الكِنْتِيْن وبيت العَزَّابَة
في بيت العَزَّابَة، لا تعمر الأكاذيب، أو تصمد الادعاءات، ولا يمكن إخفاء الحقائق عن رفقاء السكن، والهم العام، وجحيم المعايش. وتسود في تلك البيوت روحٌ هي خليط من التضامن، والانتماء، تعبرُ، بوضوحٍ لا لبس فيه، عن المفهوم الذي يتداوله السودانيون كثيراً ولكن، دون أن يعنوه بالكامل، عندما يقولون:
- الحالة واحدة!
والحالة واحدة، في بيت العَزَّابَة، فعلاً، وبالذات في حدود مواجهة المشاكل الصغيرة والمتوسطة، أما في القضايا الكبيرة، فتتقلص الدوائر قليلاً، لتهتم مجموعات صغيرة من رفقاء السكن، لتواجه هذه القضية أو تلك من الهموم الكبيرة، مثل متابعة أمور زواج فُلان، أو علاج أبو عِلَّان في الخارج، وغيرها من الهموم التي تخرج من دوائر المعيشة أو الالتزامات الصغيرة التي تستطيع المشايلات وأدها.
ومهما بلغت قدرات العَزَّابَة جميعاً، أو فرادى في تنظيم شُئون المعيشة، وضبط الميز، فانه لا يمكن لهم، أبداً، ان يستغنوا عن كِنْتِيْن جَرُوُرَةٍ يملا الفراغات في الميزانية ويمثل مرجعا اخير في أواخر الشهر أو الأيام التي تشبهه، وغالباً ما يكون هذا الكِنْتِيْن الركيزة هو أقرب كِنْتِيْن، إلا إذا كانت قدراته أقل من متطلبات العَزَّابَة، خصوصاً وإن أغلب احتياجاتهم من السلع التي يتفادى فيها التجار الجَرُوُرَة، ويعتبرونها سلعاً عزِيزةً، ومصدراً للكاش، مثل:
- الرصيد، والسجائر، والحاجة الباردة...
وتبدأ العلاقة بين الكِنْتِيْن وبيت العَزَّابَة باحتياج أسياد الدُّكَّان لاستخدام المنافع: الحمَّام، والأدبخانة، وفي حالاتٍ أُخرى مبيتهم مع العَزَّابَة داخل البيت، لا سيما إن كان الفصلُ شتاءً.
ثُمَّ يفترعُ الجَرُوُرَة أحدُ العَزَّابَة من ذوي الدخل المنتظم، شهري، أو دوري على الأقل، ثم يتسلل أخرون عبره إلى دفتر الجَرُوُرَة، ليحتلوا صفحات مستقلة، تحمل أسمائهم، واحد... واحد، ويتفادى البعض دفتر الجَرُوُرَة، بالكامل، لأسباب عديدة تخصه، بينما يستبيح آخرون الدفتر، ولكن تحت ظلال عزابة آخرين، فيقول أحدهم لصاحب الكِنْتِيْن:
- الحَاجَات دِيْ، قَيِّدا على عصام!
وبطبيعة الأشياء، فإن هذه العلاقة تنمو، وتزدهر مع كلِّ صباحٍ جديد.
ويبدأ تطبيع وجود صاحب الكِنْتِيْن بنيلِه أولاً حقوق العضوية التشريفية في البيت، وتزداد مساحات السماح التي يتحرك فيها، فيستضيف أقاربه، واحد أو اثنين، ممن قَدِمُوا من البلد للعلاج أو استكمال إجراءات الحج، أو العمرة، أو ما شابه ذلك، ليستقرُّوا في إحدى الغرف، في مطارحٍ لا يزعجهم فيها أحد.
ثم تظهر اعتمادية سيد الدكان على العزابة في المساعدات اللوجستية التي تعتمد على معرفتهم وخبراتهم وعلاقاتهم، وتشمل تلك المساعدات، ضمن ما تشمل، الرعاية الصحية، له ولضيوفه، عن طريق أصدقاء العزابة من أطباء المستشفيات القريبة، وأيضاً إصدار الأوراق الثبوتية من المصالح الحكومية، وغيرها كثير من الخدمات التي يحتاجها سيد الدكان القادم من البلد، حديث العهد بالعاصمة.
في تلك الأثناء، يبدأ اعتماد سيد الدكان عضواً رسمياً في (صينية العشاء)، ولا يبدأ الموجودون المتحلقون جوعى حول الصينية الأكل، إلا بعد حضوره، رغم إن ذلك يتسبب في بعض الأحايين في نومِ سكرانٍ أو اثنين، ممن أفرطوا في السكر، أو نال منهم الإرهاق بسبب طول يوم العمل، أو هدهم الجُّوُع، وفي مراتٍ كثيرة، تفشل محاولات إيقاظ من نام، بعد وصول سيد الدكان، ليدخِلُوا أيديهم مع المتعشين.
ونسة سيد الدكان لذيذة، هذا إذا لم يتمتع بمواهب أخرى في التنكيت، والغناء، وكلامه يحوي معلوماتٍ، جدُّ ثرة، عن أحوال الناس في الحي، وبتفاصيلٍ مُدهشة، جعلتها ثرثرةُ نساءِ الحي، أمام الدكان ممكنة، وأثرته القفشات، والونسات القصيرة التي يدخل فيها المستدينون، إخفاءً للحرج، وتلطيفاً للجو، في اللحظات القليلة التي يقفون فيها أمام الدكان، متكئين على صفحاتهم التي يحتضنها دفتر الجرورة.
ويزيد من لطافة، وأهمية ونسة سيد الدكان، افتقار االعزابة للعلاقة السوية مع أهل الحي، والذين غالباً ما يضربون طوقاً من العزلة على العزابة، باعتبارهم أنصافُ شياطين، ومصدرٌ للشرور، وخطرٌ على اجتماعيات الأسر في الحي.
ولا تقف أهمية المعلومات عن الحي في حدود المعرفة بالشيء، أو التسلية فقط، وإنما تتعداه إلى كسر بعض الحواجز، وبناء علاقات انتقائية، تصل في بعض الأحايين إلى اشتراكِ أفرادٍ من بيت العزابة، الذين ينتوون أمراً يتطلب الادخار، في الختة، أو الصندوك الكبير، الذي يضم عدداً من نساء الحي.
ويتمُّ، ذلك الاشتراك، عن طريق سيد الدكان وبواسطته، وضمانته، وهكذا، تتصاعد وتائر الدخلة والمرقة من وإلى الكِنْتِيْن وبيت العزابة.
وتسمح هذه العلاقة الوطيدة لسيد الدكان بارتياد القعدات، وجلسات الأنسِ، والندامى في البيت، ويخفف وجوده من قسوة التنظير، ويوسع زوايا الحوار، وينحدر بمستوى الدقة التي كانت تلازم ونسات العزابة ذوي المؤهلات، والخبرات الكبيرة، والذين يتخذون من طرابيز السكر منابراً لتفنيد قضايا بالغة التعقيد، ويحاولون فك العقد المحيطة بمختلف المواضيع الحياتية بالعلمِ، والنقدِ، والتحليل.
ولكن وجود صاحب الكِنْتِيْن، يضفي صفات جديدة على الونسة، فيجعلها سهلةً ممتنعة، تفيض بالمرح وتتسع للفضفضة الأريحية.
وفي تلك القعدات يتعرف صاحب الكِنْتِيْن على مشكلة هذا العزابي أو ذاك، والتي تكون قد أعجزت رفاقه، فينحني ليقترب منه، ويهمس في أذنه:
- الصَّبَاح، مُرْ عَلَيْ!
وفي الصباح، تنفتح كُوَّة على دُرُج الإيرادات في الكِنْتِيْن، لا تلبث أن تطال ضياؤها جميع السكان، وتدشن إمكانية الاستدانة المالية، وليست السلعيَّة، من الكِنْتِيْن، لتغطي (حق المواصلات، والفطور) لهذا المفلس أو ذاك.
ويشترك سيد الدكان في أغلب البرامج الجماعية للعزابة، لا سيما البرامج التي يتم الاتفاق عليها أثناء القعدة، بل يشارك في وضع الخطط لتلك البرامج حذفاً وإضافة، ويواجب مع رفقائه في الأفراح والأتراح، ويلجأ إليهم حين تركبه الحوجة، أو يمسه الضرر، فيجد من التعامل، أحسن مما توقع.
وفي كلِّ الأحوال، فأنه يتمتع بإذنٍ مفتوح في استخدام المُدَّخرات التي أودعها عنده بعض العزابة، دون أن يستشيرهم أو يرجع إليهم.
الصُّدفُ السعيدة، وظلالٌ من ليلةِ القدر قد تقُودان آخرين، يُضاهُون سيد الدكان في الأهمية، وربما يبزونه فيها، ومن بين هؤلاء الخضرجي، والذي يبيع بضاعته في سوق صغير في محيط الجوار...
ويلجُ الخضرجي أولاً من بوابة المنافع مثل صاحب الكنتين بالضبط، ولكن طبيعة عمله التي تتطلب الاستيقاظ المبكر، وبالتالي النوم المبكر أيضاً، سرعان ما تجعله عضواً كاملاً وزول مبيت، وهو عادة ما يكون ضيفاً خفيف لا يحتاج سوى متابعة التلفزيون، وبرش وإبريق للصلاة في العشاء، وقد لا ينتظر وجبة العشاء، في الغالب، ما عدا الليالي التي يكون قد اشتد به الجوع به فيها... كما يمكن له أن يلعب قيم، أو قيمين من كونكان أربعطاشر، عكس الجزَّار، الذي يفضل لعبة الوست على الكونكان، ويشارك في القعدات ويساهر حتى آخر قطرة من الشراب.
ويحظى الجزّارُ، الذي كان قد تعرّف على العزابة من خلال الخضرجي، بأهمية تتضاءل أمامها أهمية دليله الخضرجي.
ورغم إن العلاقة بينه وبين العزابة تخلو من الاستغلال المالي، إلا أنه يضمن لهم أنواع من خير اللحم لا يمكن الحصول عليه بالشراء العادي، لأنه يخلص في اختيار تلك اللحوم، وهو الذي في يده القلم، كما يحسن طهي وإعداد الحلة، المشتملة، أيضاً، على الخضروات ولكن، بدرجة أهمية أقل من اللحوم...
وتنصهرُ الخضرواتُ، واللحمةُ المنتقاة، والبُهارات، كلُّها، في حلة العزابة الشهيرة، التي تحمل الاسم الأشهى، والذي يسيل له لُعابُ السكارى، وضيوف القعدة الآخرين:
- (القطر قام!).
وبخلاف هذا الثالوث الغالي من المُستضافين، يخترق بعضُ شباب الحي حاجز التردد والخوف، فيدخلوا، في غفلة من الجيران، من فتحات طوق العزلة المضروب من أهل الحي على العزابة، بموجب صدف، ومناسبات، وملابسات لا تتشابه فيما بينها.
ويتمدد جزءٌ منهم، ليصل بعلاقته مع العزابة درجة تسمح لهم بإعمار القعدات بلا وجل.
ويتميز هؤلاء الشبان، عادة، بالأريحية، والكرم الفياض، وعادة ما ينفحون سكان البيت بصواني الفطور، والغداءات، وخاصة في أيام الجمع...
وغالباً ما تعمرُ هذه الصواني بوجبات لذيذة، ذات طابع احتفالي، صُنعت فوق العادة في بيوتهم.
وكان يعجبني منها، على وجه الخصوص، التركين، والفسيخ، وملاح المفروك الذي ينساب ليتخلَّل طرَقَات قراريص القمح تمنية بُوصة، الشهيَّة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عادل سيد أحمد، مارس/2020م.
amsidahmed@outlook.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الج ر و ر ة
إقرأ أيضاً:
احذر| 10 أفعال في رمضان تنقص ثواب الصيام.. يقع فيها كثيرون بسهولة
إذا كان هناك أفعال في رمضان تنقص ثواب الصيام ، فينبغي الانتباه إليها والعلم بها لتجنبها وعدم الوقوع فيها، حيث إن صوم رمضان فريضة لا يجوز التهاون بها أو فيها، لما لها من فضل عظيم وثواب جزيل، لا يمكن لعاقل أن يفرط فيه ولو بقدر قليل، لذا ينبغي معرفة أفعال في رمضان تنقص ثواب الصيام للفوز به كاملاً فهو غنيمة وكنز من الكنوز الربانية.
قال مركز الأزهر العالمي للفتوى الإلكترونية، إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم نهى الصائمين عن أفعال في رمضان تنقص ثواب الصيام ، ففيما ورد في صحيح البخاري (1894) وصحيح مسلم (1151)، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «الصِّيَامُ جُنَّةٌ فإذا كان يوم صوم أحدكم فَلاَ يَرْفُثْ وَلاَ يَجْهَلْ، وَإِنِ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ مَرَّتَيْنِ».
وأوضح «مركز الأزهر» عن أفعال في رمضان تنقص ثواب الصيام في شرحه للحديث الشريف، أن المعنى الإجمالي للحديث: في هذا الحديث النبوي العظيم: بشارة، وتحذير، وتربية وتعليم، فالبشارة: أن الصيام وقاية وسترة من النار؛ لأنه إمساك عن الشهوات، والنار محفوفة بالشهوات!، أو وقاية من الوقوع في المعاصي التي هي سبب الدخول في النار؛ لأنه يكسر الشهوة ويضعف القوة، فيمتنع به الصائم عن مواقعة المعاصي، فصار كأنه جنة وستر دونها، حيث يكفّر الله تعالى به الذنوب، ويضع به الأوزار، ويستجلب به العفو والمغفرة.
وتابع: والتحذير: هو نهي الصائم ألا يتكلم الكلام الفاحش، ولا يفعل شيئًا من الجهالة المعيبة في حقه، والمنزلة من قدره، كالسخرية بالآخرين، أو الضحك بلا سبب، أو رفع الصوت على الآخرين، فهذا أعمال لا تليق بالصائم وجلالة الشهر الكريم، فقال الإمام القرطبي: (والجهل في الصوم: هو العمل فيه على خلاف ما يقتضيه العلم).
وأضاف: وأما التربية والتعليم: فإن الصائم إذا شتمه أحدٌ أو سبّه، أو جهل عليه، فلا ينبغي أن يندفع للانتقام لنفسه، أو الاستقواء بجاهه أو حسبه، بل يتذكر أن صيامه وقاية له من الوقوع في الخطأ، يمنعه من الردّ، ويعصمه من الزلل!، وقال الإمام الخطابي: (قوله: (فليقل إني صائم) يحتمل وجهين: أحدهما: أن يقول ذلك فيما بينه وبين نفسه، لئلا تحمله النفس على مجازاة الشاتم، فيفسد بذلك صومه، والآخر: أن يقول ذلك بلسانه، ليمتنع الشاتم من شتمه إذا علم أنه معتصم بالصوم، فلا يؤذيه ولا يجهل عليه).
وأشار إلى أن ما يستفاد من الحديث خمسة أمور، أولها الصيام نعمة عظيمة تقي المسلم من أوحال الشهوات، وثانيها الصيام يربي المسلم على القول الطيب والعمل الحسن، وثالثها يتجنب المسلم في صيامه كل أنواع الرفث والفسوق، ورابعًا الترفع عن النقائص أدب إسلامي، وخامسًا الجهل ليس من خصال المسلم.
ونبه إلى أن من صامه إيمانًا بالله ورسوله، واحتسابًا لأجره وثوابه عند الله - عز وجل - لا رياءً ولا سمعةً، محافظًا عليه مما يُنْقص ثوابه، من الغيبة والنَّميمة، وأكلِ أموال الناس بالباطل، غفر الله له ذنوبه، وأعدَّ له الثواب الجزيل، في جنات النعيم، ودخَلَها من بابٍ يقال له باب الرَّيَّان، لا يدخل منه إلا الصائمون المحتسبون.
فضل صيام شهر رمضانقال مركز الأزهر العالمي للفتوى الإلكترونية، إنه فيما أخرج الإمام أحمد وأصحاب السنن عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ».
وأوضح «مركز الأزهر» في شرحه للحديث الشريف عن فضل صيام شهر رمضان ، أن الصيام ومغفرة الذنوب ورد في المعنى الإجمالي للحديث، حيث شرع الله سبحانه على المسلمين المكلفين فرضية صيام شهر رمضان فقال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ».
و أضاف: "ورغبة في الحث على الصيام قد أودع الله سبحانه في شهر رمضان عديدًا من المنافع الدينية والدنيوية، ونلاحظ هنا في تعبير الحديث الشريف عن صيام رمضان وقيده بالإيمان، ليشكل صورة أدبية بليغة في كلمة واحدة، للدلالة على أن الصيام لا يقبل من الكافر مطلقًا، ولا يثاب عليه الفاسق، وإن سقط عنه الفرض، ذلك أن الأساس في قبول الأعمال هو الإيمان بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم مع الطاعة المطلقة لهما".
واستشهد بقوله تعالى: «مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ»، وهذا سر تخصيص الخطاب بأهل الإيمان في قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ»، ومعنى قوله إيمانًا: أي: مؤمنا بالله ومصدقا بأنه تقرب إليه (واحتسابا)، أي: محتسبا بما فعله عند الله أجرا لم يقصد به غيره.
وتابع: "قال القاري: أَيْ طَلَبًا لِلثَّوَابِ مِنْهُ - تَعَالَى - أَوْ إِخْلَاصًا أَيْ بَاعِثُهُ عَلَى الصَّوْمِ مَا ذُكِرَ، لَا الْخَوْفُ مِنَ النَّاسِ، وَلَا الِاسْتِحْيَاءُ مِنْهُمْ، وَلَا قَصْدُ السُّمْعَةِ وَالرِّيَاءِ عَنْهُمْ، وَقِيلَ: مَعْنَى احْتِسَابًا اعْتِدَادُهُ بِالصَّبْرِ عَلَى الْمَأْمُورِيَّةِ مِنَ الصَّوْمِ وَغَيْرِهِ، وَعَنِ النَّهْيِ عَنْهُ مِنَ الْكَذِبِ وَالْغِيبَةِ وَنَحْوِهِ، طَيِّبَةً نَفْسُهُ بِهِ، غَيْرَ كَارِهَةٍ لَهُ، وَلَا مُسْتَثْقِلَةٍ لِصِيَامِهِ، وَلَا مُسْتَطِيلَةٍ لِأَيَّامِهِ. وأسلوب الشرط هنا قد جاء ليثير انتباه القارئ، ويحرك عواطفه ومشاعره، فتستقر معاني الحديث وقيمه الخلقية، في أعماق النفس إيمانًا وتصديقًا وإخلاصًا، ابتغاء مرضاة الله عز وجل".
وأشار إلى أنه مما يستفاد من الحديث: أولا فرضية صيام شهر رمضان على العاقل البالغ المكلف، وثانيًا فضل الإيمان واشتراطه لقبول الأعمال الصالحة، وثالثًا احتساب الأجر عند الله تعالى من علامات القبول، ورابعًا بلاغة الأسلوب النبوي في الحديث الشريف، وخامسًا ظيم فضل الله تعالى الواسع وإنعامه السابغ.
فضل صيام رمضانخصَّ الله عز وجل عبادة الصيام من بين العبادات بفضائل وخصائص عديدة، منها: أولًا: أن الصوم لله عز وجل وهو يجزي به، كما ثبت في البخاري (1894)، ومسلم ( 1151 ) من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ الْحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعمِائَة ضِعْفٍ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي».
ثانيًا: إن للصائم فرحتين يفرحهما، كما ثبت في البخاري ( 1904 ) ، ومسلم ( 1151 ) من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا: إذَا أفْطَرَ فَرِحَ، وإذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بصَوْمِهِ».
ثالثًا: إن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، كما ثبت في البخاري (1894) ومسلم ( 1151 ) من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله عز وجل يوم القيامة من ريح المسك».
رابعًا: إن الله أعد لأهل الصيام بابا في الجنة لا يدخل منه سواهم، كما ثبت في البخاري (1896)، ومسلم (1152) من حديث سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ فِي الجَنَّة بَابًا يُقَالُ لَهُ: الرَّيَّانُ، يدْخُلُ مِنْهُ الصَّائمونَ يومَ القِيامةِ، لاَ يدخلُ مِنْه أَحدٌ غَيرهُم، يقالُ: أَينَ الصَّائمُونَ؟ فَيقومونَ لاَ يدخلُ مِنهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، فإِذا دَخَلوا أُغلِقَ فَلَم يدخلْ مِنْهُ أَحَدٌ».
خامسًا: إن من صام يومًا واحدًا في سبيل الله أبعد الله وجهه عن النار سبعين عامًا، كما ثبت في البخاري (2840)؛ ومسلم (1153) من حديث أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما مِنْ عبدٍ يصومُ يوْمًا في سبِيلِ اللَّهِ إلاَّ بَاعَدَ اللَّه بِذلكَ اليَوْمِ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سبْعِين خريفًا».
سادسًا: إن الصوم جُنة «أي وقاية» من النار، ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «الصيام جُنة»، وروى أحمد (4/22) ، والنسائي (2231) من حديث عثمان بن أبي العاص قال : سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «الصيام جُنة من النار، كجُنة أحدكم من القتال».
سابعًا: إن الصوم يكفر الخطايا، كما جاء في حديث حذيفة عند البخاري (525)، ومسلم ( 144 ) أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَجَارِهِ تُكَفِّرُهَا الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ وَالصَّدَقَةُ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر».
ثامنًا: إن الصوم يشفع لصاحبه يوم القيامة، كما روى الإمام أحمد (6589) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الصِّيَامُ وَالْقُرْآنُ يَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُ الصِّيَامُ : أَيْ رَبِّ مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ وَالشَّهَوَاتِ بِالنَّهَارِ فَشَفِّعْنِي فِيهِ. وَيَقُولُ الْقُرْآنُ: مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ فَشَفِّعْنِي فِيهِ. قَالَ: فَيُشَفَّعَانِ».
فضل شهر رمضانأولًا: خص الصائمين بباب في الجنة يُسمى باب الريان، وحتى يحصل الأجر العظيم ينبغي للصائم اجتناب أعمال السوء كلها، والبعد عن الرفث والفسوق، مصداقًا لِما رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -عليه الصلاة والسلام- أنه قال: (الصِّيَامُ جُنَّةٌ فلا يَرْفُثْ ولَا يَجْهلْ، وإنِ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ: إنِّي صَائِمٌ مَرَّتَيْنِ).
ثانيًا: فيه ليلة القدر: فقد فضّل الله -تعالى- شهر رمضان بأن جعل فيه ليلة عظيمة، تُغفر فيها الذنوب والآثام، وتتضاعف فيها الأجور، مصداقًا لقول الله تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ* لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ)، بالإضافة إلى ما رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (مَن قامَ ليلةَ القَدرِ إيمانًا واحتِسابًا غُفِرَ لَهُ ما تقدَّمَ من ذَنبِهِ).
ثالثًا: شهر العتق من النار، و العتق من النار أسمى أمنيات المسلم، لا سيما أن العتق يعني اجتناب عذاب النار، ودخول الجنة، ومن فضل الله -تعالى- ورحمته بعباده أنه يصطفي منهم في كل ليلة من شهر رمضان عتقاء من النار، مصداقًا لِما رواه أبو أمامة الباهلي -رضي الله عنه- عن النبي -عليه الصلاة والسلام- أنه قال: (إنَّ للَّهِ عندَ كلِّ فِطرٍ عتقاءَ وذلِك في كلِّ ليلةٍ).
رابعًا: شهر نزول القرآن الكريم، من أعظم فضائل شهر رمضان المبارك أن الله -تعالى- اصطفاه من بين شهور العام وأنزل فيه القرآن الكريم، مصداقًا لقوله تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ)، بل إن جميع الكتب السماوية نزلت في شهر رمضان، مصداقًا لِما رواه واثلة بن الأسقع -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (أُنزلتْ صحفُ إبراهيمَ أولَ ليلةٍ من شهرِ رمضانَ، وأُنزلتِ التوراةُ لستٍّ مضتْ من رمضانَ، وأُنزل الإنجيلُ بثلاثِ عشرةَ مضتْ من رمضانَ).
خامسًا: من فضائل شهر رمضان أن فيه صلاة التراويح، لا سيما أن الإجماع انعقد على سنيّة قيام ليالي رمضان، وقد أكّد الإمام النووي -رحمه الله- أن المقصود من القيام يتحقق في صلاة التراويح، وقد أخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن قيام رمضان مع التصديق بأنه حق، واعتقاد فضيلته، والإخلاص بالعمل لوجه الله تعالى، واجتناب الرياء والسمعة، سبب لمغفرة الذنوب، حيث قال: (مَن قامَ رمضانَ إيمانًا واحتِسابًا، غُفِرَ لَهُ ما تقدَّمَ مِن ذنبِهِ).
سادسًا: اختص الله -تعالى- شهر رمضان بأن تُفتح أبواب فيه الجنة، وتُغلق أبواب النيران، وتصفّد الشياطين عند دخوله، كما ورد في الحديث الذي رُوي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (إذا جاءَ رَمَضانُ فُتِّحَتْ أبْوابُ الجَنَّةِ، وغُلِّقَتْ أبْوابُ النَّارِ، وصُفِّدَتِ الشَّياطِينُ).
سابعًا: شهر الجود في كل شيء، فقد ثبت في الحديث الصحيح أن النبي -عليه الصلاة والسلام- كان أجود ما يكون في شهر رمضان.
ثامنًا: رمضان من الأوقات التي يُستجاب فيها الدعاء، ويُكرم الله فيه عباده بالعديد من الكرامات، ويعطيهم المزيد من فضائل رحمته وعطياه؛ فصيام رمضان هو الركن الرابع من أركان الإسلام، حيث صامه رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم-، وأمر الناس بصيامه، وأخبرهم أن من صامه إيمانًا واحتسابًا غفر الله له ما تقدم من ذنبه، ومن قامه إيمانًا واحتسابًا غفر الله له ما تقدم من ذنبه، كما حث فيه على المبادرة إلى التوبة من الذنوب والخطايا، والتعاون على البر والتقوى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجميع الأخلاق التي تُرضي الله، وتُقرب العبد من ربه.
تاسعًا: العمرة في رمضان ثوابها مضاعف، وقد أخبر رسول الله أنّ العمرة في رمضان تعدل الحج في الأجر والثواب.
عاشرًا: الصدقة في رمضان أجرها عظيم، فقد كان رسول الله أجود الناس في رمضان.
أحد عشر: من فضائل الصيام أن الله -تعالى- قد أضافه إليه، فكل أعمال العباد لهم، إلا الصيام فهو لله وهو يجزي به، وقد قال العلماء في سبب اختصاص الصوم بهذه المزية أنّه من الأعمال التي لا يقع فيها الرياء، وقيل لأن الله هو فقط العالم بمقدار ثوابه ومضاعفة حسناته، وهو من أفضل الأعمال التي لا مساوي لها عند الله، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأبي أمامة الباهلي: (عليك بالصَّوم فإنَّه لا مثل له)، وهو وقاية من شهوات الدنيا، فيمنع صاحبه من الوقوع في الشهوات والمعاصي، وهو وقاية من عذاب الآخرة كذلك.
اثنا عشر: يحصل الصائم على أجر الصبر على طاعة الله، والصبر في البعد عن المعصية، والصبر على ألم الجوع والعطش والكسل وضعف النفس، وفيه يكفر الله الخطايا والذنوب، ويشفع لصاحبه يوم القيامة، ويدخله الجنة من باب الريان، ويعيش الصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، وإنّ خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، وقد بشّر رسول الله بأنّ دعوة الصائم من الدعوات المستجابة، فقال: (ثلاثُ دعواتٍ مُستجاباتٍ: دعوةُ الصائم، ودعوةُ المظلُوم، ودعوةُ المسافر).