ملوك الطوائف القدامى أضاعوا غرناطة والجدد تخلوا عن فلسطين
تاريخ النشر: 12th, July 2024 GMT
في ظلال #طوفان_الأقصى “91”
ملوك الطوائف القدامى أضاعوا غرناطة والجدد تخلوا عن فلسطين
بقلم د. مصطفى يوسف #اللداوي
ما منا نحن العرب والمسلمين، رغم مضي الزمن وتقادم الأيام، إلا ويصب جام غضبه على ملوك الأندلس ويلعنهم، ويتحسر على ملكهم ويبكي على مجدهم، الذين عرفوا تاريخياً بملوك الطوائف وأمراء الممالك، وحكموا بلاداً جميلةً وأرضاً خلابةً، مزدهرةً متطورةً، آمنةً مطمئنةً، غنيةً ثريةً، يأتيها رزقها سخاءً رخاءٍ من كل مكانٍ، وينعم أهلها بالسلام وشعبها بالأمان، ويعيشون النعيم والترف، والهناء والسعادة، ويتمتعون بالعلوم والمعرفة، وبالفن والفلسفة، وعلوم الطب والرياضيات، وعلوم الطبيعة والفلك.
وكانوا فيها ملوكاً يتبخترون، وأمراء يختالون، وأعزةً يتباهون، وأسياداً يتعالون، يأمرون ويطاعون، ويحلمون ويحققون، إلا أنهم لم يحمدوا الله عز وجل على عطائه، ولم يشكروه عن نعمائه، ولم يتواضعوا في حكمهم، ولم يحافظوا على ملكهم، ولم يدافعوا عن بلادهم، ولم يكونوا كراماً مع شعوبهم، ولا صادقين مع أهلهم، فاستحقوا الحتمية التاريخية، والنهاية الطبيعية، ونالوا جزاءهم الأوفى، واستحقوا العقاب الأقسى الذي نزل بهم، والخاتمة الأسوأ التي خلدت هلاكهم.
أولئك الملوك والأمراء الذين كانوا ملء سمع الدنيا وبصرها، وكانت بلادهم كعبة القصاد وجامعة العباد، وأرض الحضارات، أضحوا فيها عبيداً عند أعدائهم، وأدواتٍ في أيديهم، وسيوفاً يرفعونها في وجه إخوانهم، وفزاعاتٍ يستخدمونها لتخويفهم من بعضهم، ونزع الثقة التفريق بينهم، وزرع الفتن وإشعال الحروب بينهم.
وقد اطمأنوا إلى عدوهم وعاهدوه، وصدقوا روايته وآمنوا برسالته، ووثقوا به وركنوا إلى وعوده، وأعطوه العهود والمواثيق بأن يكونوا معه، وألا ينقلبوا عليه، وأدوا إليه أموالهم وخيرات بلادهم، وأمدوه بالسلاح والعتاد، وشاركوه حصار شعبهم وتجويع أهلهم، وكانوا سوطاً بيده يكوي بها ظهور أمتهم، ويسوق بها سادتهم، طمعاً في مستقبلٍ مستحيلٍ، واستقلالٍ مجيدٍ، ودولةٍ مأمونةٍ وكيانٍ مستقرٍ.
إنه التاريخ يعيد نفسه في فلسطين ويكرر ذاته في قطاع غزة، وكأننا نعيش قبل أكثر من ثماني مائة عامٍ، عندما حاصر الإسبان مدن المسلمين وجوعوا أهلها، وأغلقوا بواباتها وحاصروها، ومنعوا دخول المؤن والمساعدات إليها، وقتلوا كل حرٍ انتصر لها، واغتالوا كل شريفٍ حاول مساعدتها ومد يد العون لأهلها، واستخدموا ملوك الطوائف في قمع انتفاضات شعبهم، وإجهاض مقاومة أهلهم.
وازداد حصارهم لبعض الممالك الثائرة، التي رفضت الخضوع وأصرت على المقاومة، وضيقوا عليها وحاولوا خنقها، وحرقوا مزارعها وخلعوا أشجارها، وأتلفوا محاصيلها وحرموهم من ثمارها، وردموا آبارها وسمموا بعضها، فعطش أهلها وجاع سكانها، ومات كثيرٌ منهم جوعاً وعطشاً، ولم ينجُ من الموت طفلٌ لا امرأة، ولا شيخ قاعد ولا فارس مقاتل، حتى الدواب في حظائرها نفقت، وفي مراعيها هلكت.
ازداد الحصار واشتد، فنحلت الأجساد ووهنت القوى وعض الجوع الناس بنابه، بينما خزائن أمتهم مليئة بالأقوات، وزاخرة بالخيرات، وغنية بكل ما يحتاجه العباد، وبعد حصارٍ طويل قام الإسبان بتواطؤٍ من ملوك الطوائف وحكام المقاطعات، بقذفها بالمجانيق وأحرقوها، وكانوا من قبل قد سوروها وأحاطوا بها، ودخلوها عنوةً، وأعملوا سيوفهم في رقاب أهلها وقتلوهم، فسالت دماء عشرات آلاف المسلمين وإخوانهم إليهم ينظرون، وهم الذين أمنوهم ووعدوهم، وأغروهم بالعطايا والغنائم.
ها هي اليوم غزة، درة مدن فلسطين وتاج المقاومة، عنوان الشرف وأيقونة الشجاعة، تعاني مما عانت منه غرناطة وأشبيلية وطليطلة وغيرها، وتشتكي ظلم الملوك وعجز الأمراء، وتعاني من تحالفاتهم وتتألم من خيانتهم، وتبرأ إلى الله عز وجل من عجزهم وجبنهم، ومن هوانهم وذلهم، لكن غزة التي ما فرط أهلها، ولا استكان شعبها، ولا ركنوا إلى عدوهم، ما زالت تقاتل وتقاوم، وتصر على مواجهة العدو رغم فارق القوة وقلة السلاح، وتؤمن بأنها مهما طال الزمن فإنها ستنتصر، وستحقق أهدافها وستدحر عدوها، وستنال منه وستعلمه درساً في مضاء المقاومين، وقدرة المظلومين، وصلابة المخلصين.
أيها الملوك والأمراء، يا أصحاب التيجان والعروش، يا أصحاب السيادة والفخامة، ويا حملة النياشين والأوسمة، إن غزة تناشدكم وتستصرخكم، وتستجير بكم وتستنصركم، لكنها تحذركم وتنبهكم، ألا تكونوا كمن سبقوكم من الملوك السذج والأمراء الأغرار، الذين فرطوا في فردوسهم الأعلى وملكهم الأغلى، وجنة المسلمين على الأرض، ومنارتهم العالية، وحضارتهم الرائدة، وعلومهم المتقدمة، وتفوقهم العسكري، واتحادهم القوي، واتفاقهم المتين، وباعوا أندلس المسلمين فهلكوا، وفرطوا في ملكهم وقتلوا، واستخدمهم العدو أداةً رخيصةً في أعمال دنيئةٍ ثم تخلى عنهم وألقى بهم، وقتل بعضهم ومثل بأجسادهم، ونفى أكثرهم وأذلهم وأهانهم، واسترق أطفالهم وسبى نساءهم، وبدل أسماءهم وغّيَّرَ أسمالهم، حتى غدوا أبعد ما يكونون عن العرب لساناً، وعن المسلمين ديناً.
أيها السادة احذروا أن تخونوا الأمانة وتفرطوا في القدس والمقاومة، وتتخلوا عن غزة وأهلها، وتخذلوا المقاومة ورجالها، وتبدلوا الآيات وتحرفوا القرآن، وتوالوا من حارب الله ورسوله، وتتحالفوا من نهب خيراتكم واستباح محرماتكم وقتل أبناءكم، واعلموا أن التاريخ لا ينس من فرط في الأرض والمقدسات، ولا يرحم من تهاون في الحقوق وخان الأمانات، واعلموا أن فلسطين في أعناقكم أمانة، وفي كتاب ربكم عز وجل آية، وفي قلوب أمتكم وصية، فمن فرط فيها كفر وخان، ومن خذل أهلها ذل وهان، ومن انتصر لها عاش وكان، وخلد اسمه بأحرفٍ من نورٍ على هام الزمان.
بيروت في 12/7/2024
moustafa.leddawi@gmail.com
المصدر: سواليف
كلمات دلالية: طوفان الأقصى
إقرأ أيضاً:
كيف أقنع ترامب المسلمين بالتصويت له؟
لا شك أن الانتخابات الأميركية أسفرت عن نتائج مفاجئة للغاية، فقد استحوذ ترامب على السلطة في مجلس النواب ومجلس الشيوخ والرئاسة.
كيف أمكن له ذلك؟ سيظل هذا الأمر محل نقاش في أميركا وفي الأوساط السياسية لوقتٍ طويل لكن من وجهة نظري، هناك أمران غريبان في هذه الانتخابات:
لماذا صوّت المسلمون لترامب؟ لماذا اختار المهاجرون ترامب رغم أنه يعاديهم؟
قضية غزة كانت في مقدمة اهتمامات الانتخابات الأميركيةبينما تعيش غزة ولبنان أعنف دمار في تاريخهما، قلنا جميعًا إن أكبر داعم لهذا الدمار هو الولايات المتحدة. فالقنابل التي تقتل الأطفال والنساء والمدنيين تأتي جميعها من أميركا، وحاملات الطائرات الأميركية في البحر المتوسط تحمي إسرائيل وتمنع الأمم المتحدة من اتخاذ القرارات.
وكما شاهدنا كل ذلك، فقد شاهدته الجالية المسلمة المقيمة في الولايات المتحدة. لهذا السبب، خرجت مئات الاحتجاجات في الشوارع تنتقد السياسة الأميركية وتندد بإسرائيل. وفي هذه الأثناء، زاد غضبنا بسبب الدعم غير المشروط الذي قدمه ترامب لإسرائيل.
صرح ترامب قائلا "كنت سأطلب من نتنياهو الإسراع" بالأمر، وهو ما يعني تنفيذ المجازر بأسرع وقت، وقد شجّع ذلك إسرائيل.
لهذا السبب، أجّل نتنياهو محادثات السلام حتى انتخاب ترامب، وعمّت أجواء من الاحتفال على شاشات التلفزيون الإسرائيلية ليلة الانتخابات. هم يعتقدون أن إسرائيل ستتمكن من تنفيذ مخططاتها بسهولة أكبر بوجود ترامب. لهذا كانت قضية غزة من أكثر المواضيع تداولًا في الانتخابات الأميركية.
كان الجميع يظن أن مسلمي الولايات المتحدة لن يصوّتوا لترامب، ولكن ما حدث هو عكس ذلك تمامًا. وقد أثار ذلك دهشتي بشكل كبير.
لفهم هذا الأمر، تواصلتُ مع صحفيين يراقبون الانتخابات في الولايات المتحدة ويتابعون السياسة هناك. وبعد الاستماع إليهم، كوّنت تصورًا مختلفًا عن دوافع المسلمين. لكن قبل ذلك، سأروي ملاحظاتهم من قلب الانتخابات.
لنأخذ مثالًا من ميشيغان، إحدى الولايات المتأرجحة. في هذه الولاية، فازت رشيدة طليب، المدافعة القوية عن القضية الفلسطينية، بمقعد في الكونغرس بأغلبية ساحقة، بينما خسر مرشح حزبها الديمقراطي الانتخابات الرئاسية في هذه الولاية.
أحد الأسباب الرئيسة لذلك كان استياء المجتمع المسلم من تعامل إدارة بايدن مع قضية غزة. كان لإدارة بايدن دور كبير في المجازر التي وقعت في غزة، وتجاهلت احتجاجات المسلمين في الولايات المتحدة، ولم يصدر عنها أي تصريح يبعث على الأمل خلال الحملة الانتخابية.
إضافة إلى ذلك، تجاهل الديمقراطيون ولاية ميشيغان تمامًا خلال الحملة الانتخابية. ورغم أن المسلمين في الولاية أرادوا لقاء كامالا هاريس، لم تُعقد أي لقاءات، ولم تكن هناك زيارات أو تصريحات. لقد تجاهل الديمقراطيون المجتمع المسلم كليًا.
أما ترامب، ففاجأ الجميع بتكثيف حملته في ميشيغان. علّق لافتات باللغة العربية، وقام بتعليق بعضها بنفسه، والتقى بالأئمة وممثلي المجتمع المحلي، والتقط معهم الصور. كما كرر وعوده بـ"إنهاء الحروب"، دون تحديد أي حروب كان يعنيها. كان المجتمع المسلم على دراية تامة بموقف ترامب العدائي تجاه المسلمين ودعمه القوي لإسرائيل، لكنهم كرهوا حكم الديمقراطيين ورأوا في كامالا هاريس شخصية عاجزة، ولذلك قرروا المخاطرة.
هل أصبح "عدم اتزان" ترامب ميزة؟خلال فترة رئاسته الأولى، رأى الجميع مدى عدم استقرار ترامب وتذبذبه. لكن في هذه الانتخابات، تحولت هذه الصفة إلى ميزة. رأى المجتمع المسلم أن الديمقراطيين ونائبة الرئيس هاريس لن يفعلوا شيئًا وأنهم يفتقدون الكفاءة، واعتقدوا أن "ترامب قد يغير قراراته فجأة، وقد يتخذ خطوة غير متوقعة، وقد يُغير المعادلات. على الأقل، هو ليس عاجزًا مثل كامالا هاريس".
لهذا السبب، رأوا أن المخاطرة تستحق العناء، وفضلوا انتخاب رئيس جديد يبدو أقوى من هاريس. وفي الوقت نفسه، هناك أحاديث في الكواليس تشير إلى أن فريق ترامب قدّم وعودًا للمجتمع المسلم خلف الأبواب المغلقة.
المهاجرون خاطروا أيضًاتنطبق على المهاجرين مشاعر المخاطرة نفسها. فالمهاجرون من الطبقة الوسطى الذين أفقرتهم إدارة بايدن صوّتوا لترامب الذي وعد بطرد اللاجئين غير الشرعيين وبناء جدار على الحدود مع المكسيك. لقد وجدوا في الديمقراطيين نخبة غير مهتمة بهم، وكامالا هاريس غير كفؤة. لذلك اختاروا -كما فعل المسلمون- المخاطرة بانتخاب شخص قوي وطموح، على أمل أنه في أسوأ الحالات لن يهدد المهاجرين المقيمين بشكل قانوني. تمامًا مثل المسلمين، عوّلوا على طبيعة ترامب المتقلبة وغير التقليدية، وقرروا منحه أصواتهم. ويبقى السؤال، هل سيتخذ ترامب قرارات تُرضي هاتين الفئتين حقًا؟
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية