د. عبدالله الغذامي يكتب: المتنبي والزمن المستحيل
تاريخ النشر: 13th, July 2024 GMT
للمتنبي فكرته الخاصة عن الزمن فزمنه زمن مستحيل، ونتلمس هذا المعنى في قوله:
أُريدُ مِن زَمَني ذا أَن يُبَلِّغَني/ ما لَيسَ يَبلُغُهُ مِن نَفسِهِ الزَمَنُ
وهذا بيت جاء بين بيتين قبله وبعده، وكأنما البيت هذا محبوس بينهما يحاصرانه ويقمعانه، أو كأنه جاء ليفجر الدلالة كقنبلة تنسف المعاني. على أن البيتين يصفان حال المتنبي الواقعية، وهي حال ليست سويةً ولا تتسق مع شروط المعاش المتطلب لأي كائن حي، وحسب تشخيصه لوضعه يقول:
بِمَ التَعَلُّلُ لا أَهلٌ وَلا وَطَنُ/ وَلا نَديمٌ وَلا كَأسٌ وَلا سَكَنُ
أُريدُ مِن زَمَني ذا أَن يُبَلِّغَني/ ما لَيسَ يَبلُغُهُ مِن نَفسِهِ الزَمَنُ
لا تَلقَ دَهرَكَ إِلّا غَيرَ مُكتَرِثٍ/ مادامَ يَصحَبُ فيهِ روحَكَ البَدَنُ
ولنبدأ من البيت الأخير حيث يطرح فكرة اللامبالاة، ولكن هذه اللامبالاة تأتي بعد أن عجز عن تحقيق لحظته الزمنية التي كان يتوق لها، وهنا نلحظ التناقض الفلسفي داخل حال المتنبي مع نفسه ومع زمنه، فالبيت الأول يطرح سؤالاً إنكاريا (بم التعلل لا أهل ولا وطن، ولا نديم ولا كأسٌ ولا سكنُ) وهي حال تعود لواقع بئيس يصف فيه أبو الطيب غربته حيث لا أهل ولا وطن ولا نديم، ومن فقد هذه مجتمعةً فماذا يبقى له، ولكن لماذا وقع هذا وما الذي ورط المتنبي بهذه الحياة القلقة وغير السوية حسب معايير الحياة السوية عقلاً ووجداناً، وكشرط لوجود إيجابي متوازن، فمن فقد الأهل وفقد الوطن وفقد الرفيق (النديم) أي الرفيق الصفي الحفي، ماذا سيبقى له في الحياة غير أن يكون على (قلق كأن الريح تحته)، أما سبب هذا القلق فلأن المتنبي ابتغى من زمنه أن يُبلغه ما ليس يبلغه من نفسه الزمن، أي أنه يريد من الزمن أن يغير طبعه ومجراه لكي يتسق مع مراد المتنبي، فإن لم يتحقق ذلك فإن المتنبي سيقرر أن يأخذ اللامبالاة بأن يرفض الشرط الزمني ذلك الشرط الذي عرفه البهاء زهير حين قال:
ومن خلقي أني ألوفٌ وأنه/ يطول التفاتي للذين أفارقُ
وهذا هو الإنسان الألوف مقابل الإنسان القلق، فالبهاء زهير جعل المكان والرفيق معاً قيماً لا يفرط بهما وإن فارقهما فسيظلان داخل الأغلفة والرابط الروحي في حين اختار المتنبي المفارقة، وإن كانت الذاكرة الثقافية تدفع بالظن على أن البهاء زهير بمثابة المتنبي الثاني، لكن الفارق بينهما واسعٌ جداً، ولكن ما الذي دفع المتنبي لهذا الشقاء الذي قرره على نفسه واتخذه سيرةً له.
للمتنبي رهان على الزمن بصيغته الأبدية (الدهر) وليست الراهنة، وفي ذلك يقول (إذا قلت شعراً أصبح الدهر منشداً)، وهذا زمن لا ينقطع ولا تحده سنون العمر المحددة بتعداد بين بداية معروفة ونهاية مكتوبة، ورهان آخر مع المكان (سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا/ بأنني خير من سارت به قدم)، وهذه معرفة يمنحها المكان له حين نكرها عليه البشر، وهنا يحيل للمكان وللزمان بوصفهما طوع خياله وطوع مناه، ولكنه يظل يكتشف أن زمنه يعانده ويعاند مبتغاه مما أوصله لنهاية مشوار حياته في خراسان حيث يواجه واقعه المر في وقت وجيز قبل مواجهة لحظة موته الذي أعقب اكتشافه لغربته المطلقة (غريب الوجه واليد واللسان)، وهذه غربة كلية ومطلقة لم تك في خراسان فحسب بل إن حياته كلها تشير إلى هذه الغربة، وهو الذي ابتغى هذه الغربة ليتقلب معها في أحوال تتبادل الأدوار فهو القلق بها والحفي بها، وفي الوقت ذاته غير مبالٍ بها. وهذه حالة قلق روحي بين روحٍ متطلبة وراغبة وروح رافضة ومتعالية على المكان وعلى الزمان، وهنا نرى المتنبي الذي لا يريد أن يكون مجرد رقم يمر على الحياة، ولكنه يريد زمناً غير زمنه ومكاناً غير مكانه، وكلما ألف موقعاً غادره زاهداً فيه لأنه يرى أن مكانه الدهر الذي سيظل يروي أشعاره ويفتح أبواب الخصام حول شخصه بين البشر، وحول شعره المتمرد على التوافق وعلى الراحة، ولذا ظلت ثقافتنا تقف على المتنبي بين حكمته التي نرتضيها ونتطلبها ونرددها في استشهاداتنا ومحفوظاتنا، ونسقيته التي نغض الطرف عنها، فكأن المتنبي يجمع بين عقل نرتضيه عبر الحكمة ووجدان نعيشه عبر العجب بالذات تلك التي ينوب عنا المتنبي في الحديث عنها في حين نستحي نحن من الجهر بها. أخبار ذات صلة د. عبدالله الغذامي يكتب: الصوت الأعلى بوصفه خدعةً ثقافية د. عبدالله الغذامي يكتب: نوم العقل يوقظ الوحوش
المصدر: صحيفة الاتحاد
كلمات دلالية: الغذامي أبو الطيب المتنبي المتنبي عبدالله الغذامي
إقرأ أيضاً:
أشرف غريب يكتب: ذهب «عون» وجاء آخر
اعتاد اللبنانيون على أن يصبح المؤقت هو الدائم، فمنذ ثلاثين شهرا تدير مؤسساتهم حكومة تصريف أعمال على أثر استقالة رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، وفشل النخبة هناك في تشكيل حكومة جديدة بسبب التركيبة الطائفية المربكة للمشهد العام في لبنان، ليس هذا فقط، فمنذ انتهاء ولاية الرئيس اللبناني العماد ميشيل عون في أكتوبر 2022 أي قبل سبعة وعشرين شهرا ولبنان بلا رئيس للسبب ذاته، لبنان إذن كانت على مدار العامين الماضيين بلا رئيس جمهورية أو حكومة!
لكن أخيرا ومنذ أيام أصبح للبنان رئيس بعد ما يزيد على العامين ظل خلالهما المنصب الرفيع شاغرا، انتخب مجلس النواب اللبناني بعد ولادة متعسرة الرئيس الرابع عشر لتلك الدولة التي أراد لها الاستعمار الفرنسي أن تكون مرتعا لكل المتصارعين من أصحاب النفوذ، ليس فقط في المنطقة وإنما في العالم أجمع، هذه الدولة الصغيرة التي ظلت منذ اختلاقها وحتى اليوم تدفع أثمانا باهظة فوق طاقتها لصراعات لا ناقة لها فيها ولا جمل.
أصبح لديها الآن رئيس منتخب هو العماد جوزيف عون الذي كان حتى ساعات قليلة مضت قائدا للجيش اللبناني، وبصرف النظر عن الظروف والملابسات والمطالبات التي صاحبت انتخاب الرئيس الجديد، فإنّ الحقيقة الوحيدة المؤكدة في هذه الدولة التي لم تعرف الاستقرار قط، هي أنّ مرحلة الجمود السياسي قد انتهت أو هكذا يبدو، وأنّ قصر الرئاسة اللبناني في بعبدا قد بات مأهولا بمن عليه إن رغب واستطاع -أو هكذا مأمول منه- أن يصلح ما أفسده الآخرون على مدى عشرات السنين بحسب أمنيات ملايين اللبنانيين في بلد الأرز أو هناك حيث يعيشون في أصقاع بلاد المهجر شرق الأرض وغربها.
قد يقولون إنّ إرادة اللاعبين الكبار على المسرح اللبناني هي التي قررت الاكتفاء بهذا القدر من الفراغ الرئاسي كخطوة مهمة في مخطط إعادة صياغة خريطة المنطقة بأكملها، وقد يقولون إنّ قيصرية انتخاب العماد جوزيف عون تمت في وجود المبعوث الأمريكي بالعاصمة بيروت.
وقد يقولون إنّ الأطراف توافقت على رئيس لم يذكر في كلمته الأولى إلى الشعب اللبناني مفردة «مقاومة»، فيما أكد حتمية عدم وجود السلاح في أيدٍ خارج سلطة الجيش، في إشارة إلى حزب الله، وقد يقولون إن انتخاب جوزيف عون ينطوي على مخالفة دستورية يتوجب تصويبها، لكنهم ربما ينسون القول إنّ للرجل البالغ من العمر واحدا وستين عاما مواقف وطنية لا ينكرها أحد تدلل على امتلاكه منظومة قيمية أو على الأقل إنسانية.
أتصور أنّ الداخل اللبناني -على الأقل- في أمس الحاجة لها، هل سيذكرون للرجل المدجج بالأنواط والنياشين العسكرية أنّه من رفض أوامر الرئيس السابق ميشيل عون بإطلاق الرصاص على المتظاهرين اللبنانيين عامي 2019 و2023 وقت أن كان لا يزال ببزته العسكرية قائدا للجيش؟
وهو أيضا من رفض الزج بقواته في الصراع الطائفي ما أغضب منه بعض مارونيي لبنان؟ هل سيذكرون له أنه كان قد بدأ في إعادة انتشار الجيش اللبناني في الجنوب في مواجهة القوات الإسرائيلية؟ هل سيذكرون له أنه وفّر استقرارا ماديا لأفراد جيشه بفضل علاقاته الخارجية، بينما كان المدنيون يعانون اضطرابا معيشيا وتعثرات مصرفية طاحنة؟
ورغم ذلك كله، ورغم ما يبدو من انقسام اللبنانيين حول شخص رئيسهم الجديد فإنّ الأمل يحدوهم بأن يكون أفضل من سابقه في التعاطي مع العلل المستعصية التي يعيشها القُطر الشقيق منذ عقود، فلا تزال الطائفية -ما ظهر منها وما بطن- تنخر في عظام دعائم الدولة الواهنة أصلا.
والفساد يتجذر في كل مؤسساتها لا يجرؤ أحد على مواجهته وكبح جماحه حتى بعد المأساة الإنسانية الكبرى التي شهدها مرفأ بيروت قبل خمس سنوات تقريبا، والليرة اللبنانية في انهيار تام وأزمات الوقود بلا حلول حاسمة في ظل اقتصاد متداعٍ لا يقوى على تلبية الاحتياجات الأساسية للمواطن البسيط، وإعادة إعمار ما خلفته الاعتداءات الإسرائيلية المتتابعة لا سيما في الجنوب الصامد، خاصة أنّ جذوره تمتد إلى قرية العيشية في الجنوب اللبناني، ثم ماذا عن إسرائيل نفسها؟ ذلك العدو دائم التربص بلبنان التي يعتبرها نزهته المفضلة وامتدادا لغطرسته وفرض هيمنته؟ والأهم ماذا عن عدم إحساس المواطن اللبنانى بالأمان في بيته وشارعه ومحل عمله؟
ولا يغرنكم أنّ الشعب اللبناني محب بطبيعته للحياة، لديه قدرة مبهرة على مقاومة الضغوط والتكيف معها، وحملها على كتفيه في عشيته وضحاه وهو ماضٍ في طريقه يكابد من أجل العيش الكريم، فهو من حقه أن يقلق على حاضره ومستقبله، وأن يتطلع إلى الدعة والاستمتاع بالحياة الهادئة بعيدا عن صراعات يدفع ثمنها بلا مقابل، وينكوى بنارها دون ذنب، ومن هنا فليس أمام المواطن البسيط سوى التفاؤل ببزوغ عهد جديد يحقق فيه الحد الأدنى من طموحاته في الأمان بمفهومه الواسع، وأن يكون ساكن بعبدا الحالي العماد جوزيف عون أكثر حنكة من سابقه العماد ميشيل عون، وأعظم قدرة على تحقيق أحلام هذا الشعب.
لقد ذهب «عون» وجاء «عون» وكان الله في «عون» الشعب اللبناني الشقيق.