إذا صح ما أُوصف به من كوني متعدد اللغات، أكتب باثنتين وأُحسن ثلاثا (والرابعة آتية)، فالفضل يعود إلى نزوعي الشخصي وفضولي الغريزي وأيضا وبالتأكيد إلى سلسلة ASSIMIL ذات خيار بيداغوجي يقضي بتعليم اللغات من دون تعب ومشقة. وقد نهلتُ منها كثيرا وكانت لي عونا وسندا. وسبق لي أن اقترحت على بعض أعضاء "الإيرقام" وخارجه أن يتبعوا ذلك المسلك في تعليم الأمازيغية أو فرع آخر من فروعها، وذلك تفعيلا للحديث النبوي الشريف "يسروا ولا تعسروا" و"بشروا ولا تنفروا"، واقتداءً بكتاب الأستاذ الرائد محمد شفيق "أربعة وأربعون درسا في اللغة الأمازيغية"، الصادر عن دار النشر العربي الافريقي سنة 1991.



وأنا مدين لهذا الكتاب الميسِّر في ما استطعت تعلمه من تشلحيت كما سماها العالمان الحسن اليوسي والمختار السوسي، نفعنا الله بذكرهما وتراثهما، وذلك لأن المؤلَّف ذاك مكتوب كله بالحرف العربي، وكذلك الشأن في "المعجم العربي الأمازيغي"، هذا علاوة على مؤلفه البالغ الفائدة والتيسير كأعمال أستاذنا المذكورة، وهو "الدارجة المغربية مجال توارد بين الأمازيغية والعربية" الآتي ذكره. ومؤدي كلِّ ذلك أن تلك الأعمال لو كانت مكتوبة بحرف تيفناغ الذي لا تاريخ له ولا تراث لتعسرت عليَّ القراءة واستحال التحصيل والفهم، وكذلك يكون الأمر عند جمهرة من دعاؤهم: "قل ربي زدني علما وزدني لغة".

وبناءً على مبدأ منع المنع لنترك للمهتمين حرية اختيار الحرف الذي ييسِّر لهم تعلم صنف من الأمازيغية عبر أسهل الطرائق وأنجعها. وليس لأيٍّ كان أن يحرِّم عليهم حريتهم ويملِّكها حصريا لدعاة الحرف التيفناغي. وحجة أولئك الدامغة أن لغات شتى تكتب بالحرف العربي، كالفاريسية والأوردية والكردية وحتى التركية قبل أن يقدم مصطفى أتاترك على اسبداله بالحرف اللاتيني وإقامة النظام اللآئكي ومنع شعائر الإسلام وألبسته والعمامة والطربوش.

عن المكوّن الأمازيغي ووضعه

في ذلك السياق الذي نحن بصدده، يصح القول بأن ذلك المكون، الذي هو أحد مكونات شخصية المغرب القاعدية، لا يمكن موضوعيا تقديمه على أنّه مكوّن هذه الشخصية المحوري أو مكونها ـ الأم، اللّهم إلا إذا تصورنا الهوية على نحو حصري لا متحرك. ذلك لأنه قد يحق للمحللين أن يقفوا اليوم عند نسبة الناطقين الأحاديين لهذه اللهجة الأمازيغية أو تلك، معتبرين عددهم محدودا في شريحة شائخة أو في مناطق معزولة تماماً عن الحواضر والتمدن. ولعل هذا ما قصد إليه الباحث الأكاديمي محمد شفيق حين سجل هذه الملاحظة المهمة: "من المعلوم أن مصر، مثلاً، استعرب سكانها في ظرف زماني وجيز. والسبب هو تجمع السكن فيها. أما المغرب ـ والمغرب الأقصى خاصة ـ فلا يزال استعرابه غير مكتمل بعد إسلام الأمازيغ بأكثر من ثلاثة عشر قرنا. والسبب هو حالة البداوة وضغف التمدن في جل مناطق البلاد، أي تشتت السكن".

الأمازيغية التي هي لهجة مناطق الأطلسين المتوسط والكبير الشرقي في المغرب، لا يمكن إطلاق اسمها على لهجتي سوس والريف إلاّ مجازيا وتجاوزاً،إنها حالة البداوة إذن وضعف التمدن: وعليه فلا مجال لتخطيء أولئك المحللين إذا رصدوا أن اللهجة الوحيدة المتداولة فعلياً على أوسع نطاق تمثيلي، ومن دون إقصاء لأي مجموعة، هي العامية المغربية، كتركيب تمازجي بين الفصحى واللهجات الأمازيغية، كما تدل عليه أعمال معجمية ودراسات، وكما يدل عليه أيضاً عمل محمد شفيق: الدارجة المغربية: مجال توارد بين الأمازغية والعربية، وهو عمل مهم ومفيد، ولو أن السبق إليه يرجع إلى المختار السوسي في كتابه المخطوط الألفاظ العربية في الشليحة (ولا يذكره ذ. شفيق)، حيث يحصي ما لا يقل عن ستة آلاف لفظة.

بعيدا عن كل الأسئلة التي قد تغدو موضوع سجالات إحصائية لا ضابط لها ولا مخرج، لنحاول بالأحرى ـ متجردين عن كل عصاب عرقي وكل هرج كلامي ـ أن نفكر معاً في قضايا أكثر أهمية بالتأكيد، من شأنها أن تخصب حوارا متحضرا، وأن ترغبنا في إسداء أحسن الخدمات للثقافة المغربية ككل لا يتبعثر ولا يتبعض.

الأمازيغية، كما يكتب ويقال، أقدم بقليل من الأهرامات ومن أبي الهول. والأمر يتعلق هنا، على الأصح، ب "التَّركَية" لهجة قبائل الطوارق الرحل ذوي نمط العيش الصحراوي والبدوي الخالص. لكن حتى لو سلمنا جدلا أن ذلك القول ينسحب على الأولى بأي تخريج كان، فالسؤال المُشْكِلُ يكمن بالأساس في التساوق البنيوي بين لهجة أو حتى لغة ذات عمر مديد وبين خصاص هائل عويص، متمثل في انعدام شبه مطبق لأي حضور مكتوب ولأي امتداد ثقافي قابل للقراءة. ولعل هذا ما يشير إليه ذ. شفيق عطفاً على ما ذهب إليه بعض الدارسين الأجانب، إذ يسجل: "وقد استنتج اللغويون، أمثال براس Prasse وباسي Basset وغيرهما، من استقرار القواعد الجوهرية في النحو والصرف ومن ثبات الرصيد المعجمي أن اللغة الأمازيغية تتميز باستمرارية ملحوظة، رغم أنها تخلت عن أبجديتها الأصلية (تيفيناغ) مند اثني عشر قرنا ونيّف، ورغم أنها لم تكن تكتب إلاّ نادرا طوال هذه القرون المديدة". ونعلم أن المختار السوسي اشتكى في مؤلفه "إليغ قديما وحديثا من أن شأن هذه المنطقة "في مناضد التاريخ المكتوب ضئيل جدا. وما ذلك إلاّ بسبب التفريط المستولي على أطراف المغرب من قديم [...] ولا يعلم إلاّ الله ما كنت أعاني من الجهود بادئ ذي بدء، لعدم المراجع عدماً تاماً»؛ هذا مع أنه في خاتمة كتابه "سوس العالمة" يرى أن أشعار الشلحيين (وهي نسبيا حديثة العهد) تشكّل مصدرا يعول عليه في التأريخ السوسي.

 إذا ما تمثلنا واقع ذلك الخصاص المعوِّق، فإنه لا يمكننا الكلام موضوعياً عن الثقافة الأمازيغية بالمعنى التراثي إلاّ ضمن تشخيصها وتفعيلها من طرف لغة الضاد وتاريخ محمولاتها المدلولية والحضارية.

مغربيا، الفوارق بين اللهجات المشكلة للأمازيغية (تاشلحيت، تامزيغت، تاريفيت) قائمة فعلاً بالتعدد والاختلاف، كما يقر باحثون جامعيون (عبد اللَّه بونفور، أحمد بوكس...) ولا يهوّن من واقعها المعيش اجتهادات آخرين (كالمحمدين شفيق والشامي، وغيرهما)؛ فهذا الأخير، حتى نُنَوِّعَ الإحالات، يقر من حيث المبدأ أن «التعدد داخل اللغة ظاهرة صحية»، ويستشهد في ذلك بجملتين بتاريفيت: «يكّارد ومقران ذايسن» و«تّا تّاكمريوت ءيمقرانن»، أي تباعاً «قام الرجل» و«هذا هو الصيد الحكيم»، ويورد مقابليهما في القبايل والأطلس وسوس، فيظهر جلياً للعيان تباينهما اللفظي وحتى التركيبي، وكذلك الشأن في وفرة وافرة من الألفاظ نستقي عيّنة منها عند الباحث نفسه في اللوحة التالية:



إنها إذن فوارق تبرز على أي حال من جهة استعمالات غالبية الناطقين بتلك اللهجات وممارسيها، كما كانت وما انفكت إلى حدّ ما تشهد به نشراتها الإخبارية السمعية ـ البصرية، وكذلك مادة "بربر" في "أنسكلوبيديا يونيفرساليس"، حيث يذهب ليونيل غالان إلى هذا الرصد: "إن البربرية كانت إذن سيئة العدة لمقاومة القوى التي تهدد كل لسان. وهكذا انفجرت في ذرور (أو غبار en une poussière) من اللهجات التي لا تمثل أي واحدة منها البربرية...». ومن هذا التعدد الفائق يدرس روني باسي عينة يحددها في أربعين لهجة ولهيجة، وذلك في كتابه "اللهجات البربرية". وأمام واقع هذا التعدد والتنوع رأى بعض الجامعيين "المستمزعين" أن المهمة "العلمية" تكمن في خلق كيان لغوي مخبري موحد، يتخذ له كأنمودج معياري تمازيغت التواركَ (تماشقت، طماشق) وهي لسان أجداد الطوارق، قريبة من اللسان المصري القديم الذي ما زال النوبيون يتحدثون به ما بين جنوب أسوان ودنقلة السودانية؛ ويمكن لتلك "اللغة" المستجمعة المسترجعة أن تصلح مبدئيا فقط كمادة مرجعية ونسق أساس، وذلك بعد أن تتجاوز أو تذوِّب الاختلافات المعجمية والتركيبية والصرفية والفونيتيكية بين تلك اللهجات وحتى بين اللهيجات المنحدرة منها.

غير أن ذلك المشروع، وما سواه من المشاريع المنافسة أو البديلة المعوِّلة في مجملها على كويني koïné أو "اسبرنتو بربري"، لا بدَّ أن فرضه قسرياً من الفوق يصطدم بصعوبات ميدانية وتداولية جمة، وبعقبات تطبيقية كأداء، وذلك، أولاً، لأنه يضرب في الصميم مبدأ التعددية ومفهوم "اللغة-الأم" اللذين يتعبدهما الكثير من الدعاة الأمازيغ في مجمل خطاباتهم التبريرية المعروفة؛ وثانياً نظراً لكون المشروع نفسه يعارض حق كل مجموعة جغرافية وجهوية في التعلق بلهجتها وتعوّدها العريق على سماعها والنطق بها. وكل هذه العوائق الموضوعية وغيرها تحدو بالعارفين المدققين إلى اعتبار ذلك المشروع متعذراً بل مستحيلاً (كما يذهب إليه عبد اللَّه بونفور وآخرون). وكل مستسهل لهذا الأمر من باب ما حصل للهجة قريش العدنانية من غلبة على ما سواها في الجزيرة العربية قبل الدعوة الإسلامية وخلالها، لا بدَّ له أن يتمثل الشروط الدينية المحيطة بتلك اللهجة (من أقواها نزول القرى بها) وكذلك تباين الظروف التاريخية واختلافها عموما، وذلك حتى لايتيه ولايشتط...

تسمية مختلف عليها

ويجدر أيضا التنبيه إلى أن الأمازيغية التي هي لهجة مناطق الأطلسين المتوسط والكبير الشرقي في المغرب، لا يمكن إطلاق اسمها على لهجتي سوس والريف إلاّ مجازيا وتجاوزاً، وليس من باب الإنصاف الإقليمي والدقة الاسموية (أونوماستيك)؛ ومثل ذلك في الجزائر حيث القبايلية لا يمكن أن تقوم مقام الشاوية أو المزابية، كما لا يصح موضوعيا أن تقوم هذه أو تلك مقام التواركَية بالصحراء الكبرى من السودان إلى موريتانيا، إلخ.

إن التسمية الجامعة المانعة ـ والمتعارف عليها عند المؤرخين المسلمين والأجانب منذ قرون ـ هي البربرية (بترقيق الباءين لا بتفخيمهما) نسبة إلى قبائل البربر المتنوعة المختلفة، فعنوان موسوعة ابن خلدون التاريخية هو "كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر"،إن التسمية الجامعة المانعة ـ والمتعارف عليها عند المؤرخين المسلمين والأجانب منذ قرون ـ هي البربرية (بترقيق الباءين لا بتفخيمهما) نسبة إلى قبائل البربر المتنوعة المختلفة، فعنوان موسوعة ابن خلدون التاريخية هو "كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر"، وكذلك الشأن في اللغات الأجنبية جميعها، ولا أدل على ذلك من أن الراحل بيير برجى منشئ Le Musée Berbère بمراكش رفض جازما أن يسميه بغير هذا الإسم. وكنت شاهدا على حرصه هذا إذ رافقته كوزير للثقافة عهدذاك في تدشين المتحف البربري المذكور.

إنها إذن تسمية لا مبررَ ولا مسوغَ، من جهة التاريخ والمعرفة، للإحجام عن تداولها بدعوى أن دلالة قدحية أو سلبية مَّا لصيقة بها، وإلاّ لوجب تغيير تسميات كثيرة للسبب عينه، وهذا محال، ومنها على سبيل المثال فقط: الاثيوبيونAethiopos  وهي التسمية التي تعني في لغة اليونان "أصحاب الجلد الغامق"؛ السلافية، ومعنى السلافي لغةً العبد والمملوك sclavus  باللاتينية وsclavos  باليونانية، كما الحال بالنسبة للمماليك البحرية والبرجية حاكمي مصر وسوريا من 1250 إلى 1517؛ هذا علاوة على العبرانية المشتقة من Habirou/Habiri، وهي كلمة تعني الرحل العابرين وغزاة كنعان؛ وحتى العربية (التي راج اسمها في بلدان أوروبية عنواناً للغموض وسوء التعبير algarabia بالإسبانية و charabia بالفرنسية) فإنها لغة العرب الذين اشتُقت تسميتهم، حسب دراسين، من أصل عبري يعني العبور والعيش غير القارِّ المنظم، ويرى آخرون، وهو الشائع، أن الكلمة من فعل عرب أي بدا، ومنه بدو وأعراب، والعرب بدورهم سمّوا أصحاب كل لسان لا يفهمونه: العجم والأعاجم؛ وسمى اللاتينيون العرب المسلمين السرازان في العهد الوسيط المتقدم، ومعنى الاسم الشرقيون، ومنه اسم القمح الأسود، وكانت تلك التسمية إذ ذاك عادة ما تطلق مقرونة بنعوت سلبية في أدبيات ذلك العهد، كما في أنشودة رولان وغيرها Gentem perfidam Sarracenorum، وقس على هذا الاسم المور والموريسك الذي يعني عند واضعيه المبرنز أو الأسود؛ ليس هذا وحسب، بل إن البربر وغيرهم سمّوا من استعصى عليهم فهم لغتهم من الوافدين من جنوب الصحراء: كَناوة ومفرده كَناوي وهو أونوماطوبي لما لا يفهم كلامه كما أن كلمة گريگو مشتقة من إغريق وبوگر من بولگار، الخ. لذا قال بعض اللسانيين إن اللغات عموما عنصرية.

لذلك كله ـ ومن باب أن الشيء إذا تكرر تقرر ـ  قد يحسن، على الأقل، الكلام عن الأمازيغيات بالجمع أو بالتعدد لا بالمفرد، تجنباً لأي احتكارية أو تحكمية. فكما يسجل جاك بيرك: "آيت مزيغ أصحاب الاسم الواعد (لأن أمازيغي، حسب البعض، هو "الإنسان الحر") يضم الكثير من الأصناف المتنامية plusieurs variétés de thymus".  وحتى لفظ أمازيغ (غير الوارد في كتابات المختار السوسي، ولا لفظ الأمازيغية، إذ الثابت عنده، كما عند الجسن اليوسي وأجروم هو مصطلح "الشلحية"، والشلوح هم سكان الأطلسين الكبير والصغير)، فحول معناه اللغوي كلام كثير، لعل من أطرفه ما ذهب إليه محمد شفيق في نبش فيلولوجي جدير بالإيراد، قال: "أما كلمة أمازيغ فعادة ما يفسرها اللغويون بالإنسان الحر النبيل، وحتى نكون موضوعيين فأنا أشك في هذا المعنى وأعتقد أن المدلول الأصلي للأمازيغي هو الشخص الذي يغزو بشكل مكثف لكونهم إيمازيغن يعتبرون الغزو شيئاً محموداً". وهذا المعنى يسجله ابن خلدون أيضا بهذه العبارات: "ومعاش المعتزين [من بربر العز] أهل الانتجاع والأضعان في نتاج الإبل وظلال الرماح وقطع السابلة". أما في مؤلف آخر، فيؤكد ذ. شفيق المعنى ذاته، ولو أنه يتخلى عن شكه ذاك، فيعود من المدح القوم ـ ذاتي إلى تمتيع تلك الكلمة بمعنى "النبل والشهامة والإباء". وأما عثمان السعدي فيرى أن جذر الكلمة أمازيغ عربي هو مزر، وفي لسان لعرب: أسد مزير، وجمعه أمازر أي أشداء القلوب. وللحديث بقية.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير الأمازيغية المغربية تاريخ الجزائر المغرب الجزائر تاريخ رأي أمازيغية أفكار أفكار أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة محمد شفیق لا یمکن

إقرأ أيضاً:

هل يمكن للأقليات الأيديولوجية أن تكون قاطرة لأي مشروع مواطني؟

بعد توحّد أغلب النخب التونسية خلف المقاومة الفلسطينية وطوفان الأقصى، جاء انتصار الثورة السورية بقاطرتها الإسلامية-السُّنية وسقوط النظام البعثي العلوي ليعيدا الانقسام إلى مربعه الهوياتي الأول. فسوريا الممانعة والمقاومة والقومية والتقدمية كما تصوّرها سرديات "القوى الحداثية" في تونس، هي ذاتها -عند أغلب الإسلاميين والمحافظين- سوريا الطائفية العلوية التي أثخنت في الأغلبية السُّنية قتلا وتهجيرا على أساس الهوية، بدعم شيعي عابر للحدود، بل بدعم من "محور التطبيع" الذي يدعي "محورُ المقاومة" معاداته.

ولأنّ ما يحدد الموقف من الصراعات الإقليمية هو منطق الصراعات في الداخل التونسي من جهة تحالفاته ورهاناته، ولأن المتحكم الأساسي في هندسة المشهد العام التونسي -سلطة ومعارضةً- هو الفاعل "الديمقراطي" أو "الأقليات الأيديولوجية العلمانية" (بمختلف انتماءاتها الشيوعية والقومية والليبرالية)، فإننا سنحاول في هذا المقال أن نجيب عن السؤال التالي: لماذا تنتصر "الأقليات الأيديولوجية" في تونس لكل الأقليات في الداخل والخارج بصرف النظر عن مشروعها وشرعيتها؟ ولماذا تصرّ تلك "القوى الديمقراطية" دائما على وصم الأغلبية -ومن يمثلها- بالتطرف والإرهاب والرجعية والعمالة وغير ذلك من مفردات "القتل الرمزي" الممهّد أو المبرر للقتل المادي؟

بمنطق التناقض الرئيس والتناقض الثانوي، فإن قدر "الأقليات الأيديولوجية" هو أن تكون جزءا من بنية الاستبداد أو هامشا من هوامشها المدجنة أو العاجزة عن التغيير خارج استراتيجيات منظومة الاستعمار الداخلي. ولكنّ الأخطر من ذلك هو أن يتحول الذين يدعون تمثيل الأغلبية والدفاع عن الهوية الجماعية -أي الإسلاميون الذين ارتضوا العمل القانوني وطبّعوا مع الفلسفة السياسية للدولة الحديثة- إلى جسم وظيفي لا يختلف دوره عن دور الأقليات الأيديولوجية العلمانية
لفهم البنية العميقة لوعي "الأقليات الأيديولوجية" التي تسمى مجازا "عائلة ديمقراطية" أو نخبا وطنية وحداثية، قد يكون علينا أن نعود إلى لحظة تأسيس الدولة-الأمة. فالنخب التي أشرفت على مشروع بناء الدولة الوطنية هي بالأساس أقليات جهوية (ساحلية وبلدية) وأيديولوجية (فرنكوفِيليّة، أي محبّة لفرنسا بل خاضعة لها ثقافيا واقتصاديا وسياسيا). وقد لا نحتاج هنا إلى أكثر من الإحالة إلى المهندس الصغير الصالحي وكتابه المرجعي "الاستعمار الداخلي والتنمية غير المتكافئة: منظومة التهميش في تونس". ففي هذا الكتاب ما يغني عن بسط القول في الطابع الجهوي-الريعي-الزبوني لمنظومة الاستعمار الداخلي، تلك المنظومة التي جعلت من "الوطنية" و"التحديث" و"القانون" مجرد استعارات سلطوية ليس لعموم المواطنين منها إلا فتنة المجاز ومذاق العلقم.

لقد تأسست الدولة-الأمة على نواة جهوية-أيديولوجية تشابكت فيها "البورقيبية" مع اللائكية ومبادئ التنوير وقيم الجمهورية الفرنسية، لكن بعد "تَونسة" ذلك كله ليكون على مقاس ثالوث الزعيم-الحزب-الوطن. وبصرف النظر عما أثارته علاقة "الزعيم بورقيبة" بالماسونية وباللوبي الصهيوني العالمي من سجالات، فمن المؤكد أن بورقيبة لم يكن ينظر إلى القضية الفلسطينية نظرة الإسلاميين ولا القوميين ولا الشيوعيين، بل كان يتعامل معها بخطاب براغماتي. ومثل كل خطاب براغماتي، فإن مواقف المرحوم بورقيبة كانت حمّالة أوجه في التأويل بين التغني بحكمته بل قدراته الاستشرافية، وبين اعتباره مجرد أداة لتنفيذ مخططات الغرب كما حصل في موقفه من قرار التقسيم الأممي عند زيارته لأريحا سنة 1965، وموقفه من ترحيل القيادات الفلسطينية إلى تونس بعد الغزو الإسرائيلي للبنان 1982، وكذلك شبهات تورط النظام التونسي في قصف الكيان لمنطقة حمام الشط سنة 1985.

إذا كانت البورقيبية قد بنت موقفها من القضية الفلسطينية على رؤية براغماتية استبقت "مبادرة السلام العربية" المتبنّية لحل الدولتين منذ قمة بيروت سنة 1982، فإن أصحاب السرديات الكبرى -في العائلات اليسارية والقومية والإسلامية- قد اعتبروا هذا الموقف خيانة للقضية الفلسطينية، وجعلوه أحد محاور الاشتباك مع النظام في لحظتيه الدستورية والتجمعية، وذلك بالتوازي مع صراعاتهم البينية ومزايداتهم على بعضهم البعض. ولمّا كان نظام المخلوع يتجه نحو "التطبيع"، فإنه قد وفّر للإسلاميين ولبعض القوى الثورية مناسبة لتجذير التناقض معه داخليا وخارجيا، ولكنه وفّر للعديد من القوى اليسارية والقومية المرتهنة لمنطق التناقض الرئيس والتناقض الثانوي فرصةً للمزايدة على السلطة وإظهار تمايزها عنها دون دفع كلفة ذلك سياسيا أو أمنيا.

مهما كانت درجة التناقض بين مواقف المعارضة الديكورية وأغلب مكونات المجتمع المدني والنقابات وبين النظام/الحزب الحاكم قبل الثورة، فإن انتماءهم المتخيل إلى "العائلة الديمقراطية" -أو بالأحرى انتماءهم إلى سرديات أقلوية ووظيفية من جهة العلاقة بمنظومة الاستعمار الداخلي ورعاتها الأجانب- قد دفعهم دائما إلى تذويب التناقضات وتجاوزها عندما يتعلق الأمر بالموقف من "النمط المجتمعي" ومن "الإسلاميين"، وما يستوجبه هذان الملفان من مقاربات أمنية-قضائية في الداخل، وتحالفات إقليمية ودولية في الخارج. فما يسمى بـ"النمط المجتمعي التونسي" ليس في الحقيقة إلا تجسيدا لخيارات "أقليات أيديولوجية" تم فرضها بمنطق الوصاية والإكراه بعيدا عن الإرادة الشعبية لعموم المواطنين، أما "الإسلاميون" فإنهم لا يهددون فقط تلك الخيارات الفوقية للسلطة وهندستها الاجتماعية، بل هم يهددون بفقدان الأقليات الأيديولوجية لعلة وجودهم ذاتها.

عندما تحدث بول نيزان عن "كلاب الحراسة الأيديولوجية" (الفلاسفة والمثقفين) وتحدث سيرج حليمي عن "كلاب الحراسة الجدد" (الإعلاميين والمحللين والخبراء)، فإنهما كانا يشيران إلى أولئك الذين "يدّعون المصداقية والموضوعية والاستقلالية والحياد، في حين أنهم ليسوا إلا حراسا للأنظمة السياسية والاجتماعية القائمة"، وهو ما أكّده الباحث يونس لبان في مقاله المنشور على مدونات الجزيرة والمُعنوَن بـ"الكلاب الجدد للحراسة: إعلاميون مسخّرون لقمع الشعوب".

بمنطق التناقض الرئيس والتناقض الثانوي، فإن قدر "الأقليات الأيديولوجية" هو أن تكون جزءا من بنية الاستبداد أو هامشا من هوامشها المدجنة أو العاجزة عن التغيير خارج استراتيجيات منظومة الاستعمار الداخلي. ولكنّ الأخطر من ذلك هو أن يتحول الذين يدعون تمثيل الأغلبية والدفاع عن الهوية الجماعية -أي الإسلاميون الذين ارتضوا العمل القانوني وطبّعوا مع الفلسفة السياسية للدولة الحديثة- إلى جسم وظيفي لا يختلف دوره عن دور الأقليات الأيديولوجية العلمانية. وهو ما أكده الربيع العربي في بعض مساراته المجهضة رغم كل التنازلات والتسويات مع الدولة العميقة (كما هو شأن تونس ومصر).

لا شك عندنا في أن ما يحدد مواقف "الأقليات الأيديولوجية" من الشأن التونسي هو خدمة منظومة الاستعمار الداخلي وواجهتها السياسية الحالية، لكن مع محاولة التمايز عن السلطة "صوريا" لتضمن مكانا لها في خدمة النواة الصلبة للحكم مهما كانت مخرجات الأزمة السياسية الحالية
لقد جاءت المسألة السورية ومن قبلها الانقلاب المصري -وما بينهما إجراءات 25 تموز/ يوليو 2021 في تونس- لتؤكد أن بوصلة أغلب مكونات "العائلة الديمقراطية" في تونس وفي غيرها ليست هي "القدس" (كما يدّعون في المواقف الخارجية المدافعة عن "محور الممانعة" والمرتهنة لمحور "التطبيع")، ولا هي "التحرير الوطني" (كما يدعون في التأسيس للموقف المساند للنظام التونسي الحالي)، بل إن البوصلة الحقيقية لهم جميعا هي "منظومة الاستعمار الداخلي" المتحالفة استراتيجيا مع سلطة "الأقليات الأيديولوجية" والمدافعة عن الأقليات الأجنبية، سواء أكانت طائفية أم جهوية أم أيديولوجية. فالأقليات الأيديولوجية تلتقي مع الأنظمة الاستبدادية -بما فيها تلك المدافعة عن التطبيع والمحاربة للثورات العربية- في رفض الديمقراطية التي ستحمل الإسلاميين إلى السلطة، وكذلك في تسفيه أي مشروع مواطني هدفه التحرر الوطني وبيناء دول حقيقية تتجاوز مستوى "الكيانات الوظيفية" في مرحلة الاستعمار غير المباشر. ولعل ذلك يفسر التناقضات الداخلية في السرديات "الديمقراطية" من جهة علاقتها بـ"المقاومة" خطابيا، وعلاقتها بمحور التطبيع واقعيا

إن مهاجمة "الأقليات الأيديولوجية" التونسية (أو ما يُسمى نخبا حداثية وديمقراطية) للثورة السورية وللنظام الجديد في دمشق، لا يعود إلى استحالة بناء مشروع ديمقراطي ومشترك مواطني في سوريا بقيادة الإسلاميين، بل هو راجع إلى رفض هؤلاء تحقق ذلك المشروع على أيدي الإسلاميين أو على أيدي ممثّلي الأغلبية السنية. فهؤلاء لا مشكلة لهم مع أي نظام ذي شرعية دينية ما دام يعادي الإسلام السياسي السني، ولا يجد أغلب "الديمقراطيين" و"الحداثيين" في تونس أي حرج في التحالف مع السعودية الوهابية ومع إيران الإمامية الإثني عشرية، بل لا يجدون أي حرج في الدفاع عن المقاومة الإسلامية بقيادة حماس "الإخوانية"؛ لكن بشرط أن تظل سرديتُها "مُعوّمة" في سردية أكبر هي سردية محور المقاومة ونواته الشيعية، وبشرط أن تُفصل المقاومة "الإخوانية" في فلسطين عن حاضنتها الشعبية داخل الأغلبية السُّنية كي لا يستفيد منها "الإسلام السياسي" في تونس.

فالشأن التونسي هو القضية الأساسية أو التوليدية لسائر المواقف الخارجية التي هي مواقف مشتقة بالضرورة منه. ولا شك عندنا في أن ما يحدد مواقف "الأقليات الأيديولوجية" من الشأن التونسي هو خدمة منظومة الاستعمار الداخلي وواجهتها السياسية الحالية، لكن مع محاولة التمايز عن السلطة "صوريا" لتضمن مكانا لها في خدمة النواة الصلبة للحكم مهما كانت مخرجات الأزمة السياسية الحالية.

x.com/adel_arabi21

مقالات مشابهة

  • ما معنى الحديث القدسي إلا الصوم فإنه لي.. وبم اصطفى الله رمضان؟
  • السيسي: لا يمكن لأحد المساس بمصر
  • تحقيق: هجوم 7 أكتوبر كان مدمرا ولا يمكن ضمان عدم تكراره
  • الحشيمي: لا يمكن أن تظل الجامعة اللبنانية رهينةً لسياسات الإهمال والتجاهل
  • «التجديف الحديث» يشارك في «الكونغرس العالمي»
  • مختص: التهاب الأعصاب لدى مرضى السكري لا يمكن الشفاء منه
  • هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يستبدل محرك بحث جوجل؟
  • كيف يمكن لكيان سياسي الفوز بالانتخابات؟
  • هل يمكن للأقليات الأيديولوجية أن تكون قاطرة لأي مشروع مواطني؟
  • إيزاك يرفض الحديث عن مستقبله ويركز على موقعة ليفربول الحاسمة