جنبلاط: التحية لـأم الشهداء غزّة!
تاريخ النشر: 13th, July 2024 GMT
عُقدت راية الصلح، عصر اليوم، في بلدة بيصور، بعد توقيع عقد المصالحة في منزل الشيخ أبو نبيل أديب ملاعب بين عائلتي رياض ملاعب ومروان سامي ملاعب، في حضور رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي السابق وليد جنبلاط، رئيس الحزب "الديمقراطي اللبناني" طلال ارسلان، رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي النائب تيمور جنبلاط، رئيس الحزب السوري القومي الإجتماعي ربيع بنات، وزير التربية والتعليم العالي في حكومة تصريف الأعمال عباس الحلبي، شيخ العقل لطائفة الموحدين الدروز الدكتور سامي أبي المنى، الشيخ نصر الدين الغريب، شيخ العقل السابق نعيم حسن، المدير العام السابق للأمن العام اللواء عباس ابراهيم، الوزيرين السابقين غازي العريضي وصالح الغريب، أعضاء كتلة اللقاء الديمقراطي النواب أكرم شهيب، وائل أبو فاعور، مروان حمادة، راجي السعد وهادي ابو الحسن، أمين السر العام في الحزب التقدمي الاشتراكي ظافر ناصر، النائبين السابقين علاء الدين ترو وأيمن شقير، الامين العام لـ"جبهة التحرر العمالي" الوليد شميط، رؤساء بلديات ومخاتير وفاعليات أهلية واجتماعية وقادة أمنيين وعسكريين، أعضاء من المجلس المذهبي، وكلاء داخلية "التقدمي" وقياديين في "الديمقراطي" وحشد من المشايخ وأهالي بيصور والغرب.
استهل لقاء المصالحة باصطحاب شيخ العقل ابي المنى والشيخ حسن والوزير العريضي أهالي الجاني لمصافحة أهل المجني عليه، حيث قال ابي المنى خلالها: "ها نحن نلتقي اليوم في بيصور لدفع السيئة بالحسنة ولنتوّج المساعي الخيّرة بعقد راية الصلح بين الأهل والإخوة، لنطوي صفحةَ الظلم والغضب والانفعال والتخلّي، ونفتحَ صفحةَ العدل والحلم والصفح والتعقّل... فالجبل يستحقُّ وحدتنا وبيصور تستحقّ مثلَ هذه الساعة المباركة ومثلَ هذا الموقفِ الجامع المشرّف، وآلُ ملاعب بما هم عليه من حكمة وتقوى وعلم ورجولة يستحقّون مثلَ هذا الحضورِ المميّز؛ قيادةً سياسية ورئاسةً روحية وأصدقاءَ وأقارب ومحبّين".
كلمة أديب ملاعب
بعد المصافحة بدأت الكلمات بتعريف من الإعلامي عبدالله ملاعب، وألقى وليد ملاعب كلمة الشيخ أديب ملاعب، وجاء فيها: "لقاء عقد راية الصلح اليوم محطة هامة في تاريخ بلدتنا بيصور, نتجاوز فيها الآلام الزمن الصعب لنمتشق وكالعادة وعلى مرّ التاريخ رايات العزة والمحبة والكرامة والإباء. لقاء عقد الراية, لعزم قديم جديد على التكاتف والتضامن, على التآخي في الأزمات والتوحد في الإستحقاقات, والتعاون في تجاوز المحن والمنزلقات الصعبة والخطرة".
واستطرد: "بيصور أيها السادة ومنذ مئة عام ونيف آثرت المضي قدماً في تكريس بيئة توافقية تضامنية وطيدة, إعتمد أهلها الأعراف طريقاً ومسلكاً في الحياة إيماناً منهم بأن العرف هو ما استقرت النفوس عليه, بشهادة العقول, وتلقته الطباع الطيبة والحسنة بالقبول, ثلاثية ضامنة لإرساء قواعد المحبة بين أفراد المجتمع الواحد العقل. النفس والطباع. السادة الكرام، مشهدية اليوم وبهذا الحضور المميز من الكبار في هذا الوطن, ترسم صورة معبرة لذكرى أليمة ولحدث جلل".
وأضاف: "أنتم اليوم الشاهد الأكبر على زوال مكروه حصل بظرف وصدفة لا نريدها ولا يمكن لنا إلا أن تتهيب في إستذكارها, لتكون عبرة لنا ولأولادنا ولأجيالنا الآتية فيما بعد. حضوركم, دليل إهتمام بقضايا الناس, ومصالحهم, بظروف حياتهم وعلاقاتهم. دليل حرص على بقاء هذا المجتمع بمنأى عن الإرباكات والخلافات والتفاعلات السلبية التي لا يمكن أن ننتظر منها الى الهدم والإنقراض لقيمنا, قيم الحق والخير والمحبة والجمال. نتكلم بإسم عائلتين عزيزتين، لهم منا كل تقدير واحترام شاءت الظروف أن يحصل حدث غير محسوب فكانت النتيجة على ما هي عليه, الخسارة علينا جميعاً كبيرة جداً لا يضاهيها إلا هذا الحجم من التسامح من الجانب".
وتابع: "هذا العفو عن بعض الحق الذي ساهم الى حد بعيد في طي هذه الصفحة المؤلمة والحزينة. فكيف لا ونعلم جيداً بأن التسامح هو من شيم الكرام ومن أخلاق الأفاضل والكرماء والأدباء والراغبين فيما عند الله"...
العريضي
وكانت كلمة للوزير العريضي، قال فيها: "بإسم بيصور أرحب بكم مقامات سياسية كبيرة وروحية وأصحاب العمائم البيضاء الطاهرة الناصعة الداعية دائماً الى العقل والحكمة والمنطق والايمان والتوحيد، وشخصيات وزارية ونيابية وعسكرية وأمنية وإدارية وفعاليات بلدية اختيارية، الأهل والأقارب والأحباء والجيران أهلاً بكم جميعاً. أُصبنا في العام 2017 وفقدنا شاباً كريماً، مكرم ملاعب، وأصيب البيت الآخر أيضاً بيت زاهر وبيت رياض وأصيبت بيصور".
وتابع: "الزعيم الوطني وليد جنبلاط، أقول باسم بيصور، عندما كان لا بدّ من الوقوف للدفاع عن الكرامة والشرف والعرض لبّت بيصور نداء والدكم زعيم الحركة الوطنية اللبنانية آنذاك وكانت بكل أحزابها وقواها في الطليعة فأطلق عليها المعلم كمال جنبلاط اسمها (أم الشهداء)، وعندما عُقدت راية المختارة لك ثم عُقد لواء القيادة وقدمت عدداً كبيراً من الشهداء يقارب الـ150 كانت وفية وأمينة لم تخذلك، ولم تخذل والدك بل كانت سبّاقة متقدمة وعندما رفعت راية المصالحة مع الآخر كانت بيصور أيضاً مقدامة بالانفتاح ومد يدّ المصالحة ونحن في منطقة نعيش اهلاً وجيران وأحباء نتشارك معا كل حياتنا اليومية".
ارسلان
قال ارسلان من جهته: "بعد أسابيع من أيّام العُشُر المباركة وعيد الأضحى المبارك، شاءت الأقدار أن نلتقي وإيّاكم على هذه الأرض المباركة، المباركة بمشايخها وأعيانها وأبنائها ونسائها ورجالها، المباركة بشيبها وشبابها، الذين قدّموا كلّ التضحيات في سبيل لبنان وصمود لبنان، وبقاء الجبل... ما سُمّيت بيصور "أم الشهداء" كجائزة ترضية، فما قدّمته هذه البلدة للوطن، وللجبل، ولمنطقة الغرب والشحار في عاليه، كان كافياً لإطلاق تسمية "أم الشهداء" عليها، والرادارُ يشهد، وعيونها تشهد، فإن سألت عين القَمّيمْ، وعين الضيعة، وعين الشكارة، وعين الكرَيْم، وعين المجد، وعين السُمُر، وعين الوادي وغيرها، تجيبك أنّها كما هي تسقي أبناء بيصور والمنطقة، كذلك هم سقوا أرضها بدمائهم الطاهرة والزكية.... لكي تبقى"...
وقال: "هنا اسمحوا لي أن أترحّم على كلّ شهيد سقط من هذه البلدة بعائلاتها كافة وأترحم على رفيق الدربابن بيصور الشيخ صالح فرحان العريضي. واليوم، نلتقي نحن ووليد بيك وجميع الحاضرين معنا في هذه المصالحة الكريمة،لقد آلمنا هذا الحادث الأليم ولكن ما يواسينا ويعزينا هو إعلائكم للغة العقل والحكمة والوحدة، وتحقيقكم لمبدأ التسامح الذي أنتم أهلاً له. إنّ هذه الصفات إن دلت على شيء فتدلّ على أصالتكم وتشبثكم بالعادات والتقاليد والقيم التوحيدية الأصيلة التي هي أساس وحدة وتماسك مجتمعنا التوحيدي. نبارك لكم هذه المصالحة وأبقاكم الله سالمين موحدين على كلمة سواء في مواجهة المصاعب والتحديات. نجتمع اليوم في هذه المرحلة الحسّاسة والمفصلية من تاريخ المنطقة والوطن، ونقول: نحنُ على ما نحنُ عليه، في خطّنا العروبي، وفي قضيتنا الفلسطينية، وفي نهجنا المقاوم، وفي وطنيتنا الراسخة، وفي مسلكنا التوحيدي الشريف، نحنُ على ما نحنُ عليه. وثباتنا في وطنٍ نحن أسّسناه، ونحن حميناه".
المصدر: لبنان ٢٤
كلمات دلالية: رئیس الحزب أم الشهداء شیخ العقل
إقرأ أيضاً:
أفكار تولستوي .. مفترق طرق
«كل شيء فيه منصهر انصهارًا، وجميل جمالًا رائعًا، لم أُصدِّق أنه ملحد، رغم أني أحسست بذلك، أما الآن، بعد أن سمعته وهو يتحدث عن المسيح، وشاهدت عينيه -اللتين تشيان بذكاء أكبر من أن يكون في مؤمن- فإني أعلم بأنه ملحد إلحادًا عميقًا، أليس كذاك؟».
مكسيم جوركي متحدِّثًا عن تولستوي في رسالة إلى تشيخزف كانون الثاني 1900.
إن هذه الجملة تجعلنا نتوقف مليًّا أمام سؤال كبير: ما الفرق بين الإلحاد الظَّاهري والإلحاد العميق؟ أهو سؤال أخلاقي أم فكري؟!
ظاهر التسمية الأولى من السؤال -الإلحاد الظَّاهري- يذكِّرنا بالقول المأثور: (لا إله والحياة مادة)، فإني أراه بات قولًا عبثيًّا بالدرجة الأولى، فحوادث الكون فيها الدليل على أن هذا الكون له إله واحد.
وإزاء هذا الفهم نتفاجأ من وصف جوركي لتولستوي: «وشاهدت عينيه، اللتين تشيان بذكاء أكبر من أن يكون في مؤمن»، وفي هذا طرق لتساؤل آخر: هل يكون الإيمان مقياسًا للذكاء في التَّعامل الإنساني؟ ويتبعه منحى جديد قديم، ومحدد لمعرفة الكون بمعنى الخلق؛ أهو الإيمان أم العقل؟ وهل الإيمان لازم التَّوارث أم بازغ التفكير للوصول إليه، كحقيقة تتجلَّى، لا كتركة تتبنَّى جهوزيَّة النَّتيجة.
يرفض تولستوي الوصاية الدينية، ويُبجِّل العقل بنظرته الخاصة، فيقول: «حبا الله الإنسان وسيلة واحدة فقط، يمكنه بها أن يتعرف على نفسه ويكتشف علاقته بالعالم، وما من وسيلة أخرى سواها، وهي العقل..».
وهذا يضعنا أمام المسار الأيدولوجي لتولستوي، ليس فقط المنطلق الفكري العملي، بل التنظيري أيضًا، حيث يواصل قوله: «ثم يقولون لك فجأة إنَّ هذه الوسيلة يمكنه أن يستخدمها في تفهُّم واستجلاء مشكلاته المنزلية والأُسرية والاقتصادية والسياسية والعلمية، لكنه لا يمكنه استخدامها في استجلاء الحقائق الأكثر أهمية، التي تتوقف عليها حياته بأكملها، بل يتوجب عليه أن يستجلي هذه القضايا بعيدًا عن العقل، لكنه بعيدًا عنه لا يمكنه استجلاء شيء».
وإزاء هذه الأفكار التي تهمِّش دور الإيمان في الحياة البشرية؛ حاربت الكنيسة هذه الأفكار بقوة، بسبب حدَّتها وشدة أطروحاتها التي تكسر أعمدتها، كقوله: «يحتاج المرء فقط أن يتخيل إنسانًا من عالمنا، نشأ على قواعد دينية مسيحية، سواء أكانت كاثوليكية أم أرثوذكسية أم بروتستانتية، يود أن يوضح هذه القواعد التي تلقنها من الطفولة، ويربطها بالحياة، فيا له من عمل شديد التعقيد، حتى يقبل كل هذه المتناقضات الموجودة في إيمانه الذي تربى عليه، فالله الخالق الطيب قد خلق الشر، ويعاقب الناس بينما يطالبهم بالتكفير عن خطاياهم... إلخ، ولدينا قانون الحب والغفران، لكننا نقوم بعمليات الإعدام والقتال وننتزع الملكيات من الفقراء... إلخ».
أرى أن جلَّ الصراع الفكري هو اتكاء تولستوي على العقل فقط، ونبذ ما يناقضه بناء على معتقده الفكري، وفي هذا الأثر يقول تولستوي: «... يجيب الإنجيل عن ذلك: (لأَنَّكَ أَخْفَيْتَ هَذِهِ عَنِ الْحُكَمَاءِ وَالْفُهَمَاءِ وَأَعْلَنْتَهَا لِلأَطْفَالِ)، ولا تحمل هذه العبارة أي نوع من المبالغة أو الرمزية كما يفهم الناس كثيرًا من عبارات الإنجيل التي لا تروق لهم، لكنها تأكيد على أكثر الحقائق بساطة وثبوتًا، وهي أن كل مخلوق في هذا العالم قد حباه الله قانونًا يجب أن يعيش وفقًا له».
وهذا يأخذنا إلى التَّأصيل الفكري الذي يتبنَّاه تولستوي «العقل»، ويبدو أنه يطرق بشدَّة أفكاره جدار التَّنبيه والتَّنبه عند الناس، فيقول: «إن تقاليد الناس قد تكون كاذبة، أما العقل فهو من الله، ولا يمكن أن يكون كاذبًا».
لكنه في الوقت ذاته؛ لم يقر أن تقاليد الناس مستنبطة من العقل الإنساني! بمعنى أننا إن أردنا تحكيم العقل بكليَّة الحياة ومشاربها، فلن نستطيع تفسير ظواهر أو حقائق كونية إلا بالشَّكل الإيماني أو ما قد يسميه تولستوي إسقاط التقاليد في صورة قوانين وعقائد، وهذا مردُّه عدم اعتقاده بها.
وهو بهذا يرى أن فكرة تعدد الأديان هي فكرة إنسانية محضة، في التعبير عن أن اختلاف الأمكنة والأزمنة يكون بمثابة استجابة لحاجات إنسانية خالصة، بدءًا من تنظيم المأكل والمشرب وانتهاء لمختلف الحاجات المادية والمعنوية، وبالتالي تحوُّل تلك التقاليد إلى عقائد تتَّسم بالإعجاز والأسطرة، نافيًا أن هذا الأمر يمكن أن يكون نتاجًا عقليًّا خالصًا، وإنما نتاج فكرٍ هدفه الطَّبقية وهيمنة فئة الفكر الفائق!
ما يميز أسلوب تولستوي قيام فكرته ببسيط العرض، ومسابقته في التبسيط أكثر، فيما يعتقد أنه بعرضه يريد الوصول لشرائح أكبر لانتشار أفكاره.
ففي معتقد الدين ينقل المفهوم المتداول بتعدد ثلاثي:
- الوحي الحقيقي الذي منحه الله للناس، الذي يتمثل في الكتاب المقدس.
- مرتبط بإطار من الخرافات تُنتج عبادات خرافية.
- عبارة عن قوانين وتشريعات شديدة الأهمية، سُنَّت من قبل بعض الحكماء للجموع الهمجية؛ كي تعمل على طمأنتهم وقمع شهواتهم البهيمية، وقيادتهم.
ويرى تولستوي أيضًا: «لم تتطرق التعريفات الثلاثة إلى جوهر الدين، بل إلى إيمان الناس بما يعتقدون أنه الدِّين».
ثم يجيب على سؤال: ما الذي أفهمه من كلمة «الدِّين»؟
- «يمكنني أن أجيب أن الدِّين هو الذي يؤسس العلاقة بين الإنسان والعالم الأبدي غير المحدود من جهة، وبين الإنسان وخالق هذا العالم ومصدره من جهة أخرى».
وهنا أتساءل: كيف يمكن التأسيس لهذه العلاقة دون أن يكون هناك تواصل موثَّق وموثوق، ودون أن يكون هذا التواصل مخاطبة الناس على قدر مقدرة فهمهم، وبتبسيط الأمر لاستطاعة التنفيذ، فكل علاقة بين الخالق والمخلوق تكون مبنية على الأمر والطاعة، وبالسير على خط مرسوم للمخلوق، يجب اتباعه تحقيقًا للهدف المرجو، وهو صوابية العلاقة بين الإنسان وخالق هذا الكون، وما يكون من علاقة ناشئة عن العلاقات الإنسانية.
وفي إفراد آخر لنهج الأخلاق، يقول تولستوي: «الاتجاهات الأخلاقية يمكن اعتبارها ثلاثة، تعليم أخلاقي فطري همجي شخصي، وتعليم أخلاقي وثني أسري قومي أو اجتماعي، وتعليم أخلاقي مسيحي».
إنني أرى في هذا السِّياق الاتجاه الأول في شكله الفردي هو نواة لذاك التعليم الأخلاقي الوثني الأسري، الذي في حجمه الأكبر عبارة عن تكتل يراد له تحقيق المنفعة القومية بالدرجة الأولى، جاعلًا الأسرة هي النواة الحقيقية له، ومن خلاله يكون تدعيم منهج الحياة في توحيد نظرة الأسرة في خدمة نموذج الفرد في تبادلية الأداء، ثم الذهاب إلى الاتجاه الثالث وهو التعليم الأخلاقي المسيحي «الدِّيني»، وهذا يختلف من خلال تفاوت عملية التَّركيز على عملية البناء الأخلاقي، ومدى مساحة التأثير ومنهج المجتمع العام، فهناك مجتمعات دينية وأخرى لا دينية.
يقول تولستوي: «لا يمكن أن تتأسس الأخلاق بمعزل عن الدِّين، ليس فقط لأنها تنتج عنه، وعن مفهوم العلاقة التي تربط الإنسان بالعالم، بل أيضا لأنها تتضمن بداخلها روح الدين ومقتضياته».
وهذا أمر مقبول ضمن التَّفكير الإنساني، لكن المعضلة الأساسية في أطروحات تولستوي أنه يعتبر الدِّين الحقيقي ليس ما يعرفه الناس من تعاليم ومفاهيم وحقوق وواجبات... إلخ.
لذا يحار الناس أو القارئ؛ ما الذي يريده تولستوي؟ وهو يريد جعل العقل الإنساني هو الحاكم، ولا وجود لديه لمشكلة وجود الدِّين، لكنه الدِّين الذي هو يراه ليس موجودًا بين الناس.
بل ويبين ما يعتقد بالعلاقة بين الدِّين والأخلاق: «دون أساس ديني لا يمكن أبدًا أن تتأسس أخلاق حقيقية غير ملفقة، كما أنه دون جذر لا يمكن أن ينمو نبات فعلا».
ويطرق تولستوي محددًا للحياة الصالحة الناجمة عن المقارنة بين الدِّين والأخلاق، فيقول: «لم ولن يكون أبدًا ثَم حياة صالحة دون ضبط للنفْس، فمن دونه لا يمكن حتى تصور الحياة الصالحة، لذا فلا بد أن تبدأ أي محاولة في طريق الحياة الصالحة بضبط النفس.. من الممكن أن يرغب الإنسان أن يكون فاضلًا، ويحلم بالفضيلة دون أن يصوم، ولكن في حقيقة الأمر من المستحيل أن تصبح فاضلًا دون أن تصوم، كما أنه من المستحيل أن تسير دون أن تخطو قدماك... الصوم شرط أساسي للحياة الفاضلة...».
ثم يعاود التأكيد في أطروحته بشكل مبسط، فيقول: «يشكل الصوم شرطًا رئيسيًّا للحياة الصالحة، ولكن في الصوم -كما هو الأمر مع ضبط النفْس- نجد أنفسنا أمام هذا السؤال: بم نبدأ؟ عمَّ نصوم؟ كم مرة نتناول فيها الطعام؟ وماذا نتناول؟...».
هذا التبسيط المتتابع في معاينة لفكرة تولستوي يحدث في أنه يناقش أطروحته ويبسطها وفقا للتفكير الفائق الذي طالما انتقده في طريقة الحكماء والفلاسفة، والأعجب من ذلك أنه يقرِّر أن «أول شيء سيضبط نفسه بخصوصه، هو تناول اللحوم» باعتبار أن «تناول اللحوم أمر غير أخلاقي بالمعنى المباشر للكلمة، كالذي يتطلبه فعل القتل تمامًا من شعور غير أخلاقي في الإنسان».
وهذا الأمر إن أخذناه على عواهنه وبشكله العام من خلال إزهاق كائن، وممارسة للقتل؛ فإنه بالشكل المرادف يعتبر تناول النباتات إزهاقًا لحياة كائن حي! تماما كقطف الورود والأزهار ونباتات الزينة وغيرها.
ثم لنطرح سؤالًا: أيٌّ من أنواع اللحوم ينبغي عدم الإفراط في تناولها؟! وهناك مجتمعات كبيرة ترى أن كل كائن حي يمكن أكله حتى الأجنة! تلك المحددات غير مكتملة النضوج، فهل يُفرق بين الحيوانات المنتجة وغير المنتجة مثلا؟!
يعتبر تولستوي الدِّين في جوهره: «إن الدِّين الحقيقي هو الذي يتوافق مع العقل ومعرفة الإنسان، ويحدد علاقته بالحياة اللانهائية من حوله... إنه الدِّين الذي يربط حياته بهذه اللانهائية، ويرشد الإنسان في سلوكياته».
وعلى هذا الأساس الذي يقدمه تولستوي وكأنه يحشر المتلقي في أطروحته التخصيصية بحيث يتوجب علينا إلقاء عدة تساؤلات:
ما هو العقل ومحدداته؟ وهل الإرشاد للإنسان يكون مبنيًّا على الدِّين أم العقل؟ فإن حدث أن إنسانًا عمل عملًا لا يضر أحدًا غيره، ولا تداعيات في تنفيذه؛ كشرب الخمر منفردًا في مكان مغلق، أو شربه بكمية محددة لا تُذهب العقل، مع أن الدِّين ينبذ ما يُذهب العقل الذي على أساسه يقوم أساس الدِّين وهو العقل! وهل فعل ذلك منفردًا ودون ضررٍ، يصحُّ له فعله؟
يقول تولستوي: «الديانة الحقيقية هي تلك التي تتفق مبادؤها الأساسية مع كافة المبادئ الأساسية لغالبية الديانات الأخرى، وهذه المبادئ شديدة البساطة ومفهومة وغير معقدة».
يحتكر تولستوي في توصيفه لمسمى «الديانة الحقيقية» بمعنى أنه جعل الديانات الأخرى غير حقيقية وبالتالي يكون فيها التزييف والخداع! فكيف يتوافق غير الحقيقي مع الحقيقي؟ وكيف يتوافق معه إذا كان غير الحقيقي هو من صنع غير إلهي؟ والمعلوم أن غير الحقيقي هو انحراف عن الحقيقي وبالتالي لفت الأنظار عن المسار الحقيقي للديانة الحقيقية!
ولنفرض جدلًا؛ تلاقي الديانات غير الحقيقية مع الديانة الحقيقية، فهناك سؤال يطرح نفسه: كيف يقترب الفكر الإنساني في خلق ديانة تُزاحم الديانة الحقيقية الإلهية؟ وما المفاهيم التي تتوافق معها؟ وهذا يأخذنا إلى الاتجاه أو الصراع: ما الخير؟ وما الشر؟ وما محدداته العقلية؟ وهل تتغير حسب الزمان والمكان! وإن كانت متغيرة، فمن يؤسس للصواب والخطأ؟!
كل هذه أسئلة متراكمة بشكل عقلي وديني وفلسفي، وللخروج بفكرة ملائمة، يخرج تولستوي بقوله: «الإنسان ضعيف، كائن بائس طالما لم يشع بقلبه نور الله، ولكن عندما يشع هذا الضوء في داخله بتأثير الدِّين، يصبح أقوى مخلوقات الكون، ولا يمكن أن يحدث هذا بطريقة أخرى؛ لأن القوة التي تسري في قلبه في هذا الوقت ليست قواه، وإنما قوة الله».
• ملاحظة: ما بين الأقواس هي أحاديث تولستوي.
طلعت قديح كاتب فلسطيني