«آمال» أسست التحالف و«أمنيات» أصبحت حقيقة
تاريخ النشر: 10th, July 2024 GMT
في زفاف أحد الأصدقاء التقيت بها، سيدةٌ ذات وجه مصري خالص بشوش، تحمل في ملامحها تلك الطيبة وذلك النبل الذي أراه في وجه أمي، لم تمر إلا دقائق معدودة على لقائنا، أصبحت فيها خلالها ابنها الذي لم تنجبه، بينما تعيد التأكيد أنها «أمي التانية» في القاهرة التي ارتحلت إليها وأصبحت من سكانها منذ عدة سنوات.
ظننت أن تلك العلاقة العابرة مع والدة صديقتي لن تتخطى حدود القاعة التي احتضنت حفل الزفاف، وأن كلماتها كانت مجرد دعم معنويٍ، ودعوتها لي لزيارتهم ليست إلا «عزومة مراكبية» نبعت من تعاطفٍ لحظيٍ لأمٍ مع ذلك الشاب المغترب البعيد عن أسرته، والمحروم من الدفء الأسر و«الأكل البيتي» اللذيذ، إلا أن ما حدث بعد ذلك أثبت لي أن نظرتي كانت قاصرة، ورأيي كان خاطئا، وأن تلك السيدة كانت صادقةً في كل حرفٍ نطقت به.
على جانب آخر، كان يجلس جمعُ من الفاعلين في المجتمع المدني كأول لقاء لهم، داخل غرفة العمليات المركزية لمشروع حياة كريمة لبحث سبل التعاون بين أطراف المجتمع المدني المصري، وقرروا أن يحملوا على عاتقهم آمال المشاركة والتكامل المجتمعي، معلنين تأسيس «التحالف الوطني للعمل الأهلي»، مع وعودٍ بأن يصلوا إلى كل مكان في مصر، وأن يحققوا أمنيات الكثيرين ويصلوا بهم إلى بر أمان وسط قسوة الحياة وتوحشها، وعودٌ ظنها الكثيرون مجرد «فرقعة» تشبه «عزومة المراكبية» التي ظننتها من والدة صديقتي من قبل.
وعود والدة صديقتي وعهودها بدأ تنفيذها بإرسال السلامات ورسائل الاطمئنان على أحوالي وصحتي وأخباري، ثم تطور لإرسال أطباق الأكل البيتي الشهية ذات الرائحة التي تخرج من مطبخ أمي في بني سويف، فأشمها من مكاني في القاهرة، تطهو والدة صديقتي الطعام فأشاركهم فيه وأتناوله بشهية من يأكل «آخر زاده»، لتغرس والدة صديقتي بذرةً طيبةً كانت على الطرف الآخر من النهر تنمو شجرةً كبيرةً تحت كنف ورعاية التحالف الوطني.
34 كيانا تنمويا وخدميا، أهمها الاتحاد العام للجمعيات الأهلية الذي يضم 34 جمعية ومؤسسة أهلية وكيانات خدمية وتنموية، منها الاتحاد العام للجمعيات والمؤسسات الأهلية الذي يضم فى عضويته 30 اتحادا نوعيا و27 اتحادا إقليميًا، بيت الزكاة والصدقات المصري، جامعة القاهرة، وغيرها من مؤسسات وهيئات المجتمع المدني والعمل الأهلي، قررت أن تكون شريكةً في إنماء وتكبير تلك الشجرة.
والدة صديقتي أعادت لي آمال العثور على المبادئ والتقاليد التي تربيت عليها في قريتي الصغيرة، تقاليد المشاركة والتكامل والتحالف، ومبدأ «المليان يكب على الفاضي» الذي افتقدته في العاصمة بسرعتها وزحامها وصخبها وقسوتها، ظهرت كحبات الندى على وريقات خضراء فروتها وأعادت لها حيويتها، مثل نسيم وسط موجةٍ حارةٍ فأعادت الروح لمن كاد أن يختنق من حرارة الجو، كانت نقطة ضوءٍ تحمل «آمال» التحول يومًا إلى نهارٍ من المشاركة والتكامل يضيء ظلمة يعيش فيها كل منا في جزيرة منعزلة، ضوءُ تمنيت أن يصبح كيانا كبيرا يبث النور في كل الأرجاء.
التحالف الوطني من جهته، قرر التقاط مبدأ «المليان يكب على الفاضي»، وتعميمه فوق كل شبر من أراضي المحروسة، ومنحه الصبغة الرسمية، وإعادة التقليد وإيصال تلك الروح وغرسها لتعود قوية وثابتةً، لتتحول حبات الندى إلى أمطار من الخير، وتصبح نسائم الهواء رياحًا باردةً تنهي ساعات الحر والجفاف، وتتوسع نقطة الضوء لتغمر أي ظلمة، معلنين أن «التحالف الوطني للعمل الأهلي» ثمرة لصدق وطيبة والدة صديقتي، وأنه خرج من طباع المصريين وطباعهم وتقاليدهم وتراثهم.
الآمال التي تأسس عليها التحالف الوطني أوصلته إلى 27 محافظة، بما في ذلك كل المناطق الحدودية والنائية، ففي الوادي الجديد على سبيل المثال توجد 62 جمعية شريكة، و18 في شمال سيناء، و34 في جنوب سيناء، ولم يكن ليصل إلى كل شبر في مصر دون تنظيم إداري محكم، من خلال أكثر من 325 مقرا وفرعا مملوكة لمؤسساته، وأكثر من 1200 مدرسة مجتمعية في 11 محافظة، 5688 نقطة.
الشجرة التي غُرست بذورها أزهرت وأينعت وأثمرت العشرات من المبادرات التي وصلت إلى الملايين، وغمرتهم بتلك المشاعر الصادقة التي أغرقني فيها صوت والدة صديقتي الحنون وتصرفاتها الصادقة، فمبادرات مثل «كتف فى كتف-مراكب الرزق-إعادة إعمار المنازل-فرح قلبي-المولد النبوى الشريف-ازرع-قوافل ستر وعافية»، أعادت تلك الروح التي كادت أن تضيع في زحام الحياة، روح التكافل والتشاركية والإحساس بالمسؤولية المجتمعية، روح الود والأسرة الكبيرة، روح «والدة صديقتي».
المصدر: الوطن
كلمات دلالية: التحالف الوطني التحالف الوطنی
إقرأ أيضاً:
عن موت (السواقة)!
* في سودان اليوم، لم تعد “السواقة” ممكنة، إذ لم يعد المواطن بحاجة إلى وسيط يحدد له من شرَّده من داره ونهبه وقتل أهله. فالحقيقة الآن تُعاش ولا يُسمَع عنها، تُلمَس ولا تنتظر التوصيف. لا تعيش ”السواقة” في بيئة المعرفة المباشرة. حين تكون الحقيقة قد عمَّدت نفسها بالدم والدموع، وزارت بيوت المواطنين، وخطفت أحبابهم، وسكنت ذاكرة أطفالهم.
* ماتت “السواقة” حين صارت الحرب في الدار، في الصالون والمطبخ وغرفة النوم، حين صار كل مواطن شاهداً لا متلقياً، ماتت لأن الميدان صار أصدق من المانشيت الملون، والواقع أبلغ من البيان الرمادي.
* ماتت السواقة عندما أصبح اللقاء مع جنود الميليشيا هو لقاء مع الموت، والنجاة منه مِنَّة، والسلامة من الخطف تفضُّل، والنهب دون ضرب قمة الإحسان. ماتت “السواقة” لأن الناس قد التقوا بالمجرم كفاحاً، وحدثهم ــ بأفعاله قبل أقواله ــ بألا يصدقوا خطاب الحرب الذي يدار كحملة علاقات عامة له يعيد إنتاج تجربتك معه.
* ماتت السواقة حين أصبح ما يمارسه “السواقون” ليس مجرد قراءة مغايرة، بل هو تواطؤ مع الجريمة، يهدف إلى تغيير المعنى لا كشف الواقع. إنها محاولة احتكار للحق في تفسير الحرب، ومصادرة لحق المواطن في أن يكون شاهداً لا متلقياً. ولهذا، يُقابل هذا الخطاب بسخط شعبي واسع، لأنه يُرى بوصفه امتداداً للعدوان.
* ماتت السواقة حين أصبحت مادتها تصاغ بتعاون الأجنبي الطامع، والسوداني التابع، والمرتزق النهاب ، وحين أصبح “السواقون” يرتعبون من لقاء المواطنين ومخاطبتهم، وهربوا إلى الفضائيات لممارسة استفزازهم بلا عواقب مباشرة وفورية.
* ماتت “السواقة” حين اختار جزء من “السواقين” ذروة إجرام الجلاد توقيتاً لإزالة قناع الحياد، وإشهار تحالفهم معه، لكن دون أن يحتاجوا لتغيير مفردات خطابهم، فخطاب “الحياد” القديم يصلح لواقع التحالف.
* ماتت السواقة حين أصبحت “مقاومة” القتل والاغتصاب عدوان، والوقوف ضد المعتدي الأجنبي جريمة، والحديث عن النهب خروج عن معادلة التجريم المقبول. ماتت عندما أصبحت الحقيقة أصلب من أن تُميَّع، وأمتن من أن تُعدَّل، وأوضح من أن تُعكَس. ماتت مع موت الميليشيا التي لم يبق لها إلا الابتزاز بالتقسيم، والمساومة بالقتل والمقايضة بالتخريب.
* ماتت السواقة حين بلغت فجوة الخطاب بين “السواقين” والمواطن حداً جعل من كل محاولة لإعادة تشكيل الواقع، أو توجيه الحكم عليه، مجرد استفزاز لوعي شعبي خَبِرَ الحرب وعاشها بأكملها. فالمواطن لا يحتاج إلى من يفسر له ما رأى، ولا من يعطي للحقائق “أوزاناً نسبية” وفق ما تقتضي مصلحة الميليشيا.
* ماتت السواقة حين أصبحت الحكومة في حاجة لتخبئة محطات الكهرباء التي تتعرض للضرب الممنهج، تماماً كما احتاج المواطنون لتخبئة الأموال والحرائر من سارقي الأموال والعروض، ماتت حين أصبح الظلام طاقة نور تضيء على العدو، وتشير إلى حقده، وتفضح مقاولي التبرير.
* مَن يُجرب الآن “السواقة”، إنما يُجرب حظه مع الانتحار الرمزي. لأن الوجع الذي تسببه الميليشيا للوطن والمواطن، لم يعد قابلاً لأن يُعاد توصيفه ببيان باهت، أو تهوينه بتغريدة مراوغة، او تبريره ببلاغة ميتة. فلا أحد يملك حق تسمية الأشياء نيابة عن شعب يشاهد، ويشهد، ويختار، ويقاوم.
*لقد ماتت السواقة، وشبعت موتاً، عندما تحولت، أكثر من ذي قبل، إلى دكتاتورية معنى، وإمبريالية مفهوم، وفاشية سردية. وهذا ليس موت وسيلة، بل سقوط منظومة كاملة كانت تعتاش على تجميل القبح، وتسترزڨ من أنقاض المعنى، وتتربح من جثة الحقيقة.
إبراهيم عثمان
إنضم لقناة النيلين على واتساب