فى سبعينيات القرن الماضى وفى عام 76 تحديدا وعلى وقع التدخل الخارجى والعربى بشكل أخص فى لبنان راح الرئيس المصرى الراحل أنور السادات يطلق مقولته الشهيرة التى اصبحت شعارا بعد ذلك وهى «ارفعوا أيديكم عن لبنان». كان السادات يقصد النظام السورى والذى كان على خلاف مع رئيسه آنذاك حافظ الأسد وكانت دعوته بمثابة نداء عام لكى يخرج ذلك البلد من دائرة الاستقطابات والنزاعات التى تلحق به أشد الضرر.
صحيح أن الوضع مختلف وطبيعة الأزمة اللبنانية تختلف كثيرا عن نظيرتها الفلسطينية، ولكن الجوهر واحد. إن فلسطين ومنذ نشأة أزمتها فى نهاية أربعينيات القرن الماضى فى حاجة إلى وقوف العرب معها، وهو أمر لا يمكن نكران حدوثه وبأشكال وطرق شتى، غيرأنه مع تبدل الأحوال والاوضاع وتحول القضية إلى رمز قومى عربى اختلطت الكثير من الأوراق بشأن طريقة التعامل معها، فلا العرب عادوا قادرين على الوقوف بجانبها بالشكل الواجب، ولا هم قادرون على نسيانها، فأصبحت كقميص عثمان.. الكثير يرفعه ولأجل رؤيته لمصلحته الخاصة، على نحو يشير اليه البعض بنوع من التجاوز باعتباره اتجارا بالقضية الفلسطينية.
ربما كانت أحداث طوفان الأقصى كاشفة عن ضعف المساندة العربية للقضية الفلسطينية رغم أن الأمر ليس وليد يوم وليلة، ولكن المشكلة أن أضعف المواقف فى التعاطى مع تطورات تلك العملية وما تبعها من حرب اسرائيلية شرسة على غزة ترتقى إلى حد كونها نكبة ثانية، كانت المواقف العربية. كان ذلك على كل المستويات. إلى هنا والأمر قد يبدو مستساغا أو مقبولا باعتبار أن الضعيف لا ينتظر منه الكثير. غير أن المشكلة أن بعضنا لم يحاول التعامل مع المنكر الإسرائيلى بمنطوق الحديث النبوى بالسعى لتغييره سواء باليد أو باللسان أو حتى بالقلب حيث تحول هذا البعض إلى عبء على القضية وربما كانت تدخلاته سببا فى سوء الموقف الفلسطينى أو فى إضعافه سواء كان الأمر يخص اولئك القابعين تحت نار القصف فى غزة أو أولئك الذين يمسكون بالشق السياسى منها.
المشكلة أن موقف بعض هؤلاء فى النهاية ربما كان يصب فى صالح موقف العدو الإسرائيلى وتحسين وضعه بل وتحسين سمعته. طبعا بعض المواقف ربما تنطلق من حسن نية وإن كان من عدم الكياسة محاولة الإشارة إلى أنها كلها تعكس هذا الحسن!
الأمثلة كثيرة ومن الصعب حصرها ولكن قد يبدو مثلا من المشاهد الغريبة تلك التى تحاول فيها إسرائيل جر دول عربية للقيام بدور الشرطى نيابة عنها فى غزة فى ترتيبات ما بعد الحرب، وهو ما يؤكده الحديث عن مساعٍ أمريكية لإنشاء قوة قوامها الدول العربية لتعمل جنبا إلى جنب مع ضباط فلسطينيين محليين لإدارة الأوضاع فى غزة، وهو ما يمثل رفعا للحرج والانتقادات الدولية لإسرائيل بفرض هيمنتها على القطاع وفى الوقت نفسه تخفيف عبء التكلفة الباهظة التى قد تتحملها الدولة العبرية جراء بقائها فى غزة وهو ما يضمن أيضا أن تسير الأمور وفق تصور تل أبيب لمستقبل غزة، دعك بالطبع من اطروحات من أن ذلك يمهد لقيام دولة فلسطينية فى ظل التعنت الإسرائيلى.
ربما يكشف ذلك عن تداعيات سلبية لبعض المواقف العربية وأنها تشكل عبئا على القضية الفلسطينية بدلا من أن تكون مدخلا لحلها ما يجعلنا نعيد التأكيد على مقولة «ارفعوا أيديكم عن فلسطين»!
[email protected]
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: د مصطفى عبدالرازق ارفعوا أيديكم عن فلسطين تأملات التدخل الخارجي الرئيس المصري انور السادات السادات النظام السوري فى غزة
إقرأ أيضاً:
ربما لأنه هدف سهل!
معاوية الرواحي
وتستمر الظاهرة الرقمية الجديدة! كما تستمر الحياة، وكما يمضي الوقت، ونعيش نحن الذين في الأربعين غربةً تكشفُ لنا غربة من قبلنا، عندما عاشوا في زمانٍ غير زمانهم، وعرفوا أن السنن الجديدة معبَّاة بالغربة، والاختلاف، وتغيير ماهية المعايير، والطبيعي، والمنطقي، بل وأحيانا، في عصر الدماء والحروب، الإنساني! نحن لا نعيش في زمانٍ عادي، على كل الأصعدة، أصعدة اليمين واليسار العالميين، أصعدة التناقض البشري الهائل، أصعدة الحروب التي تُعاقب فيها بعض الدول، وتُسامح فيها بعض الدول الأخرى، وكأن الدماء لها ملصق تسعير، يحدد إنسانيو العالم أسعارها كما يحبون ويشاؤون.
أمام كل هذا الاحتدام العالمي، تبرز تلك الظواهر الجانبية التي أصبحت رئيسيةً من فرط قوة معتنقيها، قضايا الصوابية السياسية العالمية، وجمهور الضحالة والتفاهة، النابذ للمعرفة، والعلم، والتفكير النقدي، جيل التكتوك والرقص من أجل المشاهدات، جيل التصوير العمودي، والذي إن وجه للخارج نزع السياق وحول الحكاية إلى لحظة، جيل التسعين ثانية والمشاهد البصرية السريعة، جيل الملل، وكراهية القراءة، وبمعونة الصناعة، والهواتف، والمنصات التي تساعدك على إدمان التصفح المرئي القصير، فرض هذا الجيل شروطه على المنتج الرقمي، فحدث لدينا ما حدث من شيء اسمه هذا العالم الذي نعيش فيه، وهذه الظاهرة الرقمي التي نشتكي منها.
وإنه لسؤال محيّر حقا، بأي أداة يمكنك أن تتصدى لهذه التفاهة؟ فهي ظاهرة عالمية، ولا تقتصر على بلادٍ دون أخرى؟ ما الحل حقا؟ لأن ظاهرةً أخرى رديفة أيضا موجودة في عصرنا الحالي، لكنها ليست حديثة مثل أجيال (الفرفشة) والسطحية، وإنما هي مستمرةٌ ضمن استخدام الواقع الرقمي (الجاد للغاية) والذي ينتظر من العالم أن يقدم لها ما يناسب عينيه، وكأن الأدب توقف، وكأن السينما توقفت، وكأن الإبداع البشري يتأثر بهؤلاء الذين يتعاملون مع معطيات الزمن الرقمي الحديث، وما حملته ثوراته الصناعية. لم يتوقف الإبداع، ولم يعدم العالم ذلك (المحتوى) الذي يجد فيه المهتم بالتفكير النقدي والحقائق بغيته.
يظن البعضُ أن إصلاح العالم يحدث بصناعةِ العبر، وهذا متفهمٌ للغاية في سياقات كثيرة، إلا في سياقٍ واحد فقط، عندما يتعلق الأمر بصانع محتوى يصفه أحد النخبة بالتافه. يمتلئ الواقع الرقمي بعشرات النماذج التافهة، والشرسة، والعدوانية، والمتنمرة، هُنا ترتكس الجموع من كهنة الوعي العميق لتفكر في خطوتها القادمة، فما الذي يجعل إنسان يتعرض لصانع محتوى شرس، مليء بالشرور، يُسمى في الرائج من تسميات الأجيال الجديدة (جلادا) وتُردد في تعليقات منصاته كلمة (اجلدهم يا فلان) هذا لا يستحق طبعا تأنيبا عامَّا، ولا يستحق أن تتحرك الجموع الصوابية ضدَّه، لأنه هدف صعب، وقادر على الدفاع عن نفسه.
ولكن ماذا عن الهدف السهل؟ ذلك الإنسان الطيّب زيادةً عن اللازم؟ هنا تتحرك الظاهرة الرقمية الرديفة، صناعة العبر، وتحطيم البشر، واندفاع جموع هائلة من الناس كانت تنتظر السانحة لكي تصبَّ جام لومها للعالم على شخص واحد، وكلما كان هذا الإنسان (على نيّاته) كان من الأسهل على من هبَّ ودبَّ أن يطلق العنان لمعوله، وسهل على النصال أن تنطلق مصوبةً إلى ذاتِه، ووجوده، فحرية التعبير مشروطة ليست بالقانون، وإنما أيضا مشروطة بالتفضيلات الشخصية، فما هو كوميدي تافه بالنسبة لزيد، وضحل بالنسبة لعمر، أما ما هو مؤذٍ (وجلاد) ويسيّس، ويثير النعرات، وطائفي، هنا تسكت شهرزاد عن الكلام المباح، لأن الهدف السهل موجود، ولأن الهجوم على شخص واحد كفيل بصناعة الإشباع الشخصي الذي يجعل إنسان يعبر عن رثائه للمعنى في هذا العالم بالانتقاص والتهكم من إنسان حقَّا لم يكن يفكر يوما بطريقة التهجم، والفعل، ورد الفعل!!
ربما لأنه هدف سهل، ضحيةً أخرى من ضحايا الصوابية التي تُنصر بالتطاول، ولم لا؟ فالكياسة يستحقها أشخاص آخرون، الذين تحسب حسابًا إن تعرضت لهم، الذين سيستغلون منصاتهم للدفاع عن أنفسهم، بشراسةٍ مضادة، وأيضا يستخدمون المقاربة الرائجة، يحاول البعض أن يجعل منهم عبرةً فيختارون عبرةً مضادةً من هذه الجموع، وعلى من تقع القرعة؟ هنا تتراجع الجموع المندفعة، ولا سيما تلك التي تريد أن ترمي بزجاجها الحاد فقط بعد أن تطمئن، هذا شرطٌ بشري فادح، وهذا ما يجعل هجومًا جماعيا رقميا مستساغا، ومباحا، ومتاحا، فقط لأنَّك أمنت ردة الفعل، ولهذا يسقط الطيبون، يفترسون رقميا بكل شدَّة ممكنة، لأنهم هدف سهل، لن يختار عبرةً مضادة، أمَّا الذي يعرف لغة الشر، والأذى، والتنمر، والتحطيم، أو ما يسمى (جلادًا) فسيعرف كيف يدافع عن نفسه، وكيف يعترك الشر بالشر، مؤسف هذا العالم عندما تنقلب الصوابية إلى انتقاء لا يسد الذرائع، وإنما هو إشباع آخر آثم، لا يختلف عن إزاحة البعض لضيقه من الحياة ليحوله على فريق رياضي، وليهنأ شجعان الصوابية بهدف جديد وراء آخر، وعندما يصنع من هذا الزخم إنسانٌ غاضبٌ، ساخطٌ جاهز لرد الصاع صاعين، وقتها ستغادر هذه الجموع إلى هدف سهلٍ آخر، وهكذا دواليك، تستمر الظاهرة البشرية، كالظاهرة العالمية، كالظاهرة الرقمية في هذا العصر الذي أصبح كامرةً عموديةً توجه للآخر كسهم، وتوجه للذات كمرآة.
مقاربات كثيرة يمكنها أن تعيد توازن صناعة المحتوى، مقاربات إبداعية، وتحتاج إلى أشخاص لديهم سعة البال، والإيمان بالآخر، والتعاطف مع أحلامه، واحترام حريته، ونسج الخيارات أمامه، مقاربات بنَّاءة كثيرة تختلف عن التأنيب، والتقريع، والتنمر، والإلغاء، مقاربات لا نهاية لها، مرمية في أرصفة الفنون، والنقد، ولكن لم إنفاق الوقت في تنمية تجربة إنسان آخر، تحطيمه يكفي، وصناعة عبرة منه تكفي، لأنَّه هدف سهل، وهذا يكفي لكي نعبر عن أسوأ ما فينا تجاه إنسان نعرف جيدا أنه لا يملك من الشر ما يكفيه للدفاع عن نفسه! زمان عجيب نعيش فيه، ولعلنا سنرى الأعجب في رجبٍ أقرب!
رابط مختصر