جرائم قتل الهوية.. من يحمي آثار السودان التاريخية من حرب الجنجويد؟
تاريخ النشر: 11th, July 2024 GMT
مع بداية الحرب العالمية الثانية في سبتمبر(1939)، فُرضت الحماية على النُصب التذكارية والآثار التاريخية في فرنسا وبريطانيا، وذلك خشية النهب والدمار، حيث جُمعت في مخابئ تحت الأرض، لأن تلك الدول تُدرك أهمية الحفاظ على هويتها التاريخية، وقد أعطت إيطاليا بالمقابل الأولوية لنقل الأعمال الفنية الثمينة وغيرها من الأشياء الثقافية بعيداً عن خطوط النار.
الآثار تتداعى
وبالرغم من أن الحرب في السودان بدأت في نقاط اشتباك محدودة محدودة، وكان بالإمكان التحرك لحماية تلك الآثار، والحفاظ على ذاكرة الأمة، إلا أن شيئًا من ذلك لم يحدث، ولم يتم التعرض، لا في وسائل الإعلام ولو الجهات الحكومية المختصة، لحماية التراث كجزء من القوانين الدولية للحرب، ولا يعرف أحد، حتى الآن، ما الذي حدث للمتحف القومي والطبيعي، المعالم الآثرية، ما حل بالقصر الجمهوري(القديم)، المتحف الحربي، معالم الحقبة المهدية في أم درمان وغيرها، هل لا زالت صامدة أم تعرضت للتخريب، أم اختفت بالمرة؟
دعونا نلقي نظرة على آخر المواقع التي احتلتها ميليشيا الدعم السريع، وهو جبل موية، وحديقة الدندر، فالثانية تعتبر محمية طبيعية، أشارت التقارير الصحفية إلى توغل ميليشيا الدعم السريع في غابتها وقتل الحيوانات البرية، في عمليات صيد جائر، فيما فرت العشرات من الحيوانات بعيداً بسبب الانتشار العسكري للقوات، وأصوات الأسلحة.
أما جبل موية والذي تحول إلى ثُكنة عسكرية لقوات التمرد فهو يضم في قمته سرايا هنري ويلكم، وهى عبارة عن بناء صخري ضخم في ارتفاع ٤ طوابق، كان معملاً ومكتباً إدارياً لأعمال هنري باشا الطبيب البريطاني ورائد الصناعات الدوائية الذي اتخذ من الجبل حقل تجارب على أطفال المنطقة، ويضم جبل موية كذلك ملاحق سرية، كانت تمتد اليها عجلات سكك حديد مناجم الذهب، وأسفلها خزينة هنري الرئيسية.
حرق القصر القديم
من المعالم الآثرية المهمة القصر الجمهوري القديم، والذي تم وضع حجر الأساس له في العام 1830، واكتسب زخمًا تاريخيًا نظرًا لرفع علم الاستقلال على ساريته في يناير/ كانون الثاني 1956، وبالرغم من أنه ليس نقطة تحكّم عسكرية فإنه في أحسن الظروف لن يصمد طويلًا؛ بسبب استخدامه ثكنة عسكرية من اليوم الأول للحرب من قبل قوات حميدتي، وقد اندلعت فيه بعد ذلك النيران أكثر من مرة.
فيما تحتضن مدينة الخرطوم بحري المتحف الحربي، الذي يضمّ عشرات المقتنيات الحربية والعسكرية النادرة، من صور وأزياء وأسلحة تؤرّخ لحقب عسكرية مختلفة، وهو أيضًا يقع في منطقة تقاطع نيران الجيش، وميليشيا الدعم السريع، وكل ما يحتويه عُرضة للخطر.
من المعالم المهمة التي لحق بها الخراب كذلك متحف الخرطوم الطبيعي، الذي نفقت فيها كل الحيوانات والطيور نفوقًا بطيئًا؛ بسبب العطش والجوع، بما فيها الثعابين والعقارب والتماسيح والحشرات شديدة السُمية، كثير منها تم جمعه بصعوبة بالغة، ولا توجد منه عينات أخرى في السودان، ومع ذلك لم تشفع صرخة مديرة المتحف سارّة عبدالله لإنقاذ ذلك المتحف، وفشلت كل الجهود في نقل الكائنات بداخله إلى مكانٍ آمن، لتنقرض شيئًا فشيئًا، وتلحق بوحيد القرن الأبيض الأخير المعروف بـ”سودان”.
محو ذاكرة الأمة
من المواقع المهمة التي يهددها خطر الحرب دار الوثائق القومية، وسط الخرطوم، والتي تحفظ ذاكرة الأمة، ومع ذلك يمكن أن تلتهمها النيران، إن لم تكن قضت عليها بالفعل.
وتكتسب أهميتها من كونها ثانية أعرق دور لحفظ التراث المكتوب في المنطقة، من جمعه إلى تصنيفه وأرشفته، وتضم داخلها نحو ثلاثين مليون وثيقة تقع في مائتي مجموعة وثائقية مع أصناف الخرائط والمخطوطات والكتب النادرة، لكن تلك الأهمية لا تعني للجنجويد شيئًا، ولن يترددوا في جعلها مخزنًا للأسلحة كما فعلوا بالمتحف القومي، الذي تم احتلاله بطريقة عبثية، وقاموا بنبش آثار (الكنداكات) وتوابيت ملوك الحضارة الكوشية القديمة، وعرضوهم في مواقع التواصل الاجتماعي باعتبارهم ضحايا سجون البرهان! وعلى رأس تلك الآثار تمثال الملك تهارقا (690 – 664 ق.م) الذي نُقل حديثًا إلى دار المتحف القومي عند ملتقى النيلين، ومع ذلك لم تتحرك اليونسكو، المعنية بالآثار، للحفاظ على التراث السوداني، كما لو أن الأمر لا يعنيها!
وباستهداف القصر الجمهوري والمتحف القومي ودار الوثائق والإذاعة والتلفزيون وجامعة الخرطوم ومنطقة المصورات، وآثار ما قبل الحقبة الاستعمارية فإن هذه الحرب، أو من يقف خلفها، يتعمد استباحة كل ما هو وطني وتاريخي. وكان ذلك يستدعي_على الأقل_ تطبيق أفكار عالم الاجتماع الفرنسي (هالبواكس) على تفسير الهجمات أثناء الحروب على المعالم التي تمثل الهوية الاجتماعية، أو ما يعرف بـ”تدمير الهوية” لوصف الهدم المتعمد للمباني، أو “جرائم قتل هوية” وفقاً لمعجم اليونسكو.
نهب بيت الخليفة
بالرغم من أن بيت الخليفة حالياً في منطقة يسيطر عليها الجيش في أم درمان، إلا أنه تعرض للنهب من قبل الدعم السريع، إلى جانب عمليات التخريب الوسعة التي طالت جدرانه ومحتوياته، واختفت “سبحة” عثمان دقنة، وسيوف الامير أبوقرجة، والأمير النجومي، وكأس الشرب الخاص بالخليفة عبد الله التعايشي وغيرها من مقتنيات المتحف. كما تم تحطّيم منظومة أجهزة المراقبة بالمتحف، حتى لا ينكشف أمرهم، في ذات الوقت أدانت أسرة الخليفة عبدالله التعايشي ما وصفته بالتخريب الممنهج الذي قامت به مليشيا الدعم السريع، في متحف الخليفة بأمدرمان، وأعلنت السعي للتواصل مع المنظمات والهيئات المهتمة لاتخاذ إجراءات قانونيه ضد هذا الاعتداء والعمل على اصلاح وإعادة ما تم تخريبه ونهبه.
لا شك أن الحزن الناتج عن تدمير المعالم الأثرية لا يمكن مقارنته بصدمة فقدان الأرواح وعذابات النزوح، إلا أنّ الحفاظ على التراث أمر بالغ الأهمية لجهة ارتباط المجتمعات بمعالمها الثقافية، ومع ذلك لم تظهر حتى الأن الجهود الرسمية وغيرها لحماية الآثار التاريخية والتراث الثقافي، وكان يمكن بالفعل تكوين لجان اشرافية لإطلاق المناشدات، والسعي للوصول إلى تلك الآثار ونقلها إلى مواقع آمنة، أو التنبيه إلى أهمية الحفاظ عليها.
من يدق ناقوس الخطر؟
ليس ذلك فحسب، بل حتى منظمة اليونسكو، المعنية بحماية الآثار، لم تتحرك بصورة جادة، كما لو أن الأمر لا يعنيها، أو على الأقل، لم تدق ناقوس الخطر مثلما فعلت في أوكرانيا، حيث بذلت مع مؤسسات الدولة في كييف الكثير من الجهود لنقل القطع الثقافية بعيدًا عن الخطر، منها ملاجئ لا تزال سرية، وتم نقل الأشياء المعبأة في صناديق عندما أمكن ذلك نحو الجزء الغربي من البلاد وبعيدًا عن المناطق الجنوبية الشرقية التي سقطت في يد القوات الروسية، أما في السودان فلا أحد يعبأ، ولا يبدو أن للآثار التاريخية والمواقع الثقافية أهمية تذكر، سوى كان ذلك للسلطات أو منظمة اليونسكو.
المحقق – عزمي عبد الرازق
إنضم لقناة النيلين على واتسابالمصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: الدعم السریع ومع ذلک ذلک لم
إقرأ أيضاً:
الجيش السوداني يعلن استعادة مدينة سنجة من الدعم السريع
أعلن الجيش السوداني، يوم السبت، استعادة مدينة سنجة الرابطة بين ولايتي سنار والنيل الأزرق الحدودية، من قوات الدعم السريع.
ونشر الجيش مقاطع فيديو يقول فيها إنه استعاد السيطرة على مقر قيادته وكامل أجزاء المدينة.
ومنذ اندلاع الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع في منتصف أبريل 2023، كانت المنطقة تعتبر ملاذا آمنا للنازحين من الخرطوم والجزيرة في وسط البلاد، لكن منذ أكثر من 7 أشهر تشهد المنطقة عمليات قتالية عنيفة ظلت سجالا بين الطرفين وسط تقارير عن انتهاكات كبيرة ارتكبت في حق المدنيين.
ومنذ اندلاع الاشتباكات فيها في يونيو الماضي شهدت المدينة حركة نزوح كبيرة للسكان في اتجاه الجنوب نحو ولايتي النيل الأزرق والقضارف، حيث تشير تقديرات إلى نزوح أكثر من 80 في المئة من السكان.
وخلال الأشهر الأربع الماضية تعقدت الأوضاع الميدانية أكثر في المنطقة في ظل هشاشة أمنية كبيرة، ما أدى إلى إغلاق معظم الطرق التي استخدمها السكان للخروج من سنجة.
وأثارت المعارك العنيفة في محور ولايتي سنار والنيل الأزرق الواقعتان جنوب شرق البلاد تساؤلات حول أهمية هذا المحور والتبعات السياسية والعسكرية التي قد تترتب على الواقع الجديد الذي أحدثته المعارك الأخيرة.
وتربط المنطقة التي تضم مدنا مثل سنجة وسنار والدمازين بين 4 ولايات حيوية في وسط وغرب السودان، كما تبعد مدينة الدمازين على مسافة 100 كيلومترا من الحدود مع أثيوبيا، كما ترتبط المنطقة بحدود مباشرة مع دولة جنوب السودان التي انفصلت عن السودان في العام 2011.
ومن الناحية العسكرية، تشكل المنطقة خط امداد لوجستي مهم لربط القوات الموجودة بوسط البلاد بالحاميات الموجودة هناك.
وتعتبر المنطقة واحدة من أغنى المناطق بالبلاد وتضم مشاريع زراعية وانتاجية شاسعة المساحة، من بينها مشروع السوكي الزراعي، وعدد من المشاريع الكبرى.
وتضم أيضا خزاني الروصيرص وسنار اللذان يسهمان بنحو 52 في المئة من الإمداد الكهربائي في البلاد ويتحكمان في قنوات الري الرئيسية التي يعتمد عليها مشروع الجزيرة وهو أكبر مشروع على مستوى العالم يروى بنظام الري الانسيابي ويقع على مساحة 2.3 مليون فدان.
وتضم المنطقة أيضا محمية الدندر التي تعتبر اكبر محمية طبيعية في أفريقيا وتمتد على مساحة 10 آلاف كيلومتر مربع، وتعتبر المنطقة موطنا لأكبر الغابات في السودان حيث تشكل أكثر من 80 في المئة من مساحات غابات البلاد.