سودانايل:
2024-08-04@12:43:59 GMT

في الضواحي وطرف المداين – مقتطف

تاريخ النشر: 12th, July 2024 GMT

الكِنْتِيْن وبيت العَزَّابَة

في بيت العَزَّابَة، لا تعمر الأكاذيب، أو تصمد الادعاءات، ولا يمكن إخفاء الحقائق عن رفقاء السكن، والهم العام، وجحيم المعايش. وتسود في تلك البيوت روحٌ هي خليط من التضامن، والانتماء، تعبرُ، بوضوحٍ لا لبس فيه، عن المفهوم الذي يتداوله السودانيون كثيراً ولكن، دون أن يعنوه بالكامل، عندما يقولون:

- الحالة واحدة!

والحالة واحدة، في بيت العَزَّابَة، فعلاً، وبالذات في حدود مواجهة المشاكل الصغيرة والمتوسطة، أما في القضايا الكبيرة، فتتقلص الدوائر قليلاً، لتهتم مجموعات صغيرة من رفقاء السكن، لتواجه هذه القضية أو تلك من الهموم الكبيرة، مثل متابعة أمور زواج فُلان، أو علاج أبو عِلَّان في الخارج، وغيرها من الهموم التي تخرج من دوائر المعيشة أو الالتزامات الصغيرة التي تستطيع المشايلات وأدها.



ومهما بلغت قدرات العَزَّابَة جميعاً، أو فرادى في تنظيم شُئون المعيشة، وضبط الميز، فانه لا يمكن لهم، أبداً، ان يستغنوا عن كِنْتِيْن جَرُوُرَةٍ يملا الفراغات في الميزانية ويمثل مرجعا اخير في أواخر الشهر أو الأيام التي تشبهه، وغالباً ما يكون هذا الكِنْتِيْن الركيزة هو أقرب كِنْتِيْن، إلا إذا كانت قدراته أقل من متطلبات العَزَّابَة، خصوصاً وإن أغلب احتياجاتهم من السلع التي يتفادى فيها التجار الجَرُوُرَة، ويعتبرونها سلعاً عزِيزةً، ومصدراً للكاش، مثل:

- الرصيد، والسجائر، والحاجة الباردة...

وتبدأ العلاقة بين الكِنْتِيْن وبيت العَزَّابَة باحتياج أسياد الدُّكَّان لاستخدام المنافع: الحمَّام، والأدبخانة، وفي حالاتٍ أُخرى مبيتهم مع العَزَّابَة داخل البيت، لا سيما إن كان الفصلُ شتاءً.

ثُمَّ يفترعُ الجَرُوُرَة أحدُ العَزَّابَة من ذوي الدخل المنتظم، شهري، أو دوري على الأقل، ثم يتسلل أخرون عبره إلى دفتر الجَرُوُرَة، ليحتلوا صفحات مستقلة، تحمل أسمائهم، واحد... واحد، ويتفادى البعض دفتر الجَرُوُرَة، بالكامل، لأسباب عديدة تخصه، بينما يستبيح آخرون الدفتر، ولكن تحت ظلال عزابة آخرين، فيقول أحدهم لصاحب الكِنْتِيْن:

- الحَاجَات دِيْ، قَيِّدا على عصام!

وبطبيعة الأشياء، فإن هذه العلاقة تنمو، وتزدهر مع كلِّ صباحٍ جديد.

ويبدأ تطبيع وجود صاحب الكِنْتِيْن بنيلِه أولاً حقوق العضوية التشريفية في البيت، وتزداد مساحات السماح التي يتحرك فيها، فيستضيف أقاربه، واحد أو اثنين، ممن قَدِمُوا من البلد للعلاج أو استكمال إجراءات الحج، أو العمرة، أو ما شابه ذلك، ليستقرُّوا في إحدى الغرف، في مطارحٍ لا يزعجهم فيها أحد.

ثم تظهر اعتمادية سيد الدكان على العزابة في المساعدات اللوجستية التي تعتمد على معرفتهم وخبراتهم وعلاقاتهم، وتشمل تلك المساعدات، ضمن ما تشمل، الرعاية الصحية، له ولضيوفه، عن طريق أصدقاء العزابة من أطباء المستشفيات القريبة، وأيضاً إصدار الأوراق الثبوتية من المصالح الحكومية، وغيرها كثير من الخدمات التي يحتاجها سيد الدكان القادم من البلد، حديث العهد بالعاصمة.

في تلك الأثناء، يبدأ اعتماد سيد الدكان عضواً رسمياً في (صينية العشاء)، ولا يبدأ الموجودون المتحلقون جوعى حول الصينية الأكل، إلا بعد حضوره، رغم إن ذلك يتسبب في بعض الأحايين في نومِ سكرانٍ أو اثنين، ممن أفرطوا في السكر، أو نال منهم الإرهاق بسبب طول يوم العمل، أو هدهم الجُّوُع، وفي مراتٍ كثيرة، تفشل محاولات إيقاظ من نام، بعد وصول سيد الدكان، ليدخِلُوا أيديهم مع المتعشين.

ونسة سيد الدكان لذيذة، هذا إذا لم يتمتع بمواهب أخرى في التنكيت، والغناء، وكلامه يحوي معلوماتٍ، جدُّ ثرة، عن أحوال الناس في الحي، وبتفاصيلٍ مُدهشة، جعلتها ثرثرةُ نساءِ الحي، أمام الدكان ممكنة، وأثرته القفشات، والونسات القصيرة التي يدخل فيها المستدينون، إخفاءً للحرج، وتلطيفاً للجو، في اللحظات القليلة التي يقفون فيها أمام الدكان، متكئين على صفحاتهم التي يحتضنها دفتر الجرورة.

ويزيد من لطافة، وأهمية ونسة سيد الدكان، افتقار االعزابة للعلاقة السوية مع أهل الحي، والذين غالباً ما يضربون طوقاً من العزلة على العزابة، باعتبارهم أنصافُ شياطين، ومصدرٌ للشرور، وخطرٌ على اجتماعيات الأسر في الحي.

ولا تقف أهمية المعلومات عن الحي في حدود المعرفة بالشيء، أو التسلية فقط، وإنما تتعداه إلى كسر بعض الحواجز، وبناء علاقات انتقائية، تصل في بعض الأحايين إلى اشتراكِ أفرادٍ من بيت العزابة، الذين ينتوون أمراً يتطلب الادخار، في الختة، أو الصندوك الكبير، الذي يضم عدداً من نساء الحي.

ويتمُّ، ذلك الاشتراك، عن طريق سيد الدكان وبواسطته، وضمانته، وهكذا، تتصاعد وتائر الدخلة والمرقة من وإلى الكِنْتِيْن وبيت العزابة.

وتسمح هذه العلاقة الوطيدة لسيد الدكان بارتياد القعدات، وجلسات الأنسِ، والندامى في البيت، ويخفف وجوده من قسوة التنظير، ويوسع زوايا الحوار، وينحدر بمستوى الدقة التي كانت تلازم ونسات العزابة ذوي المؤهلات، والخبرات الكبيرة، والذين يتخذون من طرابيز السكر منابراً لتفنيد قضايا بالغة التعقيد، ويحاولون فك العقد المحيطة بمختلف المواضيع الحياتية بالعلمِ، والنقدِ، والتحليل.

ولكن وجود صاحب الكِنْتِيْن، يضفي صفات جديدة على الونسة، فيجعلها سهلةً ممتنعة، تفيض بالمرح وتتسع للفضفضة الأريحية.

وفي تلك القعدات يتعرف صاحب الكِنْتِيْن على مشكلة هذا العزابي أو ذاك، والتي تكون قد أعجزت رفاقه، فينحني ليقترب منه، ويهمس في أذنه:

- الصَّبَاح، مُرْ عَلَيْ!

وفي الصباح، تنفتح كُوَّة على دُرُج الإيرادات في الكِنْتِيْن، لا تلبث أن تطال ضياؤها جميع السكان، وتدشن إمكانية الاستدانة المالية، وليست السلعيَّة، من الكِنْتِيْن، لتغطي (حق المواصلات، والفطور) لهذا المفلس أو ذاك.

ويشترك سيد الدكان في أغلب البرامج الجماعية للعزابة، لا سيما البرامج التي يتم الاتفاق عليها أثناء القعدة، بل يشارك في وضع الخطط لتلك البرامج حذفاً وإضافة، ويواجب مع رفقائه في الأفراح والأتراح، ويلجأ إليهم حين تركبه الحوجة، أو يمسه الضرر، فيجد من التعامل، أحسن مما توقع.

وفي كلِّ الأحوال، فأنه يتمتع بإذنٍ مفتوح في استخدام المُدَّخرات التي أودعها عنده بعض العزابة، دون أن يستشيرهم أو يرجع إليهم.

الصُّدفُ السعيدة، وظلالٌ من ليلةِ القدر قد تقُودان آخرين، يُضاهُون سيد الدكان في الأهمية، وربما يبزونه فيها، ومن بين هؤلاء الخضرجي، والذي يبيع بضاعته في سوق صغير في محيط الجوار...

ويلجُ الخضرجي أولاً من بوابة المنافع مثل صاحب الكنتين بالضبط، ولكن طبيعة عمله التي تتطلب الاستيقاظ المبكر، وبالتالي النوم المبكر أيضاً، سرعان ما تجعله عضواً كاملاً وزول مبيت، وهو عادة ما يكون ضيفاً خفيف لا يحتاج سوى متابعة التلفزيون، وبرش وإبريق للصلاة في العشاء، وقد لا ينتظر وجبة العشاء، في الغالب، ما عدا الليالي التي يكون قد اشتد به الجوع به فيها... كما يمكن له أن يلعب قيم، أو قيمين من كونكان أربعطاشر، عكس الجزَّار، الذي يفضل لعبة الوست على الكونكان، ويشارك في القعدات ويساهر حتى آخر قطرة من الشراب.

ويحظى الجزّارُ، الذي كان قد تعرّف على العزابة من خلال الخضرجي، بأهمية تتضاءل أمامها أهمية دليله الخضرجي.

ورغم إن العلاقة بينه وبين العزابة تخلو من الاستغلال المالي، إلا أنه يضمن لهم أنواع من خير اللحم لا يمكن الحصول عليه بالشراء العادي، لأنه يخلص في اختيار تلك اللحوم، وهو الذي في يده القلم، كما يحسن طهي وإعداد الحلة، المشتملة، أيضاً، على الخضروات ولكن، بدرجة أهمية أقل من اللحوم...

وتنصهرُ الخضرواتُ، واللحمةُ المنتقاة، والبُهارات، كلُّها، في حلة العزابة الشهيرة، التي تحمل الاسم الأشهى، والذي يسيل له لُعابُ السكارى، وضيوف القعدة الآخرين:

- (القطر قام!).

وبخلاف هذا الثالوث الغالي من المُستضافين، يخترق بعضُ شباب الحي حاجز التردد والخوف، فيدخلوا، في غفلة من الجيران، من فتحات طوق العزلة المضروب من أهل الحي على العزابة، بموجب صدف، ومناسبات، وملابسات لا تتشابه فيما بينها.

ويتمدد جزءٌ منهم، ليصل بعلاقته مع العزابة درجة تسمح لهم بإعمار القعدات بلا وجل.

ويتميز هؤلاء الشبان، عادة، بالأريحية، والكرم الفياض، وعادة ما ينفحون سكان البيت بصواني الفطور، والغداءات، وخاصة في أيام الجمع...

وغالباً ما تعمرُ هذه الصواني بوجبات لذيذة، ذات طابع احتفالي، صُنعت فوق العادة في بيوتهم.

وكان يعجبني منها، على وجه الخصوص، التركين، والفسيخ، وملاح المفروك الذي ينساب ليتخلَّل طرَقَات قراريص القمح تمنية بُوصة، الشهيَّة.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عادل سيد أحمد، مارس/2020م.

 

amsidahmed@outlook.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: الج ر و ر ة

إقرأ أيضاً:

كلماتٌ في وداع إسماعيل هنية “أبو العبد”

كلماتٌ في وداع #إسماعيل_هنية “أبو العبد”

“1”

شوارع الدوحة الحزينة ورياحها الساخنة البئيسة

د. مصطفى يوسف #اللداوي

مقالات ذات صلة تأملات قرآنية 2024/08/01

الدوحة – قطر

شوارع العاصمة القطرية الدوحة، المنسقة المنظمة، النظيفة الجميلة، المزدانة جوانبها بالأعشاب المنبسطة كسجادٍ أخضرٍ طويلٍ ممتد، التي لا تخالف فيها السيارات أنظمة المرور وإشارات السير، ويلتزم سائقوها القوانين والأعراف، وتكثر فيها السيارات العابرة، وتكاد تخلو من المشاة والمارة.

عماراتها شاهقة ومبانيها عالية، وهي في أغلبها جميلة، ويكاد بعضها يناطح السماء علواً، وتنعكس على واجهاتها أشعة الشمس الساطعة، وترتد على العيون بريقاً وتلفح وجوه الناس حرارةً، في أول أيام آب اللهاب، المميز بحره القائظ وشمسه الحارقة.

إنه يوم العطلة الأسبوعية الرسمية في الدولة، الذي فيه تهدأ الحركة وتتوقف السيارات، وتتعطل مرافق الدولة وتتوقف المؤسسات، ويقر الناس في بيوتهم، أو يخرج بعضهم لقضاء بعض حاجاتهم أو أداء صلاة الجمعة.

بدت الدوحة في هذا اليوم، يوم الجمعة، كئيبةً حزينةً، كسيرةً مكلومةً، وكأنَّ الحزن قد جللها والأسى سكنها، وبدت أثواب الرجال البيضاء التي تعمر المساجد وتشد الرحال إليها، رغم نصاعتها سوداء قاتمة، وقد علا الوجوم الوجوه، وسكتت الألسنة إلا بالدعاء وكلمات الرجاء.

رغم أن المساجد كانت تصدح، والناس إليها كانت تسعى، وقد اغتسلت وتطهرت، وتزينت وتطيبت، لكن الحزن كان طاغياً، والألم كان بادياً، فالمدينة الهادئة الوادعة، كانت تتهيأ لتشييع شهيدٍ قد ضجت له الدنيا، وصخب من أجله العالم، وتفتحت له أبواب السماء، وتهيأت له الجنان، وهو الذي كان قبل أيامٍ قليلة يجوب شوارعها ويتنقل بين جنباتها، ويسكن فيها ويدير حركته منها، وينظم شؤون أهله ويتابع حاجات شعبه منها.

ربما لم تعتد الدوحة يوماً كهذا اليوم، ولم تعش مثله قبل اليوم، فهي قد اعتادت أن تتزين وتزدان، وتتجمل وتتهيأ، وتلبس أزهى الحلل وأجمل الثياب، لتكون قبلة القصاد، ومدينة الرواد، وعاصمة الإعلام، وأرض المونديال، ومنتدى رجال الأعمال، تجذب إليها أصحاب المشاريع والرؤى، ومؤتمرات المال والاقتصاد، والثقافة والإبداع، والحوارات واللقاءات، وغيرها من المؤتمرات التي ميزها عن غيرها، وقدمها على سواها.

لكنها اليوم كانت وكأن ثقلاً كبيراً قد طرح عليها وألقي على ظهرها، فناءت لكنها قامت، وانحنى ظهرها أسىً ولكنها تكابرت ونهضت، وقدمت نفسها ليعلو ذكرها، وعرضت ما عندها ليتبارك وجودها، فهي في حضرة الشرف وفي ركاب الكرامة، تودع رجلاً نسج الكرامة بخيوطٍ من دمٍ، وصنع العزة برؤوسٍ تشمخ نحو الشمس، وأقسم بالله عز وجل على النصر ولو كان تحت الثرى شهيداً، وكان واثقاً أن الله سيبره وسيحقق وعده، إذ كان يعرف أن من بعده سيكونون أشد على العدو وأنكى، وسيحفظون عهده، وسيوفون وعده، وسيكونون أمناء على ما ترك وأوفى، وأصبر على القتال وأقوى، وأثبت على الأرض وأبقى.

فتحت الدوحة أبوابها وجندت أبناءها، وأكثرت رمادها، ونصبت سرادقها ومدت موائدها، ومهدت للوافدين زيارتها، الذين خفوا إليها وجاؤوا من كل حدبٍ وصوبٍ، وتهيأت ليدفن في ثراها، ويوارى تحت ترابها، رجلٌ قد زفته ملائكة السماء، ووقفت على أبوابها السبعة تنتظر وصوله وترقب عروجه، إنه شهيد القدس والأقصى، وابن غزة العزة، ومخيم الشاطئ الثورة ونبض الانتفاضة الأولى.

سأكتب لكم تباعاً، من جوار جسده الطاهر، وبالقرب من جثمانه المسجى في صحن مسجد محمد بن عبد الوهاب، وبينما كنا نصلي على روحه الطاهرة صلاة الجنازة، والحناجر تصدح والأصوات تجلجل، ومن على قبره الذي وري فيه ودفن، وقد ألقى عليه مئات المحبين نظرة الوداع، وقرأوا عليه سورة الفاتحة…..

مقالات مشابهة

  • محافظ بورسعيد يشدد على أصحاب المحلات الالتزام بالمساحات القانونية وعدم التعدي على حرم الطريق بالضواحي
  • محافظ بورسعيد يلتقي عددًا من المواطنين بحي الضواحي و يوجه بالارتقاء بمستوى الخدمات
  • حملة غير مسبوقة تستهدف الملاكمة الجزائرية خليف.. شارك فيها ترامب
  • كلماتٌ في وداع إسماعيل هنية “أبو العبد”
  • شاهد البيت والغرفة التي كبرت فيها إيمان خليف
  • حديقة عدن مول .. مشروع بقيمة ” العطاء”
  • حكم العمل في البنوك.. الإفتاء تجيب
  • عدد جديد من مجلة المسرح
  • فيها سم قاتل.. احذروا هذا النوع من الشوكولاته
  • عن العدو وتفكيك خطابه