قابرييل مارسل: ملاحظات موجزة عن البير كامو في “أُناسٌ ضدَّ الإنسانيَّة”*
تاريخ النشر: 11th, July 2024 GMT
بقلم: إبراهيم جعفر
ترجمه عن اللُّغة الإنجليزية: إبراهيم جعفر
يعبُّر ألبير كامو، بحسب قابرييل مارسل Gabriel Marcel، في كتابه المُسمَّى "أُسطُورة سيزيف"، عن موقفٍ رفضٍ نظَرِيْ. ويتساءلُ مارسل، في هذا المُتَّصَل، عمَّا إن يجب علينا القول هنا إن موقف الرَّفض النَّظري ذاك الذي أوصله هو- قابرييل مارسل- بفكر ألبير كامو "يشتغلُ فقط عِندَ مجالِ النَّظريَّة الخالصة".
وفي مِعرَضِ ردِّه على ذاك التَّساؤل المُقتَرح من قِبَلِهِ يتفكَّرُ قابرييل مارسل على النَّحوِ التَّالي:
"بالنَّسبةِ لضميرٍ حسَّاسٍ كضميرِ ألبير كامو ينبغي لوجود أيِّ معاناةٍ غير مُستحقَّة في هذا العالم (كمعاناة الأطفال، على سبيلِ المثال، وأيِّ معاناةٍ أخرى قد تنجُمُ عن حادثاتٍ طارئةٍ قد تُعَدُّ، عُمُومَاً، جاريَةً على نحوٍ مَجَّانِيٍّ أو عبثِيْ) أن يمنعَ أيَّ مُفَكِّرٍ مُحتَرِمٍ لذاتِهِ من السَّماح لنفسِهِ بالقِبُولِ إمَّا بفكرةِ أنَّ هذا العالم بِوُسْعِهِ أن يكُن عَمَلاً من أعمالِ الله أو حتَّى بِفِكْرَةِ أنَّ هذا العالم قابلٌ، في الأساس وبتمام معنى تلك الكلمة، لأن يكن عالماً بالوُسعِ استيعاب شأنِهِ عبرَ إعمال مَلَكَةِ العقل والتفكير/النَّظر العقلي وحدَه".
ويُمضِي مارسل قائلاً على ذاكَ السَّبيل:
"إنَّ الواحدُ مِنَّا قد يضيف القولَ هنا إنَّهُ من عِندَ وِجهةِ نظرِ كامُو، كما أراها، يجبُ على الفظائع المُعاصرةِ التي نشهدها حاليَّاً أن تكن ناشئةً عن لامعقُوليَّةٍ مُجَذَّرَةٍ عِندَ عَينِ عُمقِ الأشياء وإنَّ موقفَاً كموقفِ كامو ذاكَ من العالم وما قد نُفكِّرُ بشأنِهِ على مُستَوَىٍ ميتافيزيقي ينطوي، بلا شكٍّ، على ضربٍ معيَّنٍ من الصِّحَّةِ الأخلاقيَّةٍ، سيَّمَا وأنَّهُ موقفٌ صادقٌ ومُشَرِّفٌ، موقفُ إنسانٍ يرفضُ أن يُفرَضَ عليهِ شيءٌ ما أو آخرٌ (موقفٌ ما أو آخر)، كما ويرفضُ، من أعمق أعماق كينُونَتِهِ، الخلطَ فيما بين ما يرغب هو في أن يكن عليه هذا العالم وما يُوجدُ- بحسبِهِ- فِعليَّاً في هذا العالم".
لكنَّهُ ينبغي عليَّ، في ذات الوقتِ، أن أُضيفَ القولَ، في هذا المُتَّصَل، إنَّ موقف كامو ذاكَ قد ينطوي أيضاً على تبسيط شديدٍ بخصوصِ المسألةِ المعنيَّةِ هُنَا. إنَّهُ، بحسبِي، موقفُ إنسانٍ لم يبلغ أبدَاً مرحلة ما قد أميلُ كثيراً إلى أن أُسمِّيهِ "التدبُّر الثَّانِي". وأعني بذلكَ، بعبارةٍ أخرى، أنَّ السُّؤالَ الأَسَاسيَّ الذي يبدو أنَّ كامو لم يطرحه أبدَاً على نفسِهِ على هذا السَّبيلِ هو هذا السُّؤال: على أيِّ نحوٍ، أو بأيِّ حقٍّ، قد أكن أنا، أو أيُّ إنسانٍ آخرٍ في هذا العالم، مُؤَهَّلاً، في المقامِ الأوَّلِ، لاتِّخاذِ موقفٍ كموقفه ذاكَ، أو إِصدارِ حكمٍ كَحُكمِهِ ذاك، بشأنِ العالم في إطلاقِهِ؟ إن الأمر هنا يُضْمِرُ أحدَ شيئين: إمَّا أن أكُن أنا نفسي، في تلكَ الحالةِ، ليس منتمياً إلى ذاك العالم موضِع الحديث هنا وبالتالي لا يكن لَدَيَّ أيَّ سببٍ ما أو آخرٍ يُؤَهِّلُنِي لافتراض أنَّهُ مفهوم أو غير مفهوم وعبثيٍّ في أصلِ وجُودِهِ بالنِّسبةِ لي ومن ثَمَّ أكن أنا، بموجب ذلك، غير مؤهَّلٍ، في الأساس، للحكم على قيمتِهِ أو الحديث بشأنه أو اتِّخاذ موقفٍ ما أو آخرٍ بصددهِ أو، من عِندَ الجِّهةِ الأخرى، أكن أنا حقَّاً جُزءاً من ذاكَ العالم وأنا أراهُ غيرَ مفهومٍ وعبثِيَّاً في أصلِ وجُودهِ ومن ثَمَّ أكن أنا، وفق وجهة النَّظرِ تلك، عبثيَّاً أيضاً في أصل وجُودي... حسنَاً، رُبَّما يُقِرُّ لنا كامو بصحة ذلك. غير أنَّهُ بإقرارِهِ ذاك قد يُورِّطَ نفسه في معضلةٍ "فلسفيَّةٍ" أخرى مُؤَدَّاها أحد أمرين هما إمَّا أن أكن أنا، في حالة كوني عبثيَّاً في أصل وجُودي، سأكن كذلك عبثيَّاً في طبيعتِي المُطلقة أو النِّهائيَّة ممَّا يجعل أحكامي وتقديراتي أيضاً عبثيَّةً وبالتالي نافيةً لنفسِها ومن ثَمَّ لا يَكن بالوُسعِ الإقرارُ لها بأنَّها مُنطَوِيةٌ على أيِّ نوعٍ ما أو آخرٍ من الصِّحَّة أو، من عِندَ الجِّهةِ الأخرى، قد يلزمنا، والحالُ كذلك، الإقرار بأنَّني لديَّ طبيعةٌ مُزدوجة ("ثنائيَّة") هُنالِكَ جزءٌ منها ليس عبثيَّاً في أصلِ وجُودِهِ ومن ثَمَّ بإمكانِهِ إصدار أحكام بشأن العبث والعبثِيَّة. لكن ينهضُ هنا تساؤُلٌ بُدَهِيٌّ: أنَّى لذلك الجُّزء غير العبثِيِّ المفترض قيامُهُ في أصل وُجُودِي التَّمكُّن، في الأصل، من الوجُودِ في وجُودي الذي تفترضُ أحكامي عنه أنَّه ليس هو، فحسب، عبثِيَّاً في أصله وإنَّمَا كذلك مُطلق العالم الذي هو موجود فيه؟ ليس هنالك، في الحقِّ، سبيلٌ للإقرار بإمكانِ وجُود مثل ذاك الجُزءِ فِيَّ في حالةِ حُكمِي بعبثيَّة وُجُودِي وعبثيَّة العالم الذي أنا موجُودٌ فيه دونَ بدئي، من جهةٍ أخرى، في صياغةِ نوعٍ من الازدواجيَّة التي من شأنِها، بمعنى ما أو آخرٍ، إحداثَ شَرَخٍ في توكيدي الأصليِّ النَّظريِّ لعبثيَّة العالم.
كُلُّ ذلكَ قد ينطوي، في عبارةٍ أكثرَ إيجازَاً وبساطةً، على نقطةٍ مُؤدَّاهَا أنَّهُ ليس هنالك معنىً في قولِ الواحدِ مِنَّا أنَّ العالم ("الوجود") عبثِيٌّ في أصلِهِ ما لم يكن الواحد منَّا بِوُسْعِهِ، على نحوٍ ما أو آخرٍ، مقارنة "العالم" ("الوجود")، في كُلِّيَّتِهِ، بفكرَةٍ ما أو أخرى- بمثالٍ ما أو آخرٍ- عن نظامِ عقلانيَّةٍ ما أو آخرٍ قد يلحظُ الواحدُ مِنَّا أن "العالم" ("الوجُود") لا يتوافق معه. لكنَّ أَنَّى للواحدِ مِنَّا الوصول إلى حيث يكن له إدراكٌ لوجود مثل ذاكَ المثال؟ من أين، بعبارةٍ أخرى، يمكن للواحدِ مِنَّا الحوزة، في المقامِ الأوَّل، على مثل تلك الفكرة أو ذاكَ المِثالْ؟
بحسبِ قابرييل مارسل تُؤدِّي كُلُّ طرق التَّفكير تِلكَ بشأنِ العالم، في غايتِها، بالواحدِ مِنَّا إلى استبدال "ما هو عبثي" إمَّا بغُنُوصيَّةٍ يُشَكِّلُ المُجيءُ إلى الوجود-في-العالم في مرآها نوعاً من السِّقُوط أو بثنائيَّة مانَوِيَّة بسيطة تشتملُ على عداءٍ دائمٍ فيما بين الخير والشَّر (مارسل، أُناسٌ ضِد الإنسانيَّة، ص. 86-88).
وفضلاً عن ذلك يطرح قابرييل مارسل، في هذا المُتَّصَلِ، هذا السُّؤال العَمَلِي: لئن نحنُ نسمحُ، على سبيلِ الجَّدَلِ فحسب، لفيلسوفٍ ما أو آخر بأن يُصدرَ حُكمَاً على العالم ("الوجود") مُؤَدَّاهُ أنَّ العالم ("الوجود") عبثِيٌّ في أصلِ وِجُودِهِ ما هي، إذاَ، النتائج المعاشيَّة العينيَّة التي قد تترتَّبُ، والحالُ كذلك، على ذاك الحُكم؟ ما الذي، بعبارةٍ أخرى قد يقُولُهُ لنا مثل ذاك الحكم بخصوص ما يُمكن أن نفعَلَهُ في، وبـ، هذا العالم أو الوِجُودْ؟
إجابة مارسل الفوريَّة على هذا السُّؤال هي أنَّ مثل ذاك الحكم لا ينطوي، في التحليل النِّهائي، على أيِّ شيءٍ مُحدَّد لنا لكي نفعله وذلك، وفق مارسل، لأنَّ الإنسان الذي يعتقد أن "العالم عبثيٌّ في أصلِ وجُودِهِ" قد يتوجَّبُ عليه، في الواقع العَمَلِيِّ، إما أن يُركَّزَ انتباهه واهتمامه حول الكفاح (في نفسه وفي العالم) ضدَّ أيِّ شكلٍ من أشكالِ المظالم والانتهاكات الدُنيويَّة الأرضيَّة "العبثيَّةِ" أو أن يتَّخذَ، من جهةٍ أخرى، موقفاً "فلسفيَّاً" ساخراً وتشاؤميَّاً من كُلِّ ذلكْ. غيرَ أنَّ مثل ذلك الكفاح، يُلاحظُ مارسل، من شأنِهِ الانتهاء، على كُلِّ حالٍ، أو هو قد ينتهي، على كُلِّ حال، إلى الشِّعورِ بـ"خيبةِ أملٍ" أو "إحباط" بخصوص مدى وأهمِّيَّة النتَّائج التي من المنظور له تحقيقها. ويعني مارسل هنا بعبارة "خيبة أمل" تلك أنَّ الكفاح المعني ليس بِوُسْعِهِ الاتِّكاء، أو الارتكاز، في المقام الأوَّل، على أيِّ ضربٍ ما، أو آخرٍ، من ضِرُوبِ الطِّموح أو الآمال العزيزة على النَّفس والرُّوح وذلك، ببساطةٍ، لأنَّ أمثال ذاك الطِّموح أو تلك الآمال، يُوكِّدُ مارسل، تستبعدُ عنها، عِندَ عينِ قاعدتها وبدئها وجذرها، أيَّ موقفٍ ينطوي (أو أيِّ "رُوحٍ" تنطوي) على أيِّ عبثيَّةٍ أو موقفٍ عبثِيٍّ تجاه العالم.
وفيما يختصُّ بالموقف "الفلسفي" السَّاخر، المُتهَكِّم، تجاه العالم "المُفترض أنَّهُ عبثِيُّ في أصلِ وجُودِهِ" يقولُ مارسل إنَّ الموقفَ إيَّاهُ يُضمرُ طَيَّهُ "نفيَاً لما قد فُهِمَ كلاسيكيَّاً بشأن معنى كلمة "فلسفة"..."، كما إنَّهُ، يُوكِّدُ مارسل، "ليس هو موقف انتحارٍ فكريٍّ، فحسب، وإنَّما هو أيضاً أكثر شكول الانتحار الفكري التي يُمكنُ تخيُّلُهَا خساسَةً" (المرجع السابق، ص. 89). (أودُّ أن أُشيرُ هنا، في كلمةٍ عابرةٍ، إلى أنَّ مارسل قد انتقد، وفق ذات المَنظور أعلاه، تأكيد الفيلسوف جان بول سارتر على ما يشير إليه باسم "العدم الأساسي" للوعي الإنساني والنَّفس الإنسانية، كما إلى أنَّ مارسل قد هاجم، في هذا المُتَّصَلِ، على نحوٍ لفظِيٍّ ملحمي، عداء جان بول سارتر المعلن لما يشير إليه باسم "الرَّصانة أو الجِّدِّيَّة الذِّهنيَّةْ serious- mindedness").
[كُتبَ هذا المقال باللُغة الإنجليزية في وقتٍ ما من تسعينات القرن العشرين الماضي].
هامشان:
* عنوانٌ لأحدِ أعمال قابرييل مارسيل الفلسفيَّة:
Men against Humanity, trans. G S Fraser, The Harvill Press Ltd., London, 1952.
** نُشرَ هذا المقال ضِمنَ كتابٍ لي، باللغة الإنجليزية، بعنوان:
A Saint & a Goose and Other Writings [A Collection of Reviewing Essays & Reflections]
صدر عن دار نُور للطباعة والنَّشر، 03 أغسطس، 2017. أنظر: A Saint & a Goose and Other Writings / 978-3-330-97675-7 / 9783330976757 / 3330976756 (noor-publishing.com)
وقد قمت هنا بترجمة المقال المعني إلى اللغة العربية في يونيو، 2022م.
khalifa618@yahoo.co.uk
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: فی هذا الم ت هذا العالم أکن أنا هذا الس ومن ث م فی أصل على أی
إقرأ أيضاً:
“10 أضعاف حجم البنتاغون”.. الصين تبني أكبر مركز قيادة عسكري في العالم
يمانيون/ منوعات كشفت صحيفة “فايننشال تايمز” نقلاً عن مسؤولين أمريكيين حاليين وسابقين، بأنّ الجيش الصيني يبني مجمّعاً ضخماً غربَ بكين، تعتقد الاستخبارات الأمريكية أنه سيستخدم كمركز قيادة في زمن الحرب وهو أكبر بكثير من البنتاغون.
وأظهرت صور الأقمار الصناعية التي حصلت عليها صحيفة “فايننشال تايمز”، والتي تفحصها الاستخبارات الأمريكية موقع بناء مساحته 1500 فدان، تقريباً على بعد 30 كيلومتراً جنوب غرب بكين، مع ثقوب عميقة يقدّر خبراء عسكريون أنها ستضمّ مخابئ كبيرة ومحصّنة لحماية القادة العسكريين الصينيين، خلال أيّ صراع، بما في ذلك خلال أيّ حرب نووية محتملة.
وقال العديد من المسؤولين الأمريكيين: إن مجتمع الاستخبارات يراقب عن كثب الموقع الذي سيكون أكبر مركز قيادة عسكري في العالم، وحجمه عشرة أضعاف حجم البنتاغون على الأقل.
وبناء على تقييم لصور الأقمار الصناعية التي حصلت عليها الصحيفة بدأ البناء الرئيسي في منتصف عام 2024، وقال ثلاثة أشخاص مطلعون على الوضع: إن بعض محللي الاستخبارات أطلقوا على المشروع اسم “مدينة بكين العسكرية”.
ويأتي بناء القاعدة الجديدة في الوقت الذي يطوّر فيه الجيش الصيني، أسلحة ومشاريع جديدة قبل الذكرى المئوية للقوة في عام 2027، وتزعم الاستخبارات الأمريكية أنّ الرئيس شي جين بينغ “أمر الجيش أيضاً بتطوير القدرة على مهاجمة تايوان بحلول ذلك الوقت”.
كما يعمل جيش التحرير الشعبي على توسيع ترسانته من الأسلحة النووية بسرعة، ويعمل على دمج فروعه المختلفة بشكل أفضل.
وقال دينيس وايلدر، رئيس قسم تحليل الصين السابق في وكالة المخابرات المركزية: “إذا تمّ تأكيد ذلك، فإنّ هذا المخبأ القياديّ الجديد المتقدّم تحت الأرض للقيادة العسكرية، بمن في ذلك الرئيس شي، بصفته رئيساً للجنة العسكرية المركزية، يشير إلى نيّة بكين بناء ليس فقط قوة تقليدية من الطراز العالمي، ولكن أيضاً قدرة متقدّمة على الحرب النووية”.
وفي بيان لها، أكّدت السفارة الصينية في واشنطن أنها “ليست على علم بالتفاصيل” لكنها أكدت أنّ الصين “ملتزمة بمسار التنمية السلمية والسياسة ذات الطبيعة الدفاعية”.