سودانايل:
2024-12-28@01:35:49 GMT

إيقاف وإنهاء الحرب – ولكن كيف؟ (6-8)

تاريخ النشر: 12th, July 2024 GMT

د. شمس الدين خيال
المانيا، 11.07.2024

في الجزء الأول من هذه الورقة تم تسليط الضوء علي ما استخلصته الابحاث العلمية عن السلام والصراع Peace and) Conflict Research ) من سيناريوهات أساسية لإيقاف وانهاء الصراعات المسلحة والاشكاليات العسكرية والسياسية المرتبطة بهدن القتال وبتجميد الحروب كأليات لإيقافها وكتمهيد لأنهائها.

وتم في ذلك تقديم بعض الامثلة لمجري بعض الصراعات المسلحة، التي جرت في الماضي والجارية في الحاضر، بما فيهم الصراع المسلح الجاري الآن في السودان بين "الجيشين الرسميين". ومثلت الثلاثة السناريوهات الاساسية لإيقاف وانهاء الصراعات المسلحة، التي استخلصتها الابحاث العلمية:
1- الدبلوماسية السياسية
2- ضغوطات الانهيار الاقتصادي، أو، والانفجارات الشعبية السياسية العريضة والقوية
3- الانتصار العسكري لإحدى الفريقين المتحاربين على الآخر
والتي تبلورت عبر مجري تاريخ البشرية، محور الجزء الأول. وفي الجزء الثاني تم تسليط الضوء علي طبيعة الجيشين الرسميين المتحاربين - المنظومة الدفاعية والامنية متمثلة في الجيش القومي وعلي جزور وتطور القناعات السياسية والاقتصادية لقياداتها العليا، وقوات الدعم السريع، التي نشأت قبل تكوينها كمؤسسة أمنية لحراسة الحدود، وقبلها كميلشيات قبلية اثنيه تحت مسمى "الجنجويد"، تحت مظلة "جهاز الامن والمخابرات" وتحت ائتمار رئيس الدولة، عمر البشير، كوحدة قتالية لدعم القوات المسلحة في حربها ضد الحركات السياسية المسلحة في دارفور وفي جبال النوبة والنيل الأزرق. وجري هذا التسليط تحت مفهوم ضرورة الفهم لطبيعة الجيشين الرسميين المتحاربين وللداعمين لهم في الداخل، ولأسباب حدوث واستمرار الحرب، كشروط أساسية لنجاح أي عملية دبلوماسية لإيقاف ولأنهاء الحرب الجارية.
في الجزء الثالث تم تسليط الضوء علي الوضع الميداني، وعلي القوة العسكرية العتادية والبشرية والمادية لطرفي الحرب، بعد عام من اندلاعها. في ذلك تم التعرض للعوامل المؤثرة في "نضوج الصراعات" لأنهائها، والمتمثلة: في السيطرة العسكرية في ميدان الحرب، والاستقطاب والاستنفار للمواطنين ودوافعهم وتداعياتهم العسكرية والسياسية والإجتماعية، والوضع العسكري العتادي والبشري للفريقين، والتدمير، الذي طال المنشئات الصناعية العسكرية اثناء القتال وبسبب النهب والتخريب، والعزلة السياسية الخارجية للفريقين، والحظر الاقتصادي الخارجي علي كيانات وأفراد ذات صلة بالحرب. وفي الجزء الخامس تم تسليط الضوء – في ظل التطورات الأخيرة والمتوقعة في الجبهات المختلفة - علي المواقف المختلفة للجيشين الرسميين المتحاربين؛ المرتبكة والمتخبطة والمتذبذبة والمتناقضة لقيادات الجيش والموحدة والثابتة لقيادة قوات الدعم السريع، تجاه الحل الدبلوماسي لإيقاف وأنهاء الحرب. كل هذه الاجزاء من الورقة تم نشرها علي هذا الموقع تحت عنوان: إيقاف وإنهاء الحرب – ولكن كيف؟
في هذا الجزء السادس يتم بموجب مفهوم ضرورة تواجد شروط لحالة نضوج الحرب لإيقافها وانهاءها، التعرض للتداعيات الانسانية للحرب كعامل مهم - بجانب العوامل الاخرى، التي تم التعرض لها في الاجزاء السابقة -، والتي لحدوث انفجارات شعبية سياسية عريضة وقوية، تسهم في إيقاف وإنهاء الحرب.
وكما هو معلوم للجميع، تجري هذه الحرب وحدوث الفظائع المرتكبة من قبل محتسبي الجيشين الرسميين المتحاربين ومن قبل المتحالفين معهم، الي حدا كبير بعيدا عن اعين ومراقبة الاعلام الداخلي والخارجي. تبعاً لذلك لا يتوقع الحصول علي احصائيات حقيقية ودقيقة. رغم ذلك، ومثل ما تم في الاجزاء السابقة، يعتمد هذا الجزء، ايضاً، علي البيانات والتقارير والتصريحات الصادرة عن المنظمات والمؤسسات العالمية والاممية والاقليمية والقومية المتداولة في وسائل الاعلام المحلية والعالمية، وذلك بعد التدقيق -بقدر الامكان- في مصداقيتها، لرسم صورة عن حجم التداعيات الإنسانية للحرب. في ذلك سوف يتم نشر هذا الجزء، في جزئيين متتاليين.

التداعيات الإنسانية للحرب الجارية!
(الجزء الأول)
الحرب بين الجيشين الرسميين، التي اندلعت في صبيحة الخامس عشر من أبريل 2023، في الخرطوم وانتقلت بعد أيام قليلة الي دارفور ثم كردفان وبعد أكثر من ستة أشهر الي ولاية الجزيرة، ثم سنار، وبعد عام الي ما سميت بالمناطق الآمنة– عبر القصف الجوي بالطائرات المسيرة -، مثل ولاية النيل والشمالية والقضارف، تبحث عن مثيلتها في ما يخص التداعيات الإنسانية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية، منذ بداية هذا القرن، في العالم. في ذلك، أكد "مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا)" بأن الحرب الدائرة في السودان "تغذي كارثة إنسانية ذات أبعاد أسطورية لا نهاية لها".
1. الاوضاع الإنسانية بعد أكثر من عام علي اندلاع الحرب
بجانب الاوضاع المأساوية في اوكرانيا وفلسطين وميانمار دعت الأوضاع الإنسانية بسبب الحرب بين الجيشين الرسميين في السودان، بابا الفاتيكان، فرانسسكوس، في الثاني من يونيو من هذا العام، في "صلاة يوم الأحد،"، الي دعوة "المؤمنين" للصلاة من اجل السودان. ودعا فرانسسكوس المتحاربين الي "اسكات صوت السلاح، والمجتمع الدولي لتوصيل المساعدات الإنسانية الي المواطنين والمتأثرين بالحرب، وقال "May the sudanese Refugees find welcome and protection in neighboring conteries"، أي أن يحصل السودانيين علي الترحيب والحماية في دول الجوار"، ووجه نداء إلى حكام العالم، "لتفادي تصعيد التوتر وبذل كل الجهود الممكنة من أجل الحوار والتفاوض".
وتتمثل الكارثة الانسانية، التي تجري وتتعمق مع كل يوماً جديد لاستمرار الحرب في السودان، في الظواهر والاوجه التالية:
1.1 الموت والاصابات بسبب القتال
حسب التقارير الواردة من منظمات حقوق الإنسان الحكومية وغير الحكومية العالمية والسودانية، تسببت الحرب الدائرة في السودان بين الجيش وقوات الدعم السريع، منذ اندلاعها الي بداية هذا العام، في قتل ما بين 14 الي 16 ألف، وجرح نحن 28 ألف مواطن ومواطنة بسبب إطلاق النار. وتنطلق "مكاتب الأمم المتحدة المعنية بحقوق الإنسان" من قتل أكثر من 14 ألف واصابت اكثر من 33 ألفا، مع ارتفاع لمعدلات الموت أثناء رحلة النزوح، وبسبب تصاعد المعارك والقصف الجوي العشوائي في دارفور، خصوصا في وحول الفاشر. وحسب احصائيات وردت في "صحيفة النيويورك تايمز" في الخامس من يونيو الجاري، تنطلق الادارة الأمريكية من مقتل 150 ألف شخص من المقاتلين والمدنيين، منذ اندلاع الحرب. وتتحدث التقارير الطبية المختلفة عن تفاقم عمليات البتر المتعددة لأطراف المصابين نتيجة إصابات خطرة بالرصاص والذخيرة. ويتسبب تزايد عمليات البتر بسبب الاصابات المرتبط بالقتال في ساحات الحرب في تفاقم أعداد المعاقين في البلاد، وذلك في وضع منهار لهياكل الرعاية الاجتماعية والصحية لذوى الاحتياجات الخاصة. وينطلق كثيرا من المراقبين من أرقام اعلا لأعداد الموتى والمصابين من الفريقين المتحاربين ومن المدنيين.
وفي بيانها الاخير كشفت المديرة التنفيذية لدي "منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف)"، كاثرين راسل، عن مقتل وإصابة أكثر من 3,800 طفل منذ اندلاع الحرب. وكشفت راسل عن تقارير تفيد بمقتل أو إصابة أكثر من 400 طفل في شمال دارفور خلال سبعة اسابيع، بسبب القتال المكثف في مدينة الفاشر ومحيطها. وقبلها كشف تقرير الأمم المتحدة للعام السنوي "بشأن الأطفال والنزاع المسلح" عن ووقوع ما لا يقل عن 1721 انتهاكاً جسيماً ضد الأطفال في العام الماضي. وحسب "هيئة إنقاذ الطفولة" التابع للأمم المتحدة، تمثل هذه الارقام ارتفعا بمعدل 600% لعدد الأطفال الضحايا أو المصابين أو الذين تعرضوا لانتهاكات جسيمة أخرى، مقارنة بعام 2022 . علي سبيل المثال فقد في الأيام الاولي للحرب 69 من أصل 385 نزيلا من الأطفال في "دار المايقوما للأطفال فاقدي السند" ارواحهم بسبب القتال. وبخصوص اوضاع الاطفال في مناطق ومركز النزوح، قال آدم رجال الناطق باسم "منسقية النازحين واللاجئين"، في لقاء مع "صحيفة التغيير الالكترونية: "..إنسان دارفور محكوم عليه بالموت إما بالقصف الجوي أو المدفعي أو انعدام الغذاء والدواء".

2.1 النزوح والتشريد
حسب التقارير الواردة من المنظمة الدولية للهجرة، المنشور في 13 يونيو من هذا العام، تسببت الحرب الجارية بين الجيشين الرسميين، منذ اندلاعها في 14 أبريل 2023، في نزوح 7,72 مليون شخص داخل، و1,9 مليون خارج البلاد، معظمهم إلى تشاد وجنوب السودان ومصر، وبتزايد في الشهور الاخيرة الي ليبيا واوغندا وافريقيا الوسطي. وبإضافة 2,83 مليون نازح قبل اندلاع الحرب الجارية - بسبب الصراعات المتعددة، التي حدثت في دارفور منذ 2003 – يصل عدد الذين اجبروا علي النزوح من ديارهم الي 10,8 مليون شخص. ويعني هذا الرقم، أن نسبة المواطنين، الذين اجبروا علي النزوح من ديارهم - منذ اندلاع الصراع السياسي المسلح داخل نظام الانقاذ في عام 2003 – تصل الي حوالي 22٫5% من سكان السودان، الذين يقدر عددهم ب48 مليون نسمة. وتمثل نسبة الإناث 52%، فيما يمثل الزكور 48% من جملة النازحين. ورصدت منظمة اليونيسيف نزوح أكثر من أربعة ملايين طفل، أي نسبة 55% من جملة النازحين. وتعتبر هذه النسبة: "اعلا نسبة نزوح للأطفال علي مستوي العالم"، حسب نفس المصدر. تبعاً لهذه الاحصائيات المقدرة، يمثل عدد الذين اجبروا علي النزوح في السودان نسبة 9,21% من جملة 117,3 مليون إنسان اجبر علي النزوح بسبب الصراعات المسلحة، واثار التغيير المناخي ...الخ في العام الماض. بذلك يحتل السودان المقام الأول في قائمة الذين اجبروا علي النزوح، علي مستوي العالم.
وبسبب تصاعد القتال في وحول مدينة الفاشر تنطلق منظمة الهجرة الدولية التابعة للأمم المتحدة، من فرار حوالي 329 ألف شخص من الفاشر، في الفترة من أول أبريل الي نهاية يونيو الماضين، في الوقت الذي تستضيف فيه محلية الفاشر أكثر من 737 ألف نازح من بين مليون و488 ألف نازح يقيمون في ولاية شمال دارفور. أما شبكة نساء القرن الأفريقي (صيحة) تقدر عدد الذين اجبروا علي النزوح من سنجة، عاصمة ولاية سنار بعد احتلالها من قوات الدعم السريع بحوالي 55440 شخصاً. وتقدر مكاتب الأمم المتحدة عدد الذين اجبروا علي الفرار من ولاية سنار منذ بداية يونيو الماضي، وبعد سيطرة قوات الدعم السريع علي مدينة سنجة، بحوالي 136 ألف.
ويعاني معظم النازحين، سواء الذين نزحوا في الداخل أو الي خارج البلاد، خصوصا الي مصر وتشاد وجنوب السودان واثيوبيا من اوضاع إنسانية في غاية السوء. في ذلك انتقدت منظمة العفو الدولية السلطات المصرية لقيامها باعتقالات جماعية للفارين من الحرب وترحَليهم بشكل منافي للقانون الدولي الخاص بالفارين من الحروب. واشارت التقرير الاخير لمفوضية اللاجئين الي تواجد 75 ألف طفل لاجئ في مصر لا يذهبون الي المدارس. وتناشد "تنسيقية اللاجئين السودانيين" في إقليم أمهرا الإثيوبي، المنظمات الإنسانية ومفوضية اللاجئين التابعة للأمم المتحدة للتدخل العاجل لإنقاذهم من الأوضاع الكارثية التي يعيشها 6080 نازحا، ومن بينهم 2135 طفلًا. واكدت المفوضية السامية للأمم المتحدة إن أكثر من 600 ألف شخص، من بينهم 180 ألف تشادي، غالبيتهم من النساء والأطفال، اجبروا علي الفرار إلى تشاد، وأن "ثلث الوافدين الجدد يعيش في ظروف مزرية في مواقع عشوائية على طول الحدود".
3.1 خطر المجاعة
ارتباطا بتفاقم وتسارع تدهور الأوضاع الإنسانية بسبب امتداد القتال الي 12 ولاية في البلاد من أصل 18، وتكثيفه في اقليم دارفور وكردفان والنيل الأبيض في ولايتي الجزيرة وسنار، وبداية موسم الخريف وما يرتبط به من كوارث طبيعة وتدمير للطرق المعبدة، تكاثفت في الآونة الأخيرة دعوات أممية ودولية ترمي إلى "تجنيب السودان كارثة إنسانية قد تدفع بالملايين إلى المجاعة والموت، جراء نقص الغذاء بسبب القتال...". وينطلق المسؤولين في الأمم المتحدة من حاجة ما يقرب من 25،60 مليون شخص، أي اكثر من نصف سكان السودان، إلى مساعدات إنسانية من غذاء ومأوي ودواء... . حيث يعاني بالفعل، نحو 18 مليون شخص من الجوع الحاد، و3.6 مليون طفل من سوء التغذية الحاد، حسب التقارير الواردة من الأمم المتحدة. وتنطلق نفس التقارير من استطاعة "أقل من 5% من السودانيين ... تأمين وجبة كاملة في اليوم". وحسب تقرير صدر حديثا عن " Clingendael Institute" الهولندي، يمكن أن يتعرض بحلول شهر سبتمبر القادم ما لا يقل عن ،2,5 مليون سوداني للموت بسبب الجوع.
واكدت ممثلة اليونيسف في السودان، مانديب اوبراين، أن 14 مليون طفل بحاجة ماسة إلى مساعدات إنقاذ الحياة، بينهم 7.5 مليون طفل لا يتحصل علي مياه الشرب النظيفة. وحسب البيان الصحفي للمديرة التنفيذية لليونيسف، كاثرين راسل، في 27 يونيو الجاري من مدينة بورتسودان، يعاني ما يقارب 4 ملايين طفل دون سن الخامسة من سوء التغذية الشديد، ويتوقع أن "يواجه 730,000 منهم تهديداً وشيكاً بالوفاة". في اللقاء المذكور اعلاه مع ادم رجال، المتحدث باسم "منسقية النازحين واللاجئين"، اكد أن معسكر كلمة في نيالا بجنوب دارفور، والذي يأوي 520 ألف نسمة يوجد به 548 طفلاً يعانون من سوء التغذية الحاد، ويموت هناك طفلا كل ساعتين. واشار رجال الي وفات 991 شخصا من الأطفال والنساء وكبار السن، بسبب سوء التغذية.
إرتباطاً بتفاقم الكارثة الإنسانية في جبهات القتال المختلفة، خصوصا في دارفور والخرطوم والجزيرة وسنار وكردفان، أصدر مؤخرا، رؤساء 19 منظمة إنسانية عالمية واممية تحذيرا للفريقين المتحاربين، جاء فيه أن ،".. وضعهم للعقبات أمام انسياب المساعدات سوف يعني المزيد من الموت، وذلك إذا لم يسمحوا بتقديمها بصورة سريعة وواسعة النطاق". وفي مؤتمر صحفي في جنيف، في يونيو الماضي من هذا العام، قال المتحدث باسم "مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا)"، يانس لاركيه، إن المجاعة "من المرجح أن تترسخ في أجزاء كبيرة من البلاد، وسوف يفر المزيد من الناس إلى البلدان المجاورة، وسيتعرض الأطفال للمرض وسوء التغذية، وستواجه النساء والفتيات المزيد من المعاناة والمخاطر". وفي تقريرها الاخير، اوضحت "شبكة الإنذار المبكر" التابعة ل"وكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID)"، بإنّ السودان يواجه "..خطر المجاعة من المرحلة الخامسة من التصنيف الدولي" أي مرحلة الكارثة أو المجاعة، وأن تدهور الوضع الوارد ينذر بالدخول الي "مرحلة الطوارئ". وأشار التقرير إلى تصاعد مستويات سوء التغذية والوفيات المرتبطة بالجوع بين السكان والنازحين في 14 منطقة في البلاد، والتي تتركز فيها نسبة عالية من النازحين، مثل الفاشر في ولاية شمال دارفور، وجنوب كردفان وجبل مرة، وفي الخرطوم. ويشير تقرير الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية الي ورود حدوث تفاقم للكارثة الإنسانية في مناطق القتال، خصوصا في الفاشر، بسبب تطويقها من قبل قوات الدعم السريع منذ شهور، وارتفاع حدة القتال بينها وبين الجيش وقوات الحركات السياسية المسلحة المتحالفة معه. في هذا المضمار، قالت منظمة أطباء بلا حدود إن هناك حالات إنسانية صادمة بين الأطفال والحوامل والأمهات وكبار السن، الذين يعانون من سوء التغذية الحاد ونقص الدواء والغذاء والشراب والسكن داخل معسكرات النزوح بدارفور.
وأكد خبراء لحقوق الإنسان تابعين للأمم المتحدة أن "حجم الجوع والنزوح الذي نراه في السودان اليوم غير مسبوق ولم نشهده من قبل"، وأن الجيش وقوات الدعم السريع "يستخدمون الغذاء كسلاح مما أدى إلى تجويع ملايين المدنيين ..". كذلك، وفي هذا المضمار وجه "مكتب الشؤون الإنسانية (أوتاشا)" التابع للأمم المتحدة اتهامات الي "حركة تحرير السودان" بقيادة عبدالواحد محمد نور، بوضعها عقبات تعيق وصول المساعدات الإنسانية للمتضررين من الحرب، في مناطق سيطرتها.
4.1 تفشي الاوبئة والامراض المعدية وانعدام الأدوية المنقذة للحياة
في النصف الثاني من بداية الحرب وردت أخبار وتقارير عديدة عن أنتشار لأمراض وبائية، مثل الكوليرا والتيفويد وفيروس الكبد الوبائي والنزلات المعوية في مناطق القتال وفي معسكرات النازحين والفارين من الحرب، وفي أجزاء اخري من البلاد. وبنهاية العام الماضي أكدت وزارة الصحة السودانية عن تجاوز حالات الاصابة المسجلة بالكوليرا 9600 وموت 267 مصاب. وينطلق المسؤولين والمتخصصين من عدد عالي الاصابات بالكوليرا والوفيات بسببها، علي مستوي كل الاقاليم، وخصوصا في البحر الاحمر.
وبسبب تكدس وتحلل الجثث في العراء ونبش الكلاب الضالة والطيور الجارحة لها، تعيش مدن العاصمة الثلاث، الخرطوم والخرطوم بحري وأمدرمان، في وضع صحي عام في غاية السوء. حيث تنتشر الجثث المتحللة والمنتفخة، وتتكدس العديد من الجثامين على الطرقات والأزقة داخل الاحياء السكنية وفي الاسواق والميادين، دون دفن. وبسبب عدم القدرة على الدفن في المقابر تم دفن جثامين داخل المنازل والميادين القريبة بطريقة عشوائية. وبسبب نقص الطاقة الاستيعابية وعدم وجود الكادر الطبي، علاوة على قطوعات الكهرباء والاعطال الفنية المتعددة خرجت معظم مشارح الخرطوم عن الخدمة، وتحللت الجسامين المحفوظة فيها. وينذر ذلك الوضع بكارثة صحية في فصل الخريف، باحتمال اختلاط مخلفات الجثث بمصادر المياه. في هذا المضمار أعلنت غرفة طوارئ الجريف غرب عن وفاة 32 مواطن، خلال أسبوع واحد، بسبب تفشي حميات، "يُرجح أنها بسبب المياه غير الصالحة للشرب"، وسوء التغذية.
وحسب البيان الصحفي للمديرة التنفيذية لليونيسف، كاثرين راسل، في 27 يونيو الجاري من مدينة بورتسودان، أن "مئات آلاف الأطفال.. معرضون لخطر الوفاة" بسبب "تراجع تغطية التحصين بسبب القتال والقيود على إمكانية الحصول على الخدمات، ومع التفشي الجاري لأمراض من قبيل الكوليرا والحصبة والملاريا وحمى الضنك". وبخروج عدد كبير من المستشفيات من الخدمة في جبهات القتال المختلفة وانهيار الاقتصاد القومي ومعه سلسلة الامداد التجاري الداخلي والخارجي تعاني البلاد من نقص حاد في الأدوية والاجهزة الطيبة المنقذة للحياة. واشارت "منظمة الصحة العالمية"، في عدة تقارير إلى انهيار النظام الصحي في السودان خاصة في مناطق القتال، وفي المناطق التي يصعب الوصول إليها والتي تعاني نقصاً كبيراً في الموظفين والأدوية والمعدات، كما اشارت الي خروج 70% من المستشفيات في السودان عن الخدمة، كلياً أو جزئياً.
وارتباطا بخروج عدد من "المراكز العلاجية التخصصية" مثل مركزي الأورام في مدينتي الخرطوم ومدني يضطر المرضى إلى البحث عن مراكز اخرى مثل مركز مدينة القضارف في الشرق، ومروي في شمال, الأمر الذي يرتبط بتكلفة عالية للترحيل والاقامة والعلاج، يصعب علي المرضي وذويهم الايفاء بها. واكدت منظمة الصحة العالمية، علي ان الإمدادات الطبية لا تلبي سوى 25% من الاحتياجات. وصرح "مدير المراكز القومية لعلاج الأورام بالسودان"، دفع الله عمر أبو إدريس، بأن "ما لا يقل عن 20% من مرضى السرطان لقي حتفهم في منازلهم أو في المراكز، لعدم توفر العلاج أو صعوبة مغادرة بيوتهم".
5.1 الحرمان من التعليم
منذ اندلاع الحرب تعطلت الدراسة في جميع المستويات التعليمية، وعلى نطاق واسع من البلاد، عدا بعض الولايات الخارجة عن نطاق القتال، والتي تستمر فيها الدراسة بصورة جزئية وغير مستقرة. وحسب التقارير الواردة من منظمات أميمة مختلفة، لا يتلقى منذ اندلاع الحرب حوالي 19 مليون طفل - من أصل 24 مليون طفل في السودان - للتعليم المدرسي. وفي حالة استمرار الحرب لعام اخر، قد يصل العدد الي 21 مليون – عند وصول حوالي 2 مليون طفل سن الدراسة. مقارنة بهذا العدد، كان قبل اندلاع الحرب هناك 7 ملايين طفل خارج نطاق التعليم، أي ما يعادل واحد من كل ثلاثة أطفال. وحسب احصائيات مقدمة من "المجلس القومي للطفولة" في السودان، نزح منذ بداية الحرب حوالي 3 مليون طفل في سن الدراسة من إقليم دارفور، و2.5 مليون من ولاية الخرطوم، و1,2 مليون من اقليم كردفان الي داخل وخارج البلاد. وصرحت لجنة الأمم المتحدة المعنية بحقوق الطفل، بإن 24 مليون طفل سوداني معرضون لخطر "كارثة عابرة للأجيال"، وإن حقوقهم في الحياة والبقاء والحماية والتعليم والصحة والتنمية قد انتهكت بشكل خطير بسبب الحرب الجارية.
وحسب إحصائيات متداولة، تضرر نحو 40% من المؤسسات التعليمية بولاية الخرطوم، وتعرض 60% منها للتخريب والنهب، وتضررت 900 مدرسة بولاية الجزيرة و 401 مدرسة بولاية القضارف، وتستخدم مئات المدارس كملاجئ للنازحين، في أكثر من 9 ولاية. وترفض "لجنة المعلمين السودانيين" استأنف الدراسة في ظل الحرب بسبب عدم وفاء سلطة الأمر الواقع "بصرف استحقاقات المعلمين، وتوفير مساكن مناسبة للنازحين، وتوفير معينات العملية التعليمية الأساسية". واكدت اللجنة في عدة تصريحات وتقارير، بأن سلطة الأمر الواقع تتجاهل حقوق المعلمين والعاملين بالتعليم؛ حيث تم فقط صرف مرتبات لأربعة شهور من جملة أربعة عشر شهر منذ اندلاع الحرب.
ويحاول الآلاف من تلاميذ المراحل المدرسية المتقدمة، مواصلة تعليمهم في اما تسمي بالمناطق الآمنة. ولكن تقف عدة عوامل في طريق الحاق الطلاب النازحين في العملية التعليمية في المناطق الخارجة عن نطاق القتال، اهمها محدودية المقدرات الفنية والمادية والنقص الحاد في الكوادر التربوية – بسبب ضعف الاجور والهجرة بسبب الحرب – واستخدام مئات المدارس كملاجئ للنازحين. كذلك يحاول طلاب الدراسات العليا، مواصلة تعليمهم خارج البلاد أو في ما تسمي بالمناطق الآمنة، ولكن إغلاق الجامعات التي تتركز في العاصمة الخرطوم تحول دون حصول العديد منهم على الوثائق اللازمة لاستكمال دراستهم.
6. خلاصة
كل ما تم رصده أعلاه من احصائيات وتقارير وتصريحات لجهات أميمة وقومية وعالمية عن حجم التداعيات الإنسانية للحرب القائمة بين الجيشين الرسميين، التي اندلعت في صبيحة الخامس عشر من أبريل 2023، في الخرطوم وانتقلت بعد أيام قليلة الي دارفور ثم كردفان وبعد أكثر من ستة أشهر الي ولاية الجزيرة، ثم سنار، وبعد عام الي ما تسمي بالمناطق الآمنة، تشير الي حدوث "كارثة إنسانية" في السودان، تبحث عن مثيلتها في العالم منذ بداية هذا القرن. لذلك تدفع هذه الكارثة الإنسانية وتفاقمها المستمر المجتمع الدولي والفاعلين والمؤثرين السياسيين علي مستوي العالم، وعلي رأسهم بابا الفاتيكان للتفاعل معها، ولوضعها في اجندتهم السياسية عبر توجيه النداء لتقديم العون الإنساني المطلوب للمتأثرين، ولمطالبة الجيشين الرسميين بعدم استخدام "الجوع كسلاح في الحرب"، وحثهم علي استأنف المفاوضات في منبر جدة بهدف وقف إطلاق النار والتوافق علي ترتيبات انسانية وبناء ثقة تفضي الي انهاء الحرب.
ورغم الحشد الدبلوماسي والفعل الأممي والاقليمي لتقليل تداعيات هذه الكارثة الانسانية والحد من تفاقمها، تشير كل التقارير الواردة من جبهات القتال المتعددة، الي تزايد في عدد القتلى والجرحى من المدنيين، ولموجات النزوح، ولنقص الغذاء والدواء والمأوي. انيا، ينزر القتال الدائر حول مدينة الفاشر بتعرض ما يقرب من مليون مواطن لخطر الموت وللإصابات القاتلة وللنزوح، وبتزايد استخدام الجوع كسلاح في الحرب عبر عرقلة وصول المساعدات الإنسانية. وينزر هذا التفاقم المستمر للوضع الإنساني المزرى علي جبهات القتال المختلفة وما يرتبط بها من نزوح متزايد، ومتزامن مع نقص في المخزون الغذائي الناتج عن تقلص الإنتاج المحلي والواردات، وعن فشل الموسم الزراعي في مناطق الحرب، ومع النقص الحاد في التمويل المادي للمساعدات المطلوبة – حيث يتوفر فقط 19% من الاموال المطلوبة لتغطية الاحتياجات الاساسية للنازحين، حسب التصريح الاخير لمفوضية اللاجئين – بأن تصل البلاد الي حالة المجاعة، وعاجلا، الي "مرحلة الكارثة" أي الي "مرحلة الطوارئ"، ويصبح بذلك 2,5 مليون شخص مهدد بالموت بسبب الجوع بحلول شهر سبتمبر، كما يتوقع Clingendael Thinktanks الهولندي.
في ظل استمرار القتال، وتوسع سيطرة قوات الدعم السريع في جبهات القتال المختلفة، وتحت اعتبار كل المؤشرات العسكرية والسياسية والاقتصادية، والتي تنذر بتداعيات إنسانية أكثر سوء مما عليه الآن، يجب أن تنطلق عملية أميمة لتقديم العون المطلوب علي نطاق واسع لدرء خطر الوصول الي مرحلة الطوارئ، وموت آلاف من السودانيين في مناطق النزوح وفي جبهات القتال المختلفة. ويلزم تحقيق ونجاح مثل هذه عملية إنسانية، تكثيف للضغوطات السياسية والاقتصادية علي طرفي الحرب من قبل المجتمع الدولي ومؤسساته السياسية والقانونية والإنسانية، من اجل إن يقر طرفي الحرب علي إيقاف القتال فورا ولوقت غير محدود. في هذا الصدد، يأتي لمشروع قرار عاجل من مجلس الآمن، يحوي علي: حظر عسكري شامل وملزم، وتحديد مسارات آمنة لخروج المدنيين من مناطق القتال وانشاء مناطق آمنة لهم، وبداء نقل جوي("كباري جوية") لنقل المساعدات، دورا مهما.
ولتكثيف الضغوطات علي قادة الجيشين الرسميين المتحاربين للتوافق علي وقف لأطلاق النار، من غير حدا زمنيا، يجب رفع وتيرة المجهودات الدبلوماسية وتوسيع دائرة الحظر الاقتصادي علي الافراد والمكونات المرتبطة باستمرار الحرب، وتعزيز القرارات الأخيرة من مجلس الآمن بخصوص فك الحصار ووقف القتال الدائر حول مدينة الفاشر. في هذا الصدد، تعتبر مباشرة مجلس الآمن بعد اتخاذ القرار رقم 2740 بخصوص دعوة الفريقين المتحاربين لوقف التصعيد في الفاشر، بتكليف المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة، رمطان لعمامرة، لدعوة الفريقين المتحاربين للمشاركة في تداولات في مدينة جنيف بسويسرا، خلل هذه الأيام، للتوصل الي توافق حول إجراءات تضمن توزيع المساعدات الإنسانية على جميع المحتاجين، وتضمن حماية المدنيين، خطوة في الطريق الصحيح.
في الجزء الثاني من هذا الجزء سوف يتم تسليط الضوء علي جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية المرتكبة من أفراد ومجموعات محسوبة علي الجيش وعلي قوات الدعم السريع، منذ بداية الحرب!

shamis.khayal@gmail.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: التداعیات الإنسانیة المساعدات الإنسانیة قوات الدعم السریع الصراعات المسلحة منذ اندلاع الحرب بالمناطق الآمنة من سوء التغذیة الأمم المتحدة الحرب الجاریة للأمم المتحدة مناطق القتال مدینة الفاشر خارج البلاد بسبب القتال فی السودان ملیون طفل علی مستوی هذا الجزء منذ بدایة ملیون شخص هذا العام فی دارفور بین الجیش فی الجزء فی مناطق خصوصا فی فی الحرب أکثر من من جملة فی هذا فی ذلک من قبل من هذا

إقرأ أيضاً:

الحرب في السودان: مسار السلام، التعقيدات والتحديات

بروفيسور: حسن بشير محمد نور

منذ استقلال السودان في مطلع يناير 1956 يحلم السودانيون بالسلام وقد تمت عدة مبادرات واتفاقيات كان من ضمنها مؤتمر المائدة المستديرة في مارس 1965 بعد ثورة اكتوبر 1964، الا ان ذلك المؤتمر لم يكتب له النجاح. استمرت الحرب الاهلية التي اشتعلت في العام 1955، واستمرت في التصاعد خلال حكم الفريق ابراهيم عبود. بعد سقوط ذلك النظام وفشل مؤتمر المائدة المستديرة استمرت الحرب حتي العام 1972 بعد استيلاء الجيش بقيادة جعفر نميري علي السلطة في السودان في العام 1969م.
توصل نظام نميري لاتفاقية أديس أبابا في عام 1973 مع حركة "أنانيا"، التي حققت هدنة طويلة للحرب استمرت لعشرة سنوات، وهي الفترة الاطول التي يمكن القول بان السودان قد نعم فيها (بالسلام). وباعتبار السودان نموذجًا معقدًا في إدارة السلام بسبب تاريخه الطويل من الصراعات المسلحة وتنوع مكوناته الاجتماعية والسياسية، فقد شهدت مسيرة السلام تعقيدات حولتها من حلم لمعضلة شائكة حتي تحولت لسراب بعد اشتعال حرب ابريل 2023م.
مرت تلك المسيرة بمراحل متعددة كانت اتفاقية اديس ابابا أول محاولة جادة لإنهاء الحرب الأهلية الأولى (1955-1972) بين الشمال والجنوب، وتم التوصل إليها بعد سنوات من الصراع، وبالرغم من تحقيقها بعض النجاحات مثل منح الحكم الذاتي للجنوب، إلا أن نكوص حكومة نميري عن الالتزام بالتنفيذ الكامل للاتفاقية أدى إلى تجدد الصراع في عام 1983 بقيادة الحركة الشعبية لتحرير السودان، بقيادة الراحل جون قرنق.
بعد سقوط نظام نميري بانتفاضة شعبية في ابريل 1985 تم انتخاب حكومة مدنية برئاسة السيد الصادق المهدي. خلال تلك الفترة (1986 – 1989) حاولت الحكومه معالجة قضايا الحرب عبر الحوار مع الحركة الشعبية بقيادة جون قرنق. لكن هذه الجهود تعثرت بسبب عدم التوافق بين الأحزاب السياسية والقوى المسلحة، خاصة الخلاف حول قوانين 1983 التي سميت بقوانين (الشريعة الاسلامية) وبعض الاتفاقيات العسكرية مع دول الجوار.
بالرغم من تلك الخلافات تمت بعض المحاولات فضلاً عن الضغوط الإقليمية والدولية، فقد تم اعلان كوكادام في العام 1986 بين قوى سياسية سودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان، الا ان ذلك الاعلان لم يحقق اختراقا عمليا. جاءت بعد ذلك محاولة جادة من السيد محمد عثمان الميرغني زعيم الحزب الاتحادي الديمقراطي فيما عرف (بمبادرة السلام السودانية). تم الاتفاق في تلك المبادرة علي وحدة السودان، تجميد قوانين سبتمبر 1983 وترتيبات سياسية، الا ان السيد الصادق لم يوافق علي ما تم الاتفاق عليه، الي ان قطع انقلاب الحركة الاسلامية في يونيو 1989، عبر الجيش السوداني بقيادة عمر البشيرالطريق في وجه السلام، بحكم طبيعة الحركات الاسلامية غير القادرة علي العيش والازدهار الا في البيئات القذرة.ٍ.
الحرب الاهلية في عهد حكومة الانقاذ الاسلامية لم تشتد فحسب بل تحولت لحرب دينية مشحونة بشعارات التطرف والكراهية. بعد ان تم حشد المجتمع الدولي لقواه ضد تلك الحرب بشعاراتها مثل (امريكا روسيا قد دنا عذابها)، ضاق الخناق علي نظام الانقاذ سياسيا واقتصاديا مما اضطره لتوقيع اتفاقية السلام الشامل في العام 2005 مع الحركة الشعبية لتحرير السودان. أدت هذه الاتفاقية إلى إنهاء الحرب الأهلية الثانية، لكنها مهدت لانفصال جنوب السودان في العام 2011، بسبب عدم حل جذور الأزمة المتعلقة بالهوية والموارد ونظام الحكم، وبسبب فقدان الحركة الشعبية لزعيمها التاريخي جون قرنق المؤيد للحدة، في تحطم طائرة غامض اثناء عودته من اجتماع محضور دوليا في العاصمة اليوغندية كمبالا. في ذلك الوقت روجت الماكنة الاعلامية للاساميين بان مشكلة الحرب قد انتهت وان السودان اصبح متجانسا بحكم الدين واللغة بعد التخلص من الجنوب (المختلف)، ذلك بالطبع حسب ايدلوجيتهم ومشروعهم الذي اسموه (الحضاري)، مع ان السودان لن يكون متجانسا حتي اذا اصبح سكانه يساوون ما يملأ غرفة واحدة.
بالطبع معضلات السلام لم تنتهي عند ذلك الحد، فقد اشتعلت حربا ليس اقل ضراوة في دارفور في العام 2003 وقد استمرت تلك الحرب الي حين اكتمالها بشكل مأساوي لتعم جميع انحاء السودان في ابريل 2023.
بعد سقوط نظام البشير في العام 2019 بثورة شعبية نادرة من نوعها من ناحية شمولها الجغرافي والاجتماعي والتوافق حولها، قبل ان يتم اجهاضها بعوامل داخلية وخارجية متشابكة. بعد سقوط نظام البشير جاءت الحكومة الانتقالية التي تشكلت بمخاض عسير في اغسطس 2019، بما سمي (باتفاقية جوبا للسلام) مع عدد من الحركات المسلحة المسماة بحركات (الكفاح المسلح). ورغم أنها هدفت لتحقيق سلام شامل، إلا أنها لم تشمل جميع الأطراف الفاعلة في النزاع، مما جعل الاتفاقية عرضة للانهيا، وبسبب الضعف البنيوي والجماهيري لمكوناتها لم تجد حلا غير الانضمام للمكون العسكري المكون من القوات العسكرية والامنية وقوات الدعم السريع في عرقلة مسار التحول الديمقراطي، ومضت ابعد من ذلك بالانحياز لانقلاب 25 اكتوبر 2021 ومن ثم مشاركة اطرافها التي تبقت بعد الانقسامات في الحرب مع الجيش السوداني.
عند حدوث انقلاب 25 أكتوبر 2021 بقيادة الجيش والدعم السريع، والذي كان المقدمة الاساسية لاشتعال الحرب في ابريل 2023، ازداد تعمق الأزمة السياسية، وحدثت انقسامات واسعة بين المكونات المدنية والعسكرية. الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع كشفت عن تعقيدات جديدة، حيث انخرطت فيها أطراف داخلية وخارجية ذات أجندات متعارضة، بما في ذلك مليشيات إسلامية وقبلية وقوات أجنبية.
بعد الحرب اصبحت معضلة السلام اشد تعقيدا لعدة اسباب منها:
- تعدد الأطراف المتصارعة: من طرفي الجيش السوداني وقوات الدعم السريع ومن معهما من المليشيات القبلية والإسلامية، مما يصعب الوصول إلى توافق شامل.
- التدخلات الخارجية: اذ ان هناك جهات دولية واسعة المعلومات تؤكد دعم أطراف إقليمية ودولية لأحد الجانبين، كان اخرهم وزير الخارجية الامريكية بلينكن من منصة مجلس الامن الدولي، يزيد ذلك من تعقيد المشهد.
- تباين العقائد الأيديولوجية والمصالح الاقتصادية بوجود أطراف ذات توجهات متناقضة سواء دينية، سياسية، أو اقتصادية، واخري قبلية تسعى لتحقيق مكاسب من الحرب.
كل ذلك يشكل عقبات عظمى امام تحقيق السلام لاسباب منها:
- غياب الثقة بين الأطراف المتصارعة بحكم التاريخ الطويل من النقض المتبادل للعهود وللاتفاقيات مما يعيق أي حوار جاد للوصول لحل صلب.
- ضعف مؤسسات الدولة يجعلها عاجزة عن تنفيذ الاتفاقيات ومراقبة الالتزام بها.
- تدهور الاوضاع الإنسانية والاقتصادية ودمار البنية التحتية يجعل السلام ضرورة ملحة لكنه صعب التحقيق، بسبب عجز الكثير من المكونات السياسية والاجتماعية من الانخراط بشكل فعال في المشاركة وصنع القرار لاسباب ذاتية وللتضييق الامني من اطراف الحرب، كما ان الوضع الاقتصادي لملايين النازحين واللاجئين يجعلهم في كفاح يومي من اجل البقاء ويحد من أي نشاط مجدي لهم.
يخلق كل ذلك تداعيات سياسية واقتصادية واجتماعية بالغة الخطورة ليس اقلها:
- ان استمرار الصراع يؤدي إلى عزلة دولية وعدم استقرار داخلي ويجعل النظام السياسي هشا وفاقد للثقة.
- هروب الاستثمارات الوطنية والاجنبية وعزوف رؤوس الاموال عن التوظيف في الاقتصاد يؤدي لارتفاع معدلات الفقر والبطالة والبحث عن الهجرة الي الخارج كملاذ مصيري.
- من النواحي الاجتماعياً والديمغرافياً تفاقم الحرب النزوح الداخلي والانقسامات العرقية والقبلية، اضافة لتفشي خطاب الكراهية والاستهداف العرقي والجنساني.
تحقيق السلام يمرعبر طرق شائكة تتطلب حوار شامل تنخرط فيه جميع الأطراف الفاعلة دون استثناء وهذا يبدو امرا صعب التحقيق. كما يتطلب التزام دولي وإقليمي يدعم عملية السلام وضمان تنفيذ ما يتم الاتفاق عليه، وهو موضوع مكلف نسبة لتعقيدات الاوضاع في السودان واتساع رقعة النزاع. مع الاخذ في الاعتبار ان تحقيق السلام يحتاج لرتق النسيج الاجتماعي، اعادة الاعمار وإصلاح المؤسسات بما يحقق بناء مؤسسات وطنية قوية قادرة على تحقيق العدالة والتنمية، وهذا شرط وجودي لمستقبل أي سلام في السودان.
اذن معالجة جذورالازمة، الذي يعتبر شرطا وليا لتحقيق السلام، يتطلب التركيز على قضايا مثل الهوية، التنمية، قسمة وتوزيع الموارد، بذلك نجد ان تحقيق سلام مستدام في السودان يمر بطريق طويل يحتاج الكثير من العمل، اضافة لمشروع وطني متوافق عليه وهذا يحتاج بدوره لإرادة سياسية قوية وفاعلة من جميع المكونات السودانية، يعتبر ذلك هو الطريق الممهد للوصول الي ورؤية شاملة لتحقيق السلام ولمستقبل البلاد، تأخذ تلك الرؤية في الاعتبار تعقيدات المشهد الحالي والتحديات التاريخية وتصطحب الوقائع الموضوعية المتشابكة علي المستوى الاقليمي والدولي، بدلا عن التوهان وانعدام الرؤية الحالي وعقلية (دبلوماسية الحرد) التي تتبعها سلطات الامر الواقع.

mnhassanb8@gmail.com

   

مقالات مشابهة

  • منسق الأمم المتحدة باليمن: تعطيل مطار صنعاء يشل العمليات الإنسانية الدولية
  • الأمم المتحدة تعلّق رحلاتها الجوية الإنسانية عبر مطار صنعاء بعد غارات إسرائيلية
  • الأزمة السودانية في ليبيا: مفوضية اللاجئين تطالب بـ22 مليون دولار للاستجابة الإنسانية
  • الحرب الأهلية في السودان تخلّف أزمة إنسانية غبر مسبوقة: 150 ألف قتيل و12 مليون نازح
  • الحرب في السودان: مسار السلام، التعقيدات والتحديات
  • سقوط أول أسير كوري شمالي في الحرب الأوكرانية
  • الأمم المتحدة:  الهجمات الإسرائيلية على صنعاء تشكل مخاطر على العمليات الإنسانية
  • كم جيل نُضحي به لنواصل (حرب الكرامة)..؟!
  • رمطان لعمامرة: أمد الحرب في السودان طال لما لا يقل عن عشرين شهراً
  • تحذير أممي من خطر المجاعة في السودان