قراءة في كتاب: أطروحات ما بعد التنمية الاقتصادية: التنمية حريّة – محمود محمد طه وأمارتيا كومار سن (مقاربة)، تأليف عبد الله الفكي البشير، (5- 15)
تاريخ النشر: 12th, July 2024 GMT
بقلم بدر موسى
ماجستير برامج دعم التنمية في دول العالم الثالث (2000)، جامعة أيوا، الولايات المتحدة
يدرس حالياً في ماجستير التدريس والتعليم، جامعة أيوا، الولايات المتحدة
bederelddin@yahoo.com
يكشف كتاب عبد الله عن أن ما قدمه سن يتفق كثيراً مع ما طرحه طه منذ خمسينات وستينات وسبعينات القرن الماضي، وفصله في العديد من كتبه وأحاديثه.
الإسلام وهزيمة الخوف
البروفيسور كورنيل وست: "هناك ثلاثة جهود أساسية لدمقرطة العالم الإسلامي من قبل المسلمين أنفسهم.... آخر مجهود رئيس، يوجد في كتابات محمود محمد طه الثرية والثورية ... فعلى سبيل المثال، في بيانه، الرسالة الثانية من الإسلام، ينظر طه إلى الإسلام باعتباره أسلوب حياة شامل ينمي الحرية -هزيمة الخوف- من أجل حياة كريمة تسودها المحبة".
تحدث عبد الله بتوسع في كتابه عن التحرير من الخوف عند الأستاذ محمود، الأمر الذي لا وجود له عند البروفيسور سن، وغاب كذلك عن الكثير من المتخصصين في التنمية، بينما التقطه، كما يقول عبدالله، المفكر الأمريكي البروفيسور كورنيل وست في دراسته التي نشرها عن الأستاذ محمود محمد طه، ضمن كتابه: Democracy Matters: Winning the fight against Imperialism, (2005) (الديمقراطية همنا: كسب الصراع ضد الإمبريالية، 2005). أورد عبد الله ان البروفيسور وست. كتب، قائلاً: "ينظر طه إلى الإسلام باعتباره أسلوب حياة شامل ينمي الحرية -هزيمة الخوف- من أجل حياة كريمة تسودها المحبة". كما فصل عبد الله في كتابه رؤية الأستاذ محمود تجاه التحرر من الخوف باعتباره الطريق لاستئصال العبودية. وأوضح عبدالله بأن الحرية عند طه، أمرها أوسع بكثير مما هو عند آمارتيا سن. فقد كتب عبدالله، قائلاً:
"إن الشرط المركزي لنجاح عملية التنمية، عند طه، هو الحرية. كون الحرية، عنده، هي روح الحياة، فحياة بلا حرية، كما يقول، إنما هي جسد بلا روح... والحرية الفردية، عنده، تتطلب الحرية من الخوف الموروث، وهو ما لم يرد عند سن، والمترسب في أغوار النفس بسبب البيئة الطبيعية. وتقوم على الحرية من الخوف، كما يرى طه، حريتان اثنتان هما: الحرية من الفقر، والحرية من الجهل. والخوف من حيث، هـو، كما يرى طه، هو الأب الشرعي لكل آفات الأخلاق ومعايب السلوك. ولا سبيل للتحرير من الخوف، كما يقول، إلا بالعلم. فالخوف، عنده، جهل والجهل لا يحارب إلا بالعلم. العلم بحقيقة البيئة الطبيعية التي عاش، ويعيش فيها، والتي عن الجهل بها، نشأ الخوف في صدور الرجال والنساء، أول الأمر. ولا يكون التحرير من الخوف إلا بالعلم الذي يقود إلى اكتمال التـواؤم بين البيئـة الطبيعية، وبيـن الحيـاة البشرية".
عن ماهية التعليم ومادته وفائدته ووظيفته
أضاف عبدالله، قائلاً: "إن تحرير الفرد من جميع صور الخوف عبر العلم بدقائق حقيقة البيئة الطبيعية، يحقق للفرد الاتساق والتواؤم والتكيف مع البيئة، فينتفي الجهل. كما يستطيع أن يعيش في سلام من العداوات، والمجاعات والكوارث البيئية. ولذلك وجب، كما يرى طه، الاهتمام بإعطاء الفرد صورة كاملة، وصحيحة، عن علاقته بالمجتمع والكون. ويقول عبدالله إن الخوف، عند الأستاذ محمود، جهل، ولا سبيل للتحرير من الخوف، كما ورد آنفاً، إلا بالعلم. ويُعَرِّف الأستاذ محمود التعليم، قائلاً: "بإيجاز نُعَرِّف التعليم بأنه اكتساب الحي للقدرة". واكتساب القدرة يتصل بالعلاقة بين الإنسان والكون، فهي ظلت، كما يقول طه، مادة التعليم والتعلم، من لدن فجر الحياة البشرية وحتى اليوم. ولا ينفصل، عند الأستاذ محمود، التعليم وفائدته ووظيفته عن البيئة وعناصرها. فالتعليم هو تمليك الحي للقدرة، كما ورد آنفاً، وتَكمُن فائدة التعليم، كما يرى الأستاذ محمود، في مقدرة المتعلم أن يوائم بين نفسه وبين بيئته، كما أن وظيفة التعليم هي أن يأخذ المتعلم صورة كاملة وصحيحة عن البيئة التي يعيش فيها. ولكن من هو المعلم عند الأستاذ محمود؟ هو المعلم الواحد، الله، الله هو المعلم الأصلي، بينما المعلـم المباشر هو العناصر المتعددة في البيئة. والمادة التي يعلمها المعلم الواحد، الله، عند طه، هـي المقدرة على التواؤم بين الحي وبيئته. ويرى طه بأن كل عناصر البيئة حية، ولكنها حياة فوق إدراك العقول، ولا تصبح حيـاة في إدراك العقول حتى تخرج، من المادة غـير العضوية، المادة العضوية، وهـي ما تسمي، اصطلاحـاً، بالحياة. ولهذا فهو يقول: "الحياة أصدق من العلم". وما يجب ألا يغب على المرء أن مصدر رؤية الأستاذ محمود هو القرآن الكريم في مستوى آيات الأصول (الآيات المكية).
سعى عبدالله في هذا الكتاب، كما قال في خاتمته، إلى التعريف برؤية المفكر السوداني الإنساني محمود محمد طه
صاحب الفهم الجديد للإسلام، تجاه التنمية، من خلال إجراء مقاربة مع آخر أطروحات ما بلغه تطور الفكر التنموي في العالم: التنمية حرية. حيث أن التنمية ما هي إلا عملية توسيع في الحريات الحقيقية التي يتمتع بها الناس، وأن الإنسان هو محورها وغايتها، والحرية هي هدفها الأسمى ووسيلتها الأساسية. كما أن تحقيق التنمية لم يعد يتم بزيادة الدخل فحسب، وإنما عبر تعزيز قدرات الناس. فالقدرات تُمكن من فرص الاختيار وصنع الحياة، والحرمان منها يُمثل مقياساً للفقر أكثر اكتمالاً من مقياس الدخل. لقد دشن سن أطروحة: التنمية حرية، ضمن كتاب نُشر عام 1999. بينما طرح طه رؤيته تجاه التنمية منذ خمسينات وستينات وسبعينات القرن الماضي. عبَّرت هذه المقاربة عن نوع من أنواع اللقاء بين العقول الكبيرة، حيث كشفت عن اتفاق كبير، وتشابه في الأفكار والآراء التنموية بين طه وسن. الأمر الذي يجعلنا نقف، ونحن نعيد اكتشاف المشروع الفكري لطه، أمام رؤية فكرية تجاه التنمية تتسم بالعلمية والأصالة والجدة والثراء والثورية، إلى جانب المواءمة Relevance للواقع، فضلاً عن كونها تقع ضمن مشروع فكري كوكبي حيوي وواعد.
نواصل في الحلقة القادمة.
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: محمود محمد طه الحریة من عبد الله من الخوف کما یقول یقول عبد کما یرى عند طه
إقرأ أيضاً:
الوجود والهويات في عاصفة الرياح: قراءة في سردية «حديث الرياح» لسعاد محمود الأمين
إبراهيم برسي
٢٦ يناير ٢٠٢٥
تدعونا مجموعة «حديث الرياح» لسعاد محمود الأمين إلى رحلة وجودية تأخذنا إلى أعماق المعاناة الإنسانية في زمن الحروب. وتدفعنا إلى الدخول في قلب العاصفة، حيث تتلاطم الذات بين أوجاع الحرب وغموض الهوية، وتصبح الرياح أكثر من مجرد عنصر طبيعي؛ بل هي شخصية رمزية تشهد على هشاشة الإنسان وصراعاته المستمرة.
في هذه المجموعة، تُستخدم الرياح كرمز محوري للفوضى والخراب الذي تسببه الحروب، حيث تتحرك بين النصوص كشاهد على الألم الإنساني وكقوة خارجة عن السيطرة.
تقول إحدى الشخصيات:
«كانت الرياح توقظ أكثر النائمين تفانيًا، تمزق ستائر الليل وتعيد تشكيل المسافات، كأنها تستفزنا لنتذكر أين نقف ومن نحن».
الرياح هنا ليست مجرد حركة طبيعية، بل صوت الحروب الذي يوقظ ذاكرة الفرد من سباتها. إنها تعيد تشكيل الزمان والمكان، وتمزج بين الحاضر والماضي في محاولة لإجبار الشخصيات على مواجهة أوجاعها.
في نص آخر، نقرأ مشهدًا مؤثرًا حيث تهطل الأمطار بغزارة، مصحوبة برياح ذات صفير يقرع النوافذ. يقول السارد:
«يا إلهي، لقد تجرأت الرياح وكشفت عنها الغطاء».
في هذا المشهد، تندمج الرياح مع الأمطار لتكشف عري الحقيقة وتواجه الإنسان بحقيقته المجردة. كأنها صوت داخلي يجبر الفرد على مواجهة ذاته العارية، تلك الذات التي تتأرجح بين الخوف والرغبة في الخلاص.
من اللحظة الأولى، ندرك أن هذه المجموعة القصصية لا تقدم فقط شخصيات تبحث عن الخلاص؛ بل هي نصوص تبحث عن إجابات وجودية من خلال أسئلة كبرى حول الحرب، الموت، والانتماء.
كل قصة تبدو كأنها انعكاس لمواجهة فردية للألم الجماعي، حيث تروي الشخصيات معاناتها مع الأسر، القصف، والنزوح.
إحدى أبرز اللحظات في المجموعة تأتي عندما تصف الكاتبة الرياح وهي تهب على امرأة تقف على الشاطئ، تصرخ بصوت مرتفع:
«أين أنت يا سعدي… حورية البحر؟»
هنا، يتحول الشاطئ إلى فضاء رمزي، حيث الأمواج والرياح تصبحان شريكين في مأساة المرأة. صراخها ليس نداءً لشخص بقدر ما هو استدعاء لذاكرة قديمة أو حياة مفقودة. الرياح في هذه اللحظة لا تعصف بعالمها فقط، بل تعصف بذاتها، مما يجعلنا نعيش قلقها الوجودي.
الكاتبة، بأسلوبها الرمزي والتفصيلي، تضيف إلى قصصها حسًا فلسفيًا عميقًا يتجلى في تساؤل إحدى شخصياتها:
«أنا موجود… ولكن مَن الذي يناديني؟»
إن هذا السؤال يعكس الحيرة العميقة للإنسان أمام عالم مليء بالتناقضات. هل الوجود هو مجرد شعور ذاتي، أم أنه يحتاج إلى إثبات خارجي؟ هل تُعرف الذات بالآخرين أم بانعكاسها في مرآة الرياح؟
ما يجعل هذه المجموعة فريدة هو قدرتها على جعل الرياح عنصرًا حيًا، ليس فقط فيزيائيًا، بل سرديًا. فهي تتدخل في الأحداث لتكشف، تهدم، وتعيد البناء. الرياح تصبح شريكة الشخصيات، شاهدة على معاناتها، وناقلة لرائحة الموت والصراخ.
إلى جانب الرياح، يبرز في المجموعة تأثير الحرب على الحياة اليومية. يظهر ذلك في مشاهد الأسرى الذين يعيدون اكتشاف ذواتهم في الزنازين المظلمة.
هذا المشهد يظهر الرياح كعامل يربط السجين بعالم خارجي أكبر، لكنه في الوقت نفسه يجبره على إعادة النظر في معنى وجوده. الرياح تتحول هنا إلى نافذة تفتح على الواقع دون أن تمنح الخلاص.
يظهر ذلك أيضًا في الأمهات اللواتي ينتظرن أبناءً قد لا يعودون أبدًا، وفي الأطفال الذين يعيشون تحت وطأة القصف.
تستحق مجموعة «حديث الرياح» أن توصف بأنها مرآة للألم الإنساني، حيث يتم سرد معاناة الفرد ضمن سياق حرب لا تنتهي، تتلاعب بمصير الجميع.
الكاتبة، بأسلوبها الرمزي والتفصيلي، استطاعت أن تجعل من الرياح شاهدًا على عبثية الوجود.
هذه المجموعة ليست مجرد دعوة للتأمل؛ بل هي تذكرة بأن الحرب لا تدمر الأوطان فقط، بل تعصف بالإنسان وذاكرته.
الرياح هنا ليست عابرة، بل هي حقيقة تهب على أرواحنا جميعًا.
zoolsaay@yahoo.com