ياروسلاف كويز - كارولينا ويجورا
قال رئيس الوزراء البولندي دونالد تاسك خلال العام الحالي: «إنني أعرف أن الأمر يبدو خرابا. لكن علينا أن نعتاد على حقيقة أن عصرا جديدا قد بدأ، هو عصر ما قبل الحرب». وبُعيد الإطاحة بالشعبويين المحليين من السلطة، يحظى تاسك باحترام على نطاق واسع. غير أن كلماته قد تبدو مدهشة. فبالنظر إلى الحرب في غزة وغزو روسيا لأوكرانيا والصراع في السودان، هل لا يزال بوسعنا الحديث عن عصر ما قبل الحرب؟
قد يكون من الممكن اتهام تاسك ـ رئيس المجلس الأوروبي السابق ـ بالتركيز القاصر على أوروبا.
غير أنه ليس من المرجح أن يتفقوا. فعلى مدى العامين ونصف العام المنصرمة منذ الغزو الروسي، اتبعت الدول الغربية أساليب متباينة ومتناقضة في بعض الأحيان في التعامل مع الحرب. ومن وراء سياسة كل بلد منظور خاص قائم على تاريخ. فهو أشبه بعدسة ترى الحرب في ضوء مختلف. في حين يهدد بوتين بتصعيد نووي وتعاني أوكرانيا من المزيد من الهجمات، من الضروري أن يقرر أعضاء الناتو معا الكيفية التي ينبغي أن يروا بها الحرب في أوكرانيا والطريقة المثلى لإنهائها.
يعتقد البعض أننا على شفا حرب أوسع، ونمرّ بما يعادل شيئا جرى قبل مائة سنة. وهذه هي الرؤية من عدسة سراييفو. ففي تلك المدينة البلقانية، في صيف يوم حار من أيام عام 1914، فتح قاتل شابّ النار على سيارة الأرشيدوق فرانز فرديناند مطلقا العنان لسلسلة من الأحداث الفوضوية التي أفضت إلى الحرب العالمية الأولى. بدأت تلك الحرب، التي جلبت دمارا استثنائيا، بالمصادفة تقريبا. وقد أطلق المؤرخ كرستوفر كلارك على الطبقة السياسية في ذلك الزمن نعت «السائرين نياما». فمن خلال مزيج معقد من العواطف، والشرف الجريح، والطيش، مضوا غير واعين إلى الحرب.
لمن يرون الموقف من خلال هذه العدسة، لا بد لصراع أوكرانيا من أن يصبح معادلا لمقتل فرديناند، أو هو السلاح الذي أطلق شرارة الحرب. وهؤلاء يتكلمون بنبرة سلمية: انتبهوا، إننا نمضي خطوة بعد الأخرى إلى صراع عالمي، وقد يكون نوويا، حتى لو لم يكن أحد راغبا في ذلك. والخلاصة بالنسبة لهم بسيطة. خشية تخويف روسيا ودفعها إلى تصعيد لا يمكن التراجع عنه، لا بد من تحجيم مطامح أوكرانيا العسكرية ولا بد من السعي إلى المفاوضات الدبلوماسية.
يبدو أن عدسات سراييفو هذه هي المستعملة بصفة مهيمنة في ألمانيا. فمنذ فبراير 2022 تبنى المستشار أولاف شولتس بشدة دعم أوكرانيا، وبلده من أهم مصدري المساعدات المادية والأسلحة إلى أوكرانيا. ولكن في الوقت نفسه، مع وصول كل شحنة جديدة، يكرر تحذيره: في مرحلة ما، قد تكون طائرة مسيرة، وطائرة مسيرة واحدة أكثر كثيرا مما ينبغي. ويتركز تأكيده دائما على الحذر والسعي في نهاية المطاف إلى تسوية مّا قائمة على تفاوض. وفي شوارع برلين خلال الانتخابات الأوروبية الأخيرة، كانت اللافتات التي تحمل صورة شولتس تعد بـ«ضمان السلام».
في حين يستعمل آخرون عدسات مختلفة تماما، ولنسمها عدسات ميونيخ. وتأتي مرجعيتهم التاريخية من عام 1938 حين طالب أدولف هتلر بجزء من تشيكوسلوفاكيا، ووافقت القوى الأوروبية على ذلك ـ في نوع من الاسترضاء. وكان الغرض من ضم تلك الأرض إشباع شهوة الرايخ الثالث، ومن ثم اجتناب الحرب الكبرى. لكن الاسترضاء جاء على حساب بلاد أخرى، وذلك ما ستقوله لكم دول أوروبا الشرقية والوسطى.
وفشل ذلك أيضا في ضوء شروطه. فقد انهارت سياسة الاسترضاء انهيار بيت من أوراق اللعب مع هجوم ألمانيا على بولندا سنة 1939 فأفضى ذلك ببقية أوروبا، ثم العالم كله في النهاية إلى الحرب العالمية الثانية. وهذا بالضبط ما ينشد تاسك اجتنابه. ووفقا لهذه الرؤية، لا ينجم عن القرارات الساذجة إلا المزيد من الضحايا والمعاناة، والمزيد من الحرق والقصف للمدن، فوارسو في الماضي، وماريبول في الحاضر. ويذهب هؤلاء إلى أنه لا بد من عدم تكرار خطأ الاسترضاء. ولا يجب تقديم تنازلات لنظير هتلر الحالي.
وبعيدا عن أوكرانيا ذاتها وبولندا، يشيع النظر عبر هذه العدسات في المنطقة المجاورة: فنلندا ودول البلطيق ورومانيا ومولدوفا. ويبدو أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون انتقل من عدسة سراييفو إلى عدسة ميونيخ خلال السنتين الماضيتين. فقد كان في البداية يناصر المفاوضات والدبلوماسية، لكنه ألقى أخيرا خطبة ينذر فيها من خطر روسيا. فقد قال ماكرون بنبرة أوروبية شرقية لافتة إن «أوروبا يمكن أن تموت». غير أن إضعاف سلطته بعد الانتخابات الأخيرة قد يعوق رؤيته.
وماذا عن واشنطن؟ دخلت الولايات المتحدة الحربين العالميتين متأخرة بطبيعة الحال، فلم يكن لتطور الأحداث الأوّلي لكلتا الحربين وقع كبير في الجانب الآخر من الأطلنطي. ولذلك فمنظور الولايات المتحدة يأتي من الصدمة التي أدخلتها الحربَ العالمية الثانية، أي الهجوم على ميناء بيرل سنة 1941. فتلك الهجمة غير المتوقعة التي لقي فيها أكثر من ألفي عسكري أمريكي مصرعهم علمت الولايات المتحدة أنه إذا لم يكن لها وجود محسوب في الصراعات، فقد تدفع ثمنا باهظا. وعقدت الولايات المتحدة عزمها من ثم على ألا تُبَاغت على أرضها مرة أخرى.
تساعد عدسة ميناء بيرل على تفسير أداء أمريكا خلال الحرب، حيث سعت إلى دعم أوكرانيا بقدر الإمكان، وصولا إلى النقطة التي تكون فيها معرضة مباشرة لخطر الانتقام. ويفسر هذا تذبذب دعم أمريكا الذي يتأرجح بين الأساليب النشطة إلى حد ما، والقلق الدائم من التصعيد الروسي. والمشكلات الناجمة عن هذا، وخاصة في ما يتعلق بتأخير حزمة المساعدات لأوكرانيا، واضحة للعيان.
نحن في 2024، لسنا في سراييفو أو ميونيخ أو ميناء بيرل. لكن هذا لا يغير الأثر العميق لهذه المناظير. إذ لا يصوغ كل واحد منها فقط التحليل الثقافي للأحداث الجارية وإنما يفرض اقتناعا أخلاقيا قويا بالصواب، بل وبالفوقية. وهذا الإحساس، وليس محض اختيار النظير التاريخي، قد يفضي بالفاعلين إلى الانغلاق على أنفسهم وعدم الإصغاء لبعضهم بعضا.
غير أن هناك وسيلة للتوفيق بين جميع الأطراف تكمن في فهم أننا لسنا في مرحلة عتيقة الطراز لما قبل حرب، ولكن في عصر جديد لحرب هجينة. فهذه الحرب عديدة الأوجه على الغرب وجوهر قيمه السياسية تجري بالفعل في الكوكب كله، لا في أوروبا وحدها ولكن في إفريقيا أيضا، وآسيا، والشرق الأوسط. وإذا لم تكن هناك بعد طائرات مسيرة روسية تحلق فوق بلاد الاتحاد الأوروبي، فالقتال جار بالفعل في جبهات أخرى، ولو اقتصرت حتى الآن على هيئة معلومات مزيفة وتجسس وقرصنة. والتشابهات مع سراييفو أو ميونيخ وميناء بيرل كلها نافع في تأسيس منظور جديد مناسب للقرن الحادي والعشرين.
ليس مقدورا علينا أن نكرر الماضي. بل إن بوسعنا بدلا من ذلك أن نختار ما يمكن القيام به: وهذا جوهر الإيمان بالديمقراطية في كلا جانبي الأطلنطي. وتذكِّرنا فيسوافا شمبورسكا في قصيدة حكيمة لها بأنه «لا شيء يحدث مرتين». ورؤيتنا هي أن أعضاء الناتو ينبغي أن يضعوا ترسانة أسلحة التحالف تحت إمرة أوكرانيا لضمان هزيمة روسيا. هكذا نرى الأمور. وفي واشنطن هذا الأسبوع، تسنح فرصة للبلاد للتخلي عن عدساتها، والنظر في أعين بعضها البعض مباشرة، ورسم مسار جديد.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الولایات المتحدة إلى الحرب غیر أن
إقرأ أيضاً:
ماذا نعرف عن صواريخ «ستورم شادو»؟.. استخدمتها أوكرانيا ضد روسيا
في تطورات متسارعة، بدأت أوكرانيا في استخدام صواريخ ستورم شادو في الحرب ضد روسيا، لاستهداف أماكن بعيدة المدى، في سلسلة من التطور في الحرب، إذ تستخدم أوكرانيا مؤخرا صواريخ أمريكية دقيقة في أمر أزعج روسيا التي ستغير من عقيدتها النووية للدفاع عن نفسها.
موافقة بريطانيا على استخدام صواريخ «ستورم شادو»وذكرت صحيفة «الجارديان» البريطانية أن أوكرانيا استعانت بصواريخ «ستورم شادو» البريطانية بعيدة المدى، بعد موافقة بريطانيا التي كانت ترفض هذه الأسلحة من قبل منذ بداية الحرب.
صواريخ «ستورم شادو» وتطور الهجومصواريخ «ستورم شادو» قادرة على استهداف مواقع على مدى 250 كيلومترا، وجاء هذا الهجوم الأوكراني بعد استخدام كييف أيضا صواريخ أتاكمس الأمريكية التي يصل مداها إلى 300 كيلومتر، لضرب مناطق عسكرية في منطقة بريانسك.
وجاءت الموافقات الغربية لأوكرانيا لاستخدام الأسلحة ردا على استعانة روسيا بقوات كورية شمالية للحرب بجانبها ضد أوكرانيا، واستخدمت أوكرانيا من قبل صواريخ «ستورم شادو» منذ بداية الحرب ولكن داخل الأراضي الأوكرانية فقط ولكن حاليا تستخدمها في الأراضي الروسية.
هذا النوع من الصواريخ طوله 5 أمتار، وظهر لأول مرة في نصف تسعينيات القرن الماضي على يد بريطانيا وفرنسا، وتصل تكلفة الصاروخ الواحد إلى مليوني جنيه أستراليني، ويضم الصاروخ رأسين حربيين، ولا يستطيع الصاروخ الطيران إلا على مستوى منخفض للغاية، وأطلقت أوكرانيا 12 صاروخا منها على روسيا.
إغلاق سفارات غربية في أوكرانياوأغلقت 5 سفارات غربية في أوكرانيا أبوابها بشكل مؤقت ومنها البريطانية والإسبانية والأمريكية والإيطالية في تخوف من الهجوم عليها بالصواريخ الروسية، التي تدك كل ما يقف أمامها وتحاول أوكرانيا الاستعانة بالغرب للرد على هذا التطور.