الشك واليقين فى عالمنا المعاصر. 1-2
تاريخ النشر: 12th, July 2024 GMT
الشك قضية وجودية تمس الإنسان بما هو كذلك، وبما هو كائن اجتماعى بطبعه ينفر من حياة العزلة ويسعى دوماً إلى العيش فى جماعة.
لكن السؤال المهم الذى يطرح نفسه كيف يتواءم ويتوافق مع هذه الجماعة بتوجهاتها الفكرية المختلفة، وبتنوع ثقافاتها، ودياناتها ومعتقداتها؟!
تلك هى المشكلة الوجودية الحقيقية، هل سيستطيع الإنسان تحقيق هذه المعادلة التوافق داخلياً مع ذاته وخارجياً مع الآخر، أم سيصاب باليأس والإحباط بمجرد أن يوضع فى تجربة واختبار حقيقى؟!
هل سيحقق ذلك عن طريق الشكوك، هل الشك طريق لليقين المعرفى والإدراكى، أم سيأخذ مساراً عكسياً بالإنسان، وتحدث القطيعة المعرفية؟!!
وهذا ما لا نصبو إليه أبداً أن تحدث قطيعة معرفية وانغلاق على الذات، فما الإنسان إلا محاورة مع ذاته، هل مطلوب من الإنسان أن يمارس الشك ولو حتى مرة واحدة فى حياته.
لكن أى نوع من الشك، وهل هذا الشك سيتحول به إلى شك مرضى وداء عضال يصيبه نفسياً وعضوياً.
بداية ونحن بصدد الحديث عن الشك، لا بد أن نقدم تعريفاً للشك: Scepticism، كان لهذا المصطلح مفهوم فى أصله اليونانى يختلف اختلافاً تاماً عن مفهوم اليوم.
فمفهوم الشك معناه الفحص بعناية والبحث والتنقيب، وهذا هو روح التفلسف، البحث الجاد والدؤوب عن الحقيقة بما يمثل تواصلاً معرفياً.
إلا أن هذا المعنى اختلف على مر العصور، أصبحت كلمة الشك، تعنى ذلك الإنسان الذى يتخذ موقفاً معرفياً معيناً، وهو يتمثل على وجه التحديد فى موقفه من المعرفة، هل هناك معارف يقينية، أم لا توجد معرفة.
أما صور الشك فهى كثيرة ومتعددة، منها، الشك الكلى، وينقسم إلى قسمين: الشك الكلى فى المعرفة وإنكار أى صورة من صور قيامها.
الشك الكلى فى الحقيقة. وهذا هو شك السفسطائية الذين أنكروا قيام أى نوع من المعارف وأنه لا يوجد شىء على الإطلاق يمكن أن يعلمه الإنسان وحتى إن وجد لا يستطيع أن يتعلمه وحتى إن تعلمه لا يستطيع أن يوصله للآخرين.
ثم الشك التجريبى، وينقسم إلى ثلاثة أقسام، شك فى أسس العلم التجريبى، وشك فى إمكانية التوصل إلى أقوال عامة فى العلم التجريبى وشك فى التنبؤات. وشك فى الاستنتاجات، فيكون شكا فى الاستقراء.
وهذا يعنى هدم تام للعلوم التجريبة التى تستخدم الملاحظة والتجربة وتخضع لخطوات البحث العلمى المنظم، وهذا ما يرفضه العلم الحديث وما ترفضه فلسفات العلوم التى أثبتت صحتها وأثبتت بما لا يدع مجالاً للشك أهمية العلوم التجريبية التى وفرت لنا الكثير والكثير من تقنيات العصر وشاهدى على ذلك العلوم الفيزيائية والجيوفيزيقية، والعلوم الكيميائية، واستخدام الليزر فى شتى مجالات الحياة، والاكتشافات العظيمة التى توصل إليها علماؤنا، فالفكرة بدأت شكاً ثم تحول هذا الشك إلى يقين بالدرس والتعلم والبحث والتنقيب.
أما الصورة الثالثة من صور الشك، فهى الشك الجزئى، وينقسم إلى ثلاثة أيضاً، الشك الأخلاقى وهل القيم الخلقية نسبية أم مطلقة، والشك الدينى، شك فى الدين، ولماذا جعل الله الدين، وشك حتى فى وجود الإله وعبر عن ذلك ربنا فى قوله (قالت لهم رسلهم أفى الله شك، فاطر السموات والأرض).
وشك فى المعنى، هل لحياتنا معنى، هل لنا هدف نسعى إلى تحقيقه والوصول إليه.
ثم هناك نوعان من الشك، أولهما الشك المذهبى وهو شك من أجل الشك لا يقود إلى يقين معرفى وهذا هو شك السفسطائية، وقد تصدى لهم سقراط وأفلاطون وأرسطو، وشك البيرونيين، وشكاك الأكاديمية وصغار الشكاك، أنصار الشك المطلق، أصحاب مذهب اللاأدرى والإمساك عن قول أى شىء أحق هو أم باطل، صواب هو أم خطأ، صدق هذا أم كذب.
وللحديث بقية.
أستاذ الفلسفة الإسلامية ورئيس قسم الفلسفة بآداب حلوان.
المصدر: بوابة الوفد
إقرأ أيضاً:
استقلالية القضاء أولوية في مسيرة الاصلاح
توافق كل من رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون والرئيس المكّلف تشكيل الحكومة العتيدة القاضي نواف سلام، من دون سابق تنسيق، على أن "العدل هو أساس الملك". وهذه الحكمة لم تطبّق خلال العهود الماضية، وبالأخصّ في عهد الرئيس ميشال عون، إذ بقيت التشكيلات القضائية "نائمة" في أدراج القصر الجمهوري نوم أهل الكهوف، وكذلك لم يتمّ الافراج عن قانون استقلالية القضاء. وهذا الأمر إن دلّ على شيء فعلى أن كثيرين ممن تعاقبوا على السلطة لم يريدوا أن يكون القضاء مستقلًا بكل ما لكلمة استقلالية من معنىً. فلو أرادوا بالفعل أن يكون القضاء قضاء حقيقيًا غير مرهون لأي إرادة سياسية لكانوا تركوا خبز التعيينات القضائية للخباز الماهر والخبير، أي لمجلس القضاء الأعلى، وهو الأدرى والأكثر حرصًا على القضاء من أي من السياسيين، الحاليين والسابقين، الذين جعلوا من القضاء مطيّة لسلطتهم السياسية، وبعدما عطّلوا دور المجلس القائي أو أفرغوه من أي مضمون وسلطة.
فلو أراد هؤلاء حقيقة أن يكون القضاء في منأى عن تدخلاتهم السياسية لكانت هذه التشكيلات قد أبصرت النور، ولكان العمل القضائي قد استقام بنسبة عالية، لأن مجلس القضاء الأعلى، وقبل تفريغه، كان مقتنعًا وبإجماع أعضائه، بأنه وضع في هذه التشكيلات الرجل المناسب في المكان المناسب، وهو لم يعتمد فيها أي مصلحة أخرى سوى مصلحة القضاء، المطلوب منه في المرحلة الآتية الكثير من العمل على ملفات عالقة، ومطلوب منه أيضًا أن يقوم بإنجازات لم يستطع القيام بها في الماضي لأسباب بعضها معروف وبعضها الآخر لا يزال غامضًا.
كثيرون هم هؤلاء الذين لم يكونوا يريدون أن يأخذ القضاء دوره كاملًا، لأنهم وبكل صراحة وبساطة كانوا يريدون أن يبقوه طيّعًا ومطياعًا، وهذا ما يتناقض مع مبدأ فصل السلطات، ويخالف ابسط قواعد العدالة، التي يُفترض أن تكون شفافة ونزيهة وغير منحازة لفريق ضد فريق آخر، وألاّ تكون استنسابية غير مستندة إلى القوانين والضمير.
ويتساءل المتسائلون: كيف يمكن مكافحة الفساد إذا كان القضاء فاسدًا. ولكي لا يكون القضاء فاسدًا يجب إبعاده عن السياسة وأهلها، ولكي يستطيع هذا القضاء غير الفاسد محاربة الفساد أينما وجد يجب رفع يد السياسيين عنه، وهذا لا يتمّ إلاّ إذا كان القضاء مستقلًا وحرًّا، ولكي يكون هذا القضاء حرّا ومستقلًا يجب تحريره من يد السياسيين، وهذا لا يكون إلاّ إذا تحررّت التشكيلات القضائية من القابضين عليها.
لا شك في أن اول ما يحتاج اليه لبنان اليوم هو التصدي الجاد للأزمة المالية والاقتصادية والاجتماعية التي يعاني منها. وهذا يتطلب إصلاحات جذرية ورؤية واضحة لبناء اقتصاد حديث ومنتج يؤمن فرص عمل جديدة ونموٍّ مستدام. غير أن الشرط الأساسي لتحقيق ذلك هو قيام دولة قادرة، دولة قانون ومؤسسات، ترتكز على قيم المساواة والحرية والعدالة الاجتماعية وتوفر شروط المساءلة والمحاسبة الديمقراطية. وهذا ما يقود تلقائيًا وطبيعيًا الى ضرورة وضع الحصان أمام العربة وليس العكس، كخطوة أولى في مسيرة الإصلاح السياسي. ولعلّ حجر الزاوية في ذلك هو إقامة سلطة قضائية مستقلة، لان من دون تحقيق هذا الإصلاح البنيوي لا سيادة حقيقية للقانون، ولا انتظام لعمل المؤسسات، ولا ضمان للحقوق او الحريات العامة والخاصة. وهذا شرط اساسي لاستعادة الثقة بالدولة والنهوض باقتصاد البلاد.
ومن دون الوصول إلى نهايات طال انتظارها في جريمة تفجير مرفأ بيروت لا يمكن الحديث عن سلطة قضائية مستقلة. إلاّ أن عودة القاضي طارق البيطار إلى استئناف تحقيقاته توحي بأن الأمور متجهة إلى خواتيمها المرجوة، خصوصًا أن من هدده بـ "القبع" لم تعد له تلك "السطوة" التي كان يتمتع بها في السابق.
وما يبشرّ بأن هناك جدّية في انتظام عمل القضاء ما صدر من تشكيلات جديدة في المحكمة العسكرية، التي لم تعد خاضعة لسلطة أكبر من سلطتها. ومن بين الأسئلة المشروعة سؤال سيبقى من دون جواب إلى أن تدرج الأمور في نصابها الصحيح، يتعلق بدور القضاء في كل ما تم تداوله في السنوات الماضية من أمور خطيرة تلفّها شبهات فساد، وهدر، وصفقات، وفضائح.
فالرئيس عون وكذلك الرئيس المكّلف مقتنعان بأن مبدأ استقلالية القضاء هو في أساس مفهوم دولة القانون، وهو حجر الزاوية لقيامها، كما انه ملازم لفكرة فصل السلطات، مع تحصين القضاء ضد أي عوامل أو تدخلات خارجية. من هنا يمكن فهم لماذا يصرّ رئيس الجمهورية على أن تكون له الكلمة الفصل في تسمية الوزير الذي سيتولى حقيبة وزارة العدل، إضافة إلى وزارتي الدفاع والداخلية، من دون أن يعني ذلك بالطبع أنه يطالب بحصة وزارية في الحكومة الجديدة، التي قد تبصر النور قبل 27 الشهر الجاري. المصدر: خاص "لبنان 24"