تاريخ التعاون يعيد نفسه بين مصر واليابان
تاريخ النشر: 10th, July 2024 GMT
بين الحاضر والماضي ، يقف التاريخ شاهدا على العلاقات اليابانية العربية وخاصة المصرية، التي بدأت بشكل رسمي منذ عهد محمد علي باشا، حيث أرسلت اليابان إلى القاهرة بعثات تعليمية للاستفادة من نظام التعليم المصري وخاصة "تعليم البنات" الذي كان يسبق اليابان بأكثر من قرن من التطور، واستفادت اليابان بدراسة النظام القضائي المصري لإصلاح المعاهدات غير المتكافئة التي أبرمتها اليابان مع دول الغرب في القرن الماضي.
واليوم تتجه مصر والدول العربية الي اليابان لتعزيز الشركات والتعاون الياباني العربي وتوقيع استراتيجية تعاون في مختلف المجالات، ليصل حجم التبادل التجاري بين مصر واليابان فقط خلال عام ٢٠٢٤ نحو مليار و25 مليون دولار ، كما سجلت الصادرات المصرية إلى اليابان نحو 164 مليون دولار ، وهذا التعاون الاقتصادي الثنائي يعكس التزام الحكومتين بتعزيز العلاقات وتحقيق المصلحة المشتركة لشعبي البلدين
أبو الغيط : التبادل بين الدول العربية وطوكيو بلغ 140 مليار
وفي هذا السياق ،ثمن أحمد أبو الغيط الأمين العام لجامعة الدول العربية الاهتمام الذي توليه الحكومة اليابانية بكافة قطاعاتها لتعزيز التعاون مع الدول العربية، وأُثني على نشاطها المكثف في الفترة الأخيرة بعد زيارة رئيس الوزراء الياباني لعدد من الدول العربية، فضلاً عن توقيع العديد من اتفاقات الشراكة والتعاون، منها واتفاقية التعاون الفني لإنشاء نظام التعليم الياباني في مصر، و الاتفاق مع حكومة العراق لتمويل المشاريع الصغيرة والمتوسطة، والاتفاقات مع وزارة الاستثمار السعودية، واتفاقات الطاقة مع الإمارات، والتعاون في مجال المياه مع الأردن ، بالإضافة إلى الدعم المالي الذي يقدمه اليابان للاقتصاد الفلسطيني ولوكالة الأونروا التي لا يمكن الاستغناء عن دورها، بل ينبغي التوسع فيه بدلاً من التضيق عليه كما تروج دولة الاحتلال.
جاء ذلك خلال كلمته الافتتاحية لأعمال اليوم الأول من الدورة الخامسة للمنتدى العربي الياباني، الذي يهدف إلى تعزيز التبادل والشراكة بين القطاعين العام والخاص من الجانبين العربي والياباني.
وقال ابو الغيط أن الجامعة العربية مُنذ تأسيسها حرصت على إقامة منتديات تعاون مع الدول الفاعلة والتجمعات الإقليمية الكبرى، لذا كان من البديهي أن يحظى التعاون مع اليابان باهتمام خاص في ظل ما يتمتع به من مكانة مرموقة واقتصاد متطور، مؤكدًا أن العلاقات العربية اليابانية حاضرة باستمرار في جدول أعمال مجالس وهيئات الجامعة العربية، وتحظى باهتمام عربي كبير وهي علاقات وطيدة وممتدة عنوانها الدائم الشفافية والاحترام المتبادل والحرص على تعزيز المصالح المشتركة.
وفي المجال الاقتصادي، أكد ابو الغيط ان التعاون العربي الياباني أثبت صلابته في مجابهة التحديات المتراكمة التي خلفتها الأزمات والتوترات بالرغم من كثرتها وتشابكها، مستشهدا بارتفاع التبادل بين الجانبين إلى ما يقرب 140 مليار دولار منذ مطلع العام 2024، قائلا ان التبادل التجاري حافظ على إيجابيته في فترة شهد فيها العالم أزمات معقدة وخطيرة مثل كوفيد 19 والحرب الأوكرانية والتوترات في شبه الجزيرة الكورية والتنافس الأمريكي الصيني في جنوب شرق آسيا، بالإضافة إلى الأزمات الخطيرة التي ضربت عدداً من الدول العربية وما نتج عنها من آثار سلبية عميقة لاتزال مستمرة على مجالات التنمية والاستثمار وعلى حركة الملاحة العالمية.
وأشار الأمين العام الي أهمية المنطقة العربية باعتبارها معبر رئيسي للتجارة العالمية، إذ تقع بها أهم الممرات مثل قناة السويس وباب المندب ومضيق هرمز، فضلاً عن تبعات تلك الأزمات على قطاع الطاقة العربي وتأثير ذلك على الأسواق العالمية باعتبار المنطقة أيضاً مورداً رئيساً في هذا المجال، لافتا ان العلاقات الاقتصادية العربية اليابانية تتميز بالحيوية والتنوع بفضل حرص الجانبين على رعايتها،
وتابع أبو الغيط قائلا:" أن التعاون الحكومي ليس المحدد الوحيد للعلاقات الاقتصادية العربية اليابانية، فالقطاع الخاص يظل فاعلاً رئيساً لتعزيز التبادل التجاري بين الجانبين، داعيا إلى تعزيز الشراكة بين القطاعات الحكومية والخاصة من جهة وبين الشركات من جهة أخرى.
وحث ابو الغيط الحكومة اليابانية على الاستمرار في تشجيع الشركات اليابانية لتوسيع عملها في المنطقة العربية، لاسيما الشركات الصغيرة والمتوسطة منها، كما أدعو أيضاً الشركات العربية إلى استغلال الفرص التي تتيحها السوق اليابانية، مطالبا بتعزيز الشراكة بما يخدم تطلعات الشعوب والإمكانات الاقتصادية للجانبين، لافتا الي وجود الكثير من المجالات التي يمكن أن تحقق تقدماً مثل الشراكة في التعليم، والتحول الطاقوي، والتكنولوجيا الرقمية، والصحة، والذكاء الاصطناعي.
العلاقات الثنائية
توالت الزيارات بين الجانب العربي والياباني لتعميق العلاقات بين الجانبين ،و يعتبر التعاون بين مصر واليابان استراتيجيًا، نظرًا لدور مصر المحوري في منطقة الشرق الأوسط والقارة الإفريقية، حيث تعمل اليابان على تعزيز التعاون في مجموعة واسعة من المجالات مثل الأمن السياسي والاقتصاد والمساعدة الإنمائية.
ومن مشروعات التعاون بين مصر واليابان تشمل إنشاء دار الأوبرا المصرية وكوبري السلام ومستشفى جامعة القاهرة التخصصي للأطفال (مستشفى أبو الريش الياباني) والخط الرابع لمترو الأنفاق والمتحف المصري الكبير،هذه المشروعات تسهم في تعزيز الاستقرار والتنمية في المنطقة العربية. يستمر التعاون بين البلدين من خلال توقيع اتفاقيات مثل مبادرة الشراكة المصرية اليابانية للتعليم، وستستمر هيئة التعاون الدولي اليابانية (جايكا) في دعم مصر لتحقيق التنمية المستدامة.
سجلت الصادرات المصرية إلى اليابان نحو 164 مليون دولار خلال الربع الأول من العام الجاري، يشمل منتجات غذائية، مفروشات، و الحاصلات الزراعية، و مواد البناء، والسلع الهندسية، الإلكترونية، والملابس الجاهزة ، بالإضافة إلى ذلك، استثمارات الشركات اليابانية في مصر تشمل مجالات الصناعات الهندسية والمعدنية، صناعة السيارات، الأدوية، الخدمات المالية، والبنية التحتية.
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: مصر واليابان العلاقات اليابانية العربية أحمد أبو الغيط جامعة الدول العربية العربي الياباني الجامعة العربية بین مصر والیابان الدول العربیة أبو الغیط
إقرأ أيضاً:
حى فى الغرب ميت بالشرق.. «فصل المقال» و«تهافت التهافت»علامات ابن رشد فى تاريخ الفلسفة العربية والإسلامية
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
ليس سهلا، أن يتجاوز تاريخ الفلسفة، دور الفيلسوف العربى ابن رشد الأندلسى المتوفى عام ٥٢٠هـ، وما طرحه من أفكار تصدت للجمود والانغلاق، فمن خلال فلسفته طرح مفهومه للتأويل بوصفه المنقذ من التناقضات الدينية الظاهرية، والمصلح بين الفلسفة والدين، والمتسامح مع الاختلافات والتعددية، ومن خلال فلسفته أيضا تصدى لاستخدام "الإجماع الفقهي" سلاحا لتكفير الفلاسفة وتعطيل جهودهم.
يأتى اسم ابن رشد كأحد أهم الأصوات الفلسفية فى تاريخ الحضارة العربية والإسلامية، لما له من دور بارز فى التصدى للأفكار الجامدة التى أطلقها أبو حامد الغزالى ضد الفلسفة والفلاسفة، لذا قدم ابن رشد من خلال رسالته الصغيرة المسماة "فصل المقال وتقرير ما بين الحكمة والشريعة من اتصال" عرضا موجزا ومكثفا حول علاقة الدين بالفلسفة، وكيف أن العلاقة بينهما قائمة على التعاضد والتكامل، وليست متنافرة متناقضة، كما أوضح فيه دور الدين فى الحض على التفلسف والنظر العقلي، وناقش عدة قضايا بصورة مكثفة مثل التأويل وأهميته، ومعنى الإجماع، وجواز الاستفادة من علوم الآخرين المختلفين عنا فى الدين واللغة.
أما كتابه "تهافت التهافت" فقد تصدى فيه للمساءل التى ناقشها أبو حامد الغزالى فى كتابه "تهافت الفلاسفة" وبسببها كفَّر الفلاسفة، مثل قدم العالم وحدوثه، ومعرفة الله بالجزئيات، وغيرها من المسائل الكلامية الشائكة.
رشحه ابن طفيل الأندلسى للخليفة الموحدى أبى يوسف يعقوب المنصور الذى طلب منه شرح أرسطو، حينما اشتكى الخليفة من "قلق عبارة أرسطو"، بعدها أصبح مقربا من الخليفة وتمكن من أن يصبح فقهيا وقاضيا وفيلسوفا، وأهم شارح لفلسفة أرسطو.
كتب ابن رشد فى أربعة أقسام مهمة لحركة الثقافة العربية والإسلامية: شروح ومصنفات فلسفية وعملية، شروح ومصنفات طبية، كتب فقهية وكلامية، كتب أدبية ولغوية، واشتهر بشرح التراث الأرسطي، ومن شروحاته لأرسطو: "تلخيص وشرح كتاب ما بعد الطبيعة، شرح كتاب البرهان، تلخيص كتاب المقولات، شرح كتاب النفس، شرح كتاب القياس".
وله مقالات كثيرة ومنها: "مقالة فى العقل. مقالة فى القياس، مقالة فى اتصال العقل المفارق بالإنسان. مقالة فى حركة الفلك. مقالة فى القياس الشرطي"، وله أيضا كتب أشهرها: كتاب "مناهج الأدلة"، وهو من المصنفات الفقهية والكلامية، كتاب "تهافت التهافت" الذى رد فيه على كتاب الغزالى "تهافت الفلاسفة"، كتاب "الكليات"، كتاب "الحيوان"، كتاب "المسائل" فى الحكمة، كتاب "بداية المجتهد ونهاية المقتصد" فى الفقه، كتاب "شرح أرجوزة ابن سينا" فى الطب.
اعتمدت فلسفة ابن رشد على القياس العقلى والبرهان، فى كتابه "فصل المقال" رأى أن الشرعَ دعا المؤمنين إلى تدبّر الموجودات عن طريق العقل، ومن الواجب تعلّم القياس العقلى والاعتبار الذى هو "استنباط المجهول من المعلوم واستخراجه منه".
وصفَ ابن رشد البرهان بأنه أتمُّ أنواع النظر العقلي، ومن الضرورى لمن يريد أن يعرف الله وسائر الموجودات أن يتعلّم أنواع البراهين، ويدركَ الفارق بينها، وبما خالفَ القياس البرهانى القياس الجدلى والقياس الخطابى والقياس المغالطي، ويُسمّى تلك العلوم بـ"منزلة الآلات من العمل".
انحاز ابن رشد فى فلسفته إلى التاريخ الإنسانى المتكامل فى وضع العلوم وتطوّرها، فقد رأى أن كلّ إنسان يحتاج لجهود غيره حتى يتمّ أيّ فنٍّ وأيّ صنعة، لذا كان من المنطقى أن يسمح ابن رشد بمطالعة جهد الأمم الأخرى غير المسلمة، وأن يتعرّف إلى جهود الأفراد مهما كانوا مختلفين عنه، فليس بمقدور إنسانٍ واحدٍ أن يتخلّى عن جهود السابقين ويضع علم الفلك كاملًا من نفسه، وليس بمقدور إنسانٍ واحدٍ "أن يقف على جميع الحجج التى استنبطها النظّار من أهل المذاهب فى مسائل الخلاف التى وقعت المناظرة فيها بينهم فى معظم بلاد الإسلام".
وهاجم فيلسوف قرطبة ابن رشد فتاوى الإمام الغزالى التى كفَّر فيها الفلاسفة، وأعاد بذلك فتح باب الاجتهاد فى الفقه، كما واجه تحريم النظر العقلى والعمل بالفلسفة، مع وضع شروط تأويل ظاهر النص المخالف لحقائق العقل والمنطق.
طالب المفكر المغربى محمد عابد الجابرى فى مقدمة كتابه "ابن رشد.. سيرة وفكر" بتعميم الروح الرشدية فى الأوساط الثقافية والمؤسسات التعليمية من أجل الحد من التطرف الدينى إلى درجته الأدنى، وترشيد جماعات "الإسلام السياسي".
ركز الجابرى على دراسة السمات العامة لعقلانية ابن رشد الواقعية، ويبرزها من خلال عدة نقاط كالتالي: الفصل بين الدين والفلسفة باعتبار أن لكل منهما مجاله الخاص وطريقته الخاصة، والنظرة الاكسيومية إلى كل من البناء الدينى والبناء الفلسفي، أى ربط القضايا بمنظومتها الفكرية الأصلية، وتأكيد العلاقة السببية فى عالم الطبيعة وعالم ما بعد الطبيعة سواء بسواء، وفهم حرية الإرادة البشرية ضمن الضرورة السببية وربطها بالعلم والأسباب. الميل إلى نوع عقلانى خاص من وحدة الوجود، يعتبر الإله كقوة رابطة بين أجزاء الكون وظواهره، قوة روحية هى فى آن واحد مندمجة فى الكون ومتعالية عليه.
من ناحية أخرى، فإن الشعور المرهف بخصوصية الخطاب الدينى والخطاب الفلسفى وبثقل المسئولية الملقاة على كاهل الفيلسوف، يؤدى إلى صعوبة الإمساك بالحقيقة، بل باستحالة الإمساك بها كاملة سواء فى مجال الدين أو مجال الفلسفة، الإدراك الواعى للأخطار التى تحدق بمن يغامر بالكشف عنها لمن ليس مؤهلا لتقبلها، وبالتالى الإدراك الواعى لثورية الحقيقة من جهة أخرى.
والمفارقة التى حدثت لابن رشد، كما يرى وهبه، أنه حى فى الغرب ميت فى الشرق، لأن فلسفته قد أجهضت فى العالم العربى إثر ما يسمى بنكبة ابن رشد وهى النكبة التى حدثت حين أصدر يعقوب المنصور (ت. ١١٩٩م) أمرًا بنفى ابن رشد إلى اليسانه، فى حين أن الإمبراطور فردريك الثانى قد أمر بترجمة مؤلفات ابن رشد ونشرها، وقد كان فى صراع مع رجال الدين المسيحى وكانت فلسفة ابن رشد العقلية هادية له فى مواجهة هذا الصراع. والمفارقة هنا أن ابن رشد ميت فى الشرق حى فى الغرب وهى مفارقة فى حاجة إلى تفسير.
لم ينخدع مراد وهبه فى كلمات ابن رشد الخاصة بالقيود التى فرضها على العامة أو الجمهور لدخول عالم الفلسفة، قائلًا إن الفيلسوف الأندلسى لم يكن راغبًا فى إبعاد الجمهور عن مجال الفلسفة ولكن بشرط ألا ينغمس الجمهور فى المتع الحسية، لأن من شأن هذه المتع أن تمنع الإنسان من التحكم فى ذاته، ومعنى ذلك أن التحكم فى هذه المتع يسمح للإنسان بمجاوزة ما هو حسى إلى ما هو عقلى، أى بمجاوزة ما هو خطابى أو ما هو شعرى إلى ما هو برهانى، ومعنى ذلك أن الباب مفتوح أمام الجمهور كى يصل إلى ممارسة البرهان العقلى، وإذا دخل الجمهور من هذا الباب أصبح من الميسور أن يكونوا رؤساء فى مدينة ابن رشد، وبذلك ينتفى الانفصال بين الجمهور والحكماء.
انتبه «وهبه» إلى مقولة محورية فى فلسفة ابن رشد، وهى مقولة «التأويل»، أى تأويل ظاهر النص ليتوافق مع العقل، إذ يقول ابن رشد، فى شأن العلاقة بين الشريعة والبرهان العقلى: "إن أدى النظر البرهانى إلى نحو ما من المعرفة بموجود ما، فلا يخلو ذلك الموجود أن يكون قد سكت عنه الشرع أو نطق به. فإن كان مما سكت عنه فلا تعارض هناك وهو بمنزلة ما سكت عنه من الأحكام فاستنبطها الفقيه بالقياس الشرعى. وإن كانت الشريعة نطقت به فلا يخلو ظاهر النطق أن يكون موافقًا لما أدى إليه البرهان فيه أو مخالفا فإن كان موافقا فلا قول هناك وإن كان مخالفا طلب هناك تأويله".
منح التأويل ابن رشد مساحة كبيرة للقول باستحالة قيام "إجماع حقيقى"، وأن خرق الإجماع لا يقتضى التكفير، ونقلًا عن «وهبه» فإن «التأويل يخرق الإجماع، إذ لا يتصور فيه إجماع، ولهذا يمتنع تكفير المؤول، ولهذا فقد غلط أبو حامد الغزالى عندما كفر الفلاسفة من أهل الإسلام مثل الفارابى وابن سينا فى كتابه «تهافت الفلاسفة».
تساءل : «ماذا يعنى تكفير الفلاسفة؟ يعنى أن الذى يكفر هو الذى يتوهم أنه مالك الحقيقة المطلقة وهذا الوهم هو الذى يحد من سلطان العقل، وقد أراد ابن رشد إزالة سلطان هذا الوهم بحيث لا يبقى سوى سلطان العقل، وهذا هو جوهر التنوير. ومن هنا يمكن القول إن ما حدث لابن رشد من إحراق كتبه ومحاكمته ونفيه مردود إلى دعوته إلى التأويل على نحو ما ارتآه».
يعتقد "وهبة" أن مقولة التأويل لديها الكثير كى تقدمه من أجل نهضة فكرية عربية، فالتأويل منع الإجماع لأنه أعطى مساحة أوسع للاختلاف والبحث عن مضامين أكثر عقلانية ومنطقية، كما أنه يعترف بضرورة التعددية أى أنه يتسامح مع الآخر لذا فسوف ينتفى معه التكفير، أى أن التأويل مفتاح للوصول إلى مرحلة التعددية وقبول الآخر ونفى سلطة الرأى الأوحد، قائلًا إن التأويل الحقيقى يمتنع معه التكفير لأن التأويل معناه التسامح تجاه الاختلاف. ولماذا التسامح؟ لأن العقل لديه بدائل العقل لا يكتفى ببديل واحد وإذا اكتفى العقل بديل واحد يقع فى براثن الدوجماطيقية أى أنه يقع فى توهم أنه يمتلك الحقيقة المطلقة وإذا وقع العقل فى هذا الوهم امتنع التطور وبناء عليه فإن مفهوم التأويل عند ابن رشد يبيح التعددية فيمتنع التكفير ويلزم من ذلك التطور.
شرح "وهبة" فكرة تقديم العقل التى استفادها من ابن رشد بأننا باذلون الجهد الفطرى فى استكناه حقيقة الكون بالفكر الفلسفى البرهانى فإن وجدناها متفقة مع الشريعة كان خيرا وإلا فنحن مضطرون عند التعارض أن نختار بين التصديق القائم على الإيمان الصرف والأخذ بما أنتجه البحث العقلى أو نلجأ إلى تأويل الشريعة بما يتفق مع نتائج البرهان، فإذا ورد فى البرهان وهو أساس التأويل ما يبدو مخالفا للشرع وجب تأويل الشرع ليطابق البرهان لأنه لا يخالف الشرع من حيث أن كليهما حق، فإن الحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له.
إجمالًا، فإن "وهبة" حدد طبيعة قانون التأويل الذى رسمه الفيلسوف الأندلسى، بأنه لا يأتى إلا من قبل الراسخين فى العلم. وأن نشر التأويلات فى غير كتب البرهان يفضى إلى تكثير أهل الفساد. وأن الإجماع فى التأويل أمر محال، لأن تحقيق الإجماع يستلزم معرفة جميع العلماء الموجودين فى عصر معين، كما يستلزم ألا يكون هناك من العلماء من يجهل وجوده أو تعلمه ولكنه يكتم رأيه، وأنه لا يجوز التكفير على خرق الإجماع فى التأويل، لأن الذى يكفر هو الذى يتوهم أنه مالك للحقيقة المطلقة ومن شأن هذا الوهم أن يَحد من سلطان العقل، والتأويل بالمعنى الرشدى هو الذى يمنع الإنسان من الوقوع فى ذلك الوهم فلا يبقى حد لسلطان العقل.