَلِّغَني/ ما لَيسَ يَبلُغُهُ مِن نَفسِهِ الزَمَنُ
لا تَلقَ دَهرَكَ إِلّا غَيرَ مُكتَرِثٍ/ مادامَ يَصحَبُ فيهِ روحَكَ البَدَنُ
ولنبدأ من البيت الأخير حيث يطرح فكرة اللامبالاة، ولكن هذه اللامبالاة تأتي بعد أن عجز عن تحقيق لحظته الزمنية التي كان يتوق لها، وهنا نلحظ التناقض الفلسفي داخل حال المتنبي مع نفسه ومع زمنه، فالبيت الأول يطرح سؤالاً إنكاريا (بم التعلل لا أهل ولا وطن، ولا نديم ولا كأسٌ ولا سكنُ) وهي حال تعود لواقع بئيس يصف فيه أبو الطيب غربته حيث لا أهل ولا وطن ولا نديم، ومن فقد هذه مجتمعةً فماذا يبقى له، ولكن لماذا وقع هذا وما الذي ورط المتنبي بهذه الحياة القلقة وغير السوية حسب معايير الحياة السوية عقلاً ووجداناً، وكشرط لوجود إيجابي متوازن، فمن فقد الأهل وفقد الوطن وفقد الرفيق (النديم) أي الرفيق الصفي الحفي، ماذا سيبقى له في الحياة غير أن يكون على (قلق كأن الريح تحته)، أما سبب هذا القلق فلأن المتنبي ابتغى من زمنه أن يُبلغه ما ليس يبلغه من نفسه الزمن، أي أنه يريد من الزمن أن يغير طبعه ومجراه لكي يتسق مع مراد المتنبي، فإن لم يتحقق ذلك فإن المتنبي سيقرر أن يأخذ اللامبالاة بأن يرفض الشرط الزمني ذلك الشرط الذي عرفه البهاء زهير حين قال:
ومن خلقي أني ألوفٌ وأنه/ يطول التفاتي للذين أفارقُ
وهذا هو الإنسان الألوف مقابل الإنسان القلق، فالبهاء زهير جعل المكان والرفيق معاً قيماً لا يفرط بهما وإن فارقهما فسيظلان داخل الأغلفة والرابط الروحي في حين اختار المتنبي المفارقة، وإن كانت الذاكرة الثقافية تدفع بالظن على أن البهاء زهير بمثابة المتنبي الثاني، لكن الفارق بينهما واسعٌ جداً، ولكن ما الذي دفع المتنبي لهذا الشقاء الذي قرره على نفسه واتخذه سيرةً له.

 
للمتنبي رهان على الزمن بصيغته الأبدية (الدهر) وليست الراهنة، وفي ذلك يقول (إذا قلت شعراً أصبح الدهر منشداً)، وهذا زمن لا ينقطع ولا تحده سنون العمر المحددة بتعداد بين بداية معروفة ونهاية مكتوبة، ورهان آخر مع المكان (سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا/ بأنني خير من سارت به قدم)، وهذه معرفة يمنحها المكان له حين نكرها عليه البشر، وهنا يحيل للمكان وللزمان بوصفهما طوع خياله وطوع مناه، ولكنه يظل يكتشف أن زمنه يعانده ويعاند مبتغاه مما أوصله لنهاية مشوار حياته في خراسان حيث يواجه واقعه المر في وقت وجيز قبل مواجهة لحظة موته الذي أعقب اكتشافه لغربته المطلقة (غريب الوجه واليد واللسان)، وهذه غربة كلية ومطلقة لم تك في خراسان فحسب بل إن حياته كلها تشير إلى هذه الغربة، وهو الذي ابتغى هذه الغربة ليتقلب معها في أحوال تتبادل الأدوار فهو القلق بها والحفي بها، وفي الوقت ذاته غير مبالٍ بها. وهذه حالة قلق روحي بين روحٍ متطلبة وراغبة وروح رافضة ومتعالية على المكان وعلى الزمان، وهنا نرى المتنبي الذي لا يريد أن يكون مجرد رقم يمر على الحياة، ولكنه يريد زمناً غير زمنه ومكاناً غير مكانه، وكلما ألف موقعاً غادره زاهداً فيه لأنه يرى أن مكانه الدهر الذي سيظل يروي أشعاره ويفتح أبواب الخصام حول شخصه بين البشر، وحول شعره المتمرد على التوافق وعلى الراحة، ولذا ظلت ثقافتنا تقف على المتنبي بين حكمته التي نرتضيها ونتطلبها ونرددها في استشهاداتنا ومحفوظاتنا، ونسقيته التي نغض الطرف عنها، فكأن المتنبي يجمع بين عقل نرتضيه عبر الحكمة ووجدان نعيشه عبر العجب بالذات تلك التي ينوب عنا المتنبي في الحديث عنها في حين نستحي نحن من الجهر بها.

أخبار ذات صلة د. عبدالله الغذامي يكتب: الصوت الأعلى بوصفه خدعةً ثقافية د. عبدالله الغذامي يكتب: نوم العقل يوقظ الوحوش

المصدر: صحيفة الاتحاد

كلمات دلالية: الغذامي أبو الطيب المتنبي المتنبي عبدالله الغذامي

إقرأ أيضاً:

تحت شعار “من أحب الحياة عاش ذليلا”.. فعالية للأراضي والجمارك والصناعة بذمار بذكرى استشهاد الإمام زيد

يمانيون/ ذمار

نظمت مكاتب هيئة الأراضي والمساحة والتخطيط العمراني، والجمارك والصناعة بمحافظة ذمار اليوم، فعالية خطابية بذكرى استشهاد الإمام زيد عليه السلام تحت شعار “من أحب الحياة عاش ذليلا”.
وخلال الفعالية، بحضور وكيل محافظة ذمار محمد عبدالرزاق، استعرض مدير فرع الأراضي والمساحة، عبدالغني الديلمي، جوانب من سيرة الإمام زيد عليه السلام، والدروس المستقاة من ثورته والأهداف، والمضامين لرسالته في مواجهة الظلم والجبروت.
وأشار إلى أن ثورة الإمام زيد بن علي – عليهما السلام – جاءت بعد استقراء الواقع الذي تعيشه الأمة وحجم المؤامرات التي تحاك ضدها.. لافتا إلى أن تحرك الامام زيد يعد مشروع علمي ثقافي تنويري نهضوي اعتمد على البصيرة للقناعة التامة.
وبين أن شخصية الإمام زيد تميزت وتفردت في مقارعة الظلم واشتهر بالمناصحة للمسلمين، والفصاحة والبلاغة والحكمة والأناة والغلبة في الحوار بالحجة والدليل واستقامة الفهم.. مؤكدا أن حالة الأمة اليوم تضع الجميع أمام مسؤولية في مواجهة طاغوت العصر أمريكا وإسرائيل.
وتطرق الديلمي إلى أن المشروع الجهادي الذي يقوده قائد الثورة السيد عبد الملك بن بدر الدين ضد قوى الشر والاستكبار العالمي هو الضمانة الحقيقية للاستقلال والحرية والكرامة.
فيما أشار مدير مكتب الصناعة صادق الجبر، إلى أن الإمام زيد عليه السلام قاد ثورة لتصحيح المفاهيم المغلوطة ومواجهة الظلم والجور الذي استشرى في تلك المرحلة.. داعيا الأمة للسير على نهج الإمام زيد في ثورته ونهجه وأخلاقه والتحرك في سبيل الله نصرة للدين والأمة.
واستعرض جانبا من سيرة ونشأة الإمام زيد وما تميز به من قوة الإيمان وتقوى الله وارتباطه بالقرآن الكريم، ومقاصد ثورته في رفع الوعي وكسر حالة الجمود والخنوع للطواغيت وأعداء الأمة.. لافتا إلى أهمية أخذ العبر من هذه الثورة في تصحيح المفاهيم واستنهاض الأمة للتحرك في مواجهة الطغاة مهما كانت الظروف.
ودعا الجبر إلى المضي على ما أرساه الشهيد الإمام زيد بن علي عليهما السلام من قيم في الدفاع عن الأمة والانتصار لعزتها وكرامتها.
حضر الفعالية، مدراء الجمارك جلال الجلال، والثروة السمكية صادق السبلاني، والإحصاء صلاح الصيادي، ومديريتي ذمار محمد السيقل، والحداء المهندس فضل الحربي. # وزارة الصناعة#هيئة الأراضيذمارمصلحة الجمارك

مقالات مشابهة

  • د.حماد عبدالله يكتب: مصر أولًا وقبل كل شيء!!
  • علي يوسف السعد يكتب: رحالة الكلمة
  • تحت شعار “من أحب الحياة عاش ذليلا”.. فعالية للأراضي والجمارك والصناعة بذمار بذكرى استشهاد الإمام زيد
  • د.حماد عبدالله يكتب: وستبقى مصر محروسة بإذن الله !!
  • عبدالله بن طوق يتوّج نخبة «دبي للرطب» في ختام دورته الأولى
  • بريطانيا.. قانون جديد يحظر زواج المجرمين المدانين بجرائم جسيمة في السجن
  • عبدالله فلاته ينتقد إدارة الاتحاد.. ويعلق: التجريبيات للتصحيح
  • د.حماد عبدالله يكتب: حتمية عودة ثقافة التنوع
  • لبنان المنقسم حول الحرب والسلام..موت ودمار واحتفالات تحت سماء واحدة
  • الأب الغني والأب الفقير