على مثـال انشـغال النـهضويـين العـرب - ومـن تلاهـم من مفـكـري القرن العشرين ومن تيـارات إيـديولوجيـة شتـى - ببـناء دولـة حديثـة انشـغلـت النـخب السياسيـة العربيـة بذلك أيـضا من موقعها في السلطة، بـل هي نجحت، إلى حـد، في تـرجمة بعـض ما كان في حيـز المأمـول النـظري أو المرغـوب الذهـني - عنـد الإصلاحيـيـن والنـهضويـين ونخبـة الأنـتلجـنسـيا - إلى سياسات ماديـة في المياديـن المختـلفة: الاقتصاديـة، التـعليميـة، الاجتـماعيـة عادت ثمراتها على المجتمعات العربيـة بأجـزل المنافـع والفوائـد.
قـد يصـح أن نسائـل عمليـة التـحديث المطـبـقة في الدول العربيـة الحـديثة عما استطاعـته فعـلا، وعـما إذا اختصـرت الطريق جـديـا نحـو بلـوغ هـدف رسوخ نموذج الدولـة الوطنيـة واستـتباب الأمـر لـه. بـل من المشروع، تمـاما، أن نفحـص نـقـديـا عمـا إذا كان التحديث ذاك قـد طال الأساسات الاجتماعيـة والسياسيـة وامـتـد أثـرا إلى الذهـنيـة العامـة، أو أنـه ما نجـح في أن يرتـاد مثـل هذا الأفـق ارتـيادا، فاكـتفى بالقليل وما جـاوز القشور والسطوح إلى ما هـو أعـمق. كل هـذا مشروع، ولكـن الذي قد يـعـرى عن أي مشروعيـة هو أن نـنـفي عن ذلك التـحديث أن يكون له أي أثـر مادي فـعلي في حياة المجتمعات والشعـوب العربيـة ومعيشـها. هكـذا نكـون قد خـلطـنا بين فعلـيـن معرفـيـيـن نـقيضـيـن: بـين النـقـد -ومن موجباته أن يستصحب معه الوعـي التاريـخي- والعدميـة! وهكـذا يظـل وعيـنا أسيـر النمـوذج الذهـني المرجعي للدولـة الحديثة -وهـو تحقـق في بلـدان الغـرب- من غيـر إيلاء أي انـتبـاه إلى تـراكـمات التحـديث الحاصلة، في العمـران السياسي والاجـتـماعي العـربي، من حيث هي تعـبـر عن عـمليـة من التـطـور التـاريخي المتـدرج. وهو كـلما ظـل أسير ذلك النـموذج الذهـني، انـزلـق - بالتـبـعـة - إلى إساءة الحكـم على المتحـقـق من المكتسبات بمعيـار غيـر مناسـب: مـدى مطابقـتها النمـوذج إياه والكينـونة على صـورته!
مـن ذا الذي يـسـعـه اليـوم، أن يجحـد ذلك الجـهد الكـبير الذي بـذل، على امتـداد عقـود من زمـننا المعاصر، للانتـقال بالبـلاد العربيـة من البـداوة والتـبدي إلى التـمـديـن، ثم لتوسعة نطـاق ذلك التـمـديـن إلى حيث جاوزت دينـاميـاتـه ومعـطياتـه بيئـات المـدن إلى الأرياف نفسها، من جهـة، ثم إلى حيث تـخـطى أهـل المـدن سكـان الأرياف نسبـة وتعـدادا، من جهـة أخـرى. الأمـر هـذا أتى يبـيـن عن تأثـيـره غير اليسيـر؛ فـلقـد تـرتب عنه أن الاكتساح المستمـر للأرياف من العلاقـات والقيـم المديـنـيـة أخـرج المناطق الريـفـيـة من عـزلتها واستـدمجـها -إلى حـد مـا- في النـظام المـديـني. هل يسعنا، إذن، أن نستـصغر شـأن هذا الانـتـقـال من نظـام حياتـي قاس وشاق إلى آخـر أقـل عسرا، فلا نـعـده من مكتسبات سياسات التـحديـث التي نهجـتها النخب السياسيـة الحاكمـة؟
ثم من ذا الذي يسـعه أن يـنـكـر النجاحات التي أحـرزت في باب رفـع بعض الحيـف والظـلم التاريخـي عن المرأة، وكـف بعض الميـز ضدها، وذلك من طريق تحريرها النسبي من قيـود التـقليـد الذي حجبها، طويلا، في الجـحر البيـتي وحرمها من التـمتـع بأبسط حقوقها في التعليـم والعمل وتـقـلد المسؤوليات العامـة أسوة بالرجـل؟ بل مـن يسعه أن يتجاهـل أن هذا التحرير الجـزئـي للمرأة من أرباق التـقـليد -وقد نهضت سياسات السلطـة بتحقـيقـه- اقـتضى من هذه السلطة، في جملة ما اقـتضـاه، أن تـحتاز قـدرا من الشجاعـة في إنفـاذ أمره في مواجهـة قـوى محافظة ومناهضة لحرية المرأة؛ ولولاها ولولا سلطانـها القانوني ما كان أحـدٌ يـقـوى على تجريع هذه الإصلاحات لأوضاع المرأة لتلك القـوى المعانـدة لأي تحسيـن لأوضاعها، حتى وإن تـفـه حجـمه وحـقـر مـداه فكان إلى الرمـزي أقـرب من أن يكون في حـكم التحسيـن الواقـعي!
هـذان مثالان فـقط من عشرات الأمثلـة الأخرى التي يمكننا أن نسوقها في باب بيان ما كان لعمليـة التحديث تلك من فـوائـد لا تـنـكـر. صحيح أن عمليـات التـمديـن، التي جرت وما برحـت تجري، لم يساوقـها فـلاحٌ في استئصال بقايـا التـبـدي والبـدونـة مـعا وفي وقـف عمليـة التريـيف الزاحفـة على المـدن؛ تماما كما لم يتـولـد من تحقيق التـمديـن تمـدن فعـليٌ بالضرورة. وصحيـح أن إنصـاف المرأة في بعـض حقوقـها - وإن هـو أتـى إنصافـا لحقوق أساس لنصف المجتمع - أعاد إليها بعـضا ممـا صـودر منها، ولكنـه ما بـلغ درجـة تحقـيق المساواة الكاملـة بين الجنسيـن - وهي من مقـتضيات المواطنة ومن أركانها ومداميـكها الأساس - ولا هـو حـصـن مكتسبات النساء تلك بسياسـات ثـقافيـة واجتماعيـة تسعى، حثيـثـا، في تغـيير الذهنـيـات ومحاصرة الثـقافـة الذكـوريـة (وهي متغلغـلة في الجنسين معـا). ثم، فـوق هـذا كلـه، من الصحيـح أن التحـديث بطيء، أحيـانا، وانتـقائـي في أكثـر أحـواله، وأغلـب فعـله يقـع على ما هـو مـادي في المجتمع (اقتصادي، تـقنـي، خـدمـي، وسائـلي...)، لا على ما هـو اجتـماعي وثـقـافـي (وهـو الجـوهري في الاجتـماع) ...، مع ذلك، ليس من المصلحـة العامـة الطـعـن عليه جملة وإنـكـار جـدواه... على نحـو ما يفـعل كـثيـرٌ من النـقـدة المجـردين من كـل حـس تاريـخي، والمشـدوديـن إلى النـماذج الذهـنيـة المجـردة، والممعـنين في العـدمية العميـاء...
ليس لـما نقـوله عن النجـاحـات النسبـيـة للتـحديث في الاجتـماع العربـي علاقـة مـا -لا مـن قـريب ولا مـن بعيـد- بشعـور نـفسـي تـفاؤلي مبـني، مثـلا، على إحسـان الظـن بالنـخب السياسيـة القائـدة، أو على الاعـتـقـاد بصـدق انخـراطها في سيـرورات الإصـلاح والتـحديث ورغـبتـها فيه. إن الذي يحملـنا على ذلك هـو وعـيٌ حـاد بأن هـذا التـحديث قـدر تاريـخي حـتمـي سيمـضـي فيه الاجتـماع السـياسي العـربي حتى النهايـة؛ أي حتى بلـوغـه (أي التحـديث) المياديـن التي ما تـزال مـقـفـلـة عليه اليـوم، وسريان مفاعيلـه فيها؛ ثـم حتى وصـولـه العتبـة الأعلى التي تـفـتح المجـال السياسي العربي على صيـرورة الدولـة الوطنيـة أمـرا واقـعا فيـه يضاهـي واقـعها الفـعلي في بلـدان سبـقـتـنا أمـمها وشعـوبها إلى اجتـراح إمكانـها. ليست قـدريـة التـحديـث المتـدرج بشيء آخـر سـوى التـرجمـة الماديـة الإيجابيـة لسيرورة أخـرى معاكسـة وانحداريـة؛ هي سيـرورة تراجـع التـقليـد واضمـحلالـه وصـولا إلى أفـوله. السيرورتان مـعا من أحـكام تاريخ مـوضوعي. قد ينتـكس التـحديث عند محـطـة ما وقـد يزيد تباطـؤا وترددا، ولكـنـه سيجد أمامه مساحـات تـتسع، باستمـرار، يـخـليها له تـقـليد ما عاد يستـطيـع البقـاء طـويلا: ليس لأن أساساتـه تضـرب في الداخـل العـربي، بـل لأنـها تـتهاوى تحت ضربـات الثـورات العـلميـة والاجتماعيـة الجاريـة في العالـم. مع ذلك، لا يمكننا أن نشيح بأنظارنا عن واقع تلك الجيوش المجيشـة، هنا وهنا، المستـنـفـرة ضد ذلك التحديث، وعما تمتلكـه من قـوى وموارد في معركتها المحافظة ضده.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: ما کان
إقرأ أيضاً:
معنى تصفيد الشياطين في شهر رمضان.. ومن الذي يوسوس لنا ؟
أجابت دار الإفتاء المصرية، عن سؤال ورد اليها عبر موقعها الرسمي مضمونة:"ما معنى تصفيد الشياطين في قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ، وَصُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ»، وكيف نفسر حصول المعاصي من بعض الناس في شهر رمضان مع كون الشياطين مُصفَّدة؟".
لترد دار الإفتاء المصرية، موضحة: أن معنى عبارة "تصفيد الشياطين" الواردة في الحديث الشريف المسؤول عنه قد تفاوت العلماء في تفسيره على مداركَ متعددةٍ، وإن كانت في جملتها متكاملة متعاضدة، فقد يُرَاد به أنَّ الشياطين مغلولون ومقيدون حقيقةً في هذا الشهر، وقد يكون المراد أنهم ممنوعون من إيذاء المؤمنين وإغوائهم والتزيين لهم، ويحتمل أن المراد أن الله تعالى يحفظ فيه المسلمين أو أكثرهم في الأغلب من المعاصي، أو يقصد به نوعٌ مخصوصٌ من الشياطين، وهم: مُسْتَرِقُو السَّمْع منهم، أو مَنْ صُفِّدوا هم غالب الشياطين والمَرَدةُ منهم، وأما غيرهم فغير مُصَفَّد.
وأما حصول المعاصي من بعض الناس في شهر رمضان مع كون الشياطين مُصَفَّدة: فإما أن يكون تصفيدُهم إنما هو في حقِّ الصائم المراعي لشروط الصوم وما ينبغي أن يتحلَّى به من آدابه، أو أنَّ سبب اقتراف الذنوب آتٍ من النفس وخَطراتها.
تفضيل شهر رمضان على غيره من الشهورمما امتاز به شهر رمضان المعظم عن غيره من الشهور الأخرى ما أكدته السُّنَّة النبوية المطهرة من أنه إذا دخل هذا الشهر المُعظم صُفِّدَتِ الشياطين، وقد تواردت نصوص السُّنَّة المشرفة على ذلك، وأهمها:
ما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ، وَصُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ» رواه مسلم.
وما ثبت أيضًا عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِذَا دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ، وَسُلْسِلَتِ الشَّيَاطِينُ» رواه الشيخان، واللفظ للبخاري.
وما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أيضًا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ، وَمَرَدَةُ الجِنِّ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ، فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ، وَفُتِّحَتْ أَبْوَابُ الجَنَّةِ، فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ، وَيُنَادِي مُنَادٍ: يَا بَاغِيَ الخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ، وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ، وَذَلكَ كُلَّ لَيْلَةٍ» رواه الترمذي، وابن ماجه في "السنن"، والحاكم في "المستدرك".
معنى تصفيد الشياطين في شهر رمضانلفظ «صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ» الوارد في كلام سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إما أن يكون معناه التصفيد حقيقة، فتكون الشياطين في هذا الشهر مغلولةً مُصَفَّدَةً ممنوعة من التصرف وبعض الأفعال التي لا تُطِيقُهَا إلا مع الانطلاق، والأغلال تكون بالحديد، وإن الشياطين مع ذلك ليست ممتنعةً مِن التصرف جملة؛ لأن الْمُصَفَّدَ المغلول اليد إلى العنق يتصرف بالكلام والرأي وغيرهما، كما ذكر الحافظ ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري" (1/ 144، ط. دار المعرفة)، والإمام الباجي في "المنتقى" (2/ 75، ط. مطبعة السعادة).
وإما أن يكون تصفيد الشياطين معناه: أنه مِن شدةِ بركات هذا الشهر فكأنها كالْـمُصفَّدة، وإما أن يكون المراد: أنهم ممنوعون من إيذاء المؤمنين وإغوائهم وتزيين الشهوات لهم في هذا الشهر.
قال القاضي عياض في "شرح صحيح مسلم" (4/ 5-6، ط. دار الوفاء): [«وَصُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ»: قيل: يحتمل الحقيقة... وكذلك تصفيد الشياطين ليمتنعوا من أذى المؤمنين وإغوائهم فيه، وقيل: يحتمل المجاز لكثرة الثواب والعفو، والاستعارة لذلك بفتح أبواب الجنة، وإغلاق أبواب النار، وقد جاء في الحديث الآخر: «وَفُتِّحَتْ أَبْوَابُ الرَّحْمَةِ» وبأن الشياطين كالمصفدة لما لم يتم إغواؤهم بعصمة الله عباده فيه... ويكون معنى "تصفيد الشياطين" هنا خصوصًا عن أشياء دون أشياء، ولبعض دون بعضٍ، أو على الغالب، وجاء في حديث آخر: «صُفِّدَتْ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ»... ومعنى "صُفِّدَتْ": أي: غُلِّلَتْ، والصَّفَد، بفتح الفاء، الغُلُّ، وقد روى في الحديث الآخر: "سُلسِلت"] اهـ.
وقال الإمام ابن عبد البر في "التمهيد" (16/ 153، ط. أوقاف المغرب): [وأما قوله: «وَصُفِّدَتْ فِيهِ الشَّيَاطِينُ» أو «سُلْسِلَتْ فِيهِ الشَّيَاطِينُ» فمعناه عندي -والله أعلم-: أن الله يعصم فيه المسلمين أو أكثرهم في الأغلب من المعاصي، فلا يخلص إليهم فيه الشياطين كما كانوا يخلصون إليه منهم في سائر السَّنَة] اهـ.
ومن المعاني المحتملَة في "تصفيد الشياطين": أن يكون المراد نوعًا من الشياطين، وهم: مُسْتَرِقُو السمع منهم، والذين يقع تسلسلهم في ليالي رمضان دون أيامه؛ لأن القرآن كان ينزل فيها، وهم قد مُنِعُوا في زمن نزول القرآن مَن استراق السمع، فزيدوا في التصفيد والتسلسل مبالغة في الحفظ. يُنظر: "فتح الباري" للحافظ ابن حجر العسقلاني (4/ 114).
ويحتمل أيضًا أن يكون المراد: أن الشياطين لا يخلصون من افتتان المسلمين إلى ما يخلصون إليه في غيره؛ لاشتغالهم بالصيام والطاعات ومما فيه قَمْعٌ للشهوات، فكأنَّ الله تعالى يَعْصم في هذ الشهر المُعَظَّم المسلمين أو أكثرهم في الأغلب من المعاصي.
قال الإمام المُنَاوي في "فيض القدير" (1/ 340، ط. المكتبة التجارية): [لفظ رواية مسلم: "صُفِّدت" (الشياطين)، شُدَّت بالأغلال؛ لئلا يوسوسوا للصائم، وآية ذلك تنزه أكثر المنهمكين في الطغيان عن الذنوب فيه وإنابتهم إليه تعالى] اهـ.
وقال العلامة الطيبي في "شرح الطيبي على مشكاة المصابيح" (5/ 1576، ط. مكتبة نزار مصطفى الباز): [والتصفيد في شهر رمضان مبالغة للحفظ، ويحتمل أن يكون المراد به أَيَّامَهُ وبعده، والمعنى: أن الشياطين لا يخلصون فيه من إفساد الناس ما يخلصون إليه في غيره؛ لاشتغال أكثر المسلمين بالصيام الذي فيه قمع الشهوات، وبقراءة القرآن وسائر العبادات، والله أعلم] اهـ.
تفسير وقوع المعاصي في رمضان مع كون الشياطين مصفدة
أما وقوع المعاصي والذنوب مِن بعض الناس في شهر رمضان مع أن الشياطين مُصَفَّدة، فهذا له تأويلات: فإما أن تصفيدهم إنما هو في حقِّ مَن صام محافظًا على شروط الصوم وما ينبغي أن يتحلَّى به الصائم من آداب، وإما أن هناك أسبابًا أخرى لاقتراف الذنوب والمعاصي، كالنفوس الخبيثة، والعادات الركيكة، والشياطين الإنسية، وإما أن يكون المراد بمن صُفِّدوا هم غالب الشياطين والمردة منهم، وأما غيرهم فقد لا يُصَفَّد، ويكون المعنى المراد حينئذٍ هو: تقليل الشرور، وذلك موجود في رمضان؛ فإن وقوع الشرور والفواحش فيه قليلٌ بالنسبة إلى غيره من الشهور الأخرى.
قال الإمام أبو العباس القرطبي في "المفهم" (3/ 136، ط. دار ابن كثير): [فإن قيل: فنرى الشرور والمعاصي تقع في رمضان كثيرًا؛ فلو كانت الشياطين مُصَفَّدة لما وقع شرٌ؟ فالجواب من أوجه:
أحدها: إنما تُغَلُّ عن الصائمين الصوم الذي حُوفظ على شروطه، ورُوعيت آدابه، أما ما لم يحافظ عليه فلا يُغَل عن فاعله الشيطان.
والثاني: أنا لو سلمنا أنها صُفِّدت عن كل صائم، لكن لا يلزم من تصفيد جميع الشياطين، ألا يقع شرٌ؛ لأن لوقوع الشر أسبابًا أُخَر غير الشياطين، وهي: النفوس الخبيثة، والعادات الرَّكيكة، والشياطين الإنسية.
والثالث: أن يكون هذا الإخبار عن غالب الشياطين، والمردة منهم، وأما من ليس من المردة فقد لا يُصَفَّد. والمقصود: تقليل الشرور. وهذا موجود في شهر رمضان؛ لأن وقوع الشرور والفواحش فيه قليل بالنسبة إلى غيره من الشهور] اهـ.
وقال الإمام المُنَاوي في "فيض القدير" (1/ 340): [وأما ما يوجد فيه من خلاف ذلك في بعض الأفراد فتأثيرات من تسويلات المردة أغرقت في عُمْق تلك النفوس الشريرة وباضت في رؤوسها، وقيل: خُصَّ من عُمومٍ.. تنبيه: عُلم مما تقرر أن تصفيد الشياطين مجازٌ عن امتناع التسويل عليهم واستعصاء النفوس عن قبول وساوسهم وحسم أطماعهم عن الإغواء؛ وذلك لأنه إذا دخل رمضان واشتغل الناس بالصوم وانكسرت فيهم القوة الحيوانية التي هي مبدأ الشهوة والغضب الداعيَيْن إلى أنواع الفسوق وفنون المعاصي وصَفَتْ أذهانهم واشتغلت قرائحهم وصارت نفوسهم كالمرائي المتقابلة المتحاكية وتنبعث من قُواهم العقلية داعية إلى الطاعات ناهية عن المعاصي فتجعلهم مُجمِعين على وظائف العبادات عاكفين عليها مُعرِضين عن صنوف المعاصي عائقين عنها، فتفتح لهم أبواب الجنان وتغلق دونهم أبواب النيران ولا يبقى للشيطان عليهم سلطان فإذا دنوا منهم للوسوسة يكاد يحرقهم نور الطاعة والإيمان] اهـ.