كان لافتًا متابعة ما حدث في النيجر وردود الأفعال عليه. فرغم المصالح الكبرى لفرنسا في النيجر ووجود قوَّاتها على أرضه ونهبها لثرواته على مدى عقود فكُلُّ ما كانت حريصة عليه هو «إجلاء الرعايا الفرنسيين من النيجر»، وفي خطوة لاحقة أيضًا «إجلاء الرعايا الأوروبيين من النيجر» وهذه باختصار هي حقيقة العلاقة والموضوع.
ولكن المستغرب دائمًا هو أنَّ عددًا لا بأس به من أبناء هذه الشعوب المستضعَفة ما زالوا يؤمنون برعاية الغرب وحمايته لهم وحرصه على حقوقهم وحُريَّاتهم، وتفوُّقه عليهم في الأساليب والفكر والعمل، وقَدْ يكُونُ هذا نتيجة لعقود من الإعلام المُوجَّه والذي يرسم صورة مثاليَّة للغرب وكُلِّ ما يُمثِّله وما يحاول تحقيقه لهذه البلدان. وقَدِ استعانوا على ذلك بشراء بعض الذِّمم وتقديم بعض الخدمات لبعض الأشخاص ومحاربة واغتيال النُّخب الوطنيَّة الصادقة مع تاريخها ومصلحة بلدانها.
فها هي القمَّة الإفريقيَّة ـ الروسيَّة وما رشح عَنْها من تصريحات ودراسات تثبت أنَّ إفريقيا التي يدَّعون مساعدتها ترزح تحت نير إرث من نهب ثرواتها وحرمانها من تطوير نفسها وأدواتها كي تبقى مرتعًا لهم ومنبعًا لثروات تصبُّ في صالح بلدانهم هم. وها هو الرئيس الأوغندي يقول إنَّ إفريقيا هي التي تنتج البُن ومع ذلك فإنَّ حصَّتها من إيرادات البُن لا تتجاوز 4% من حجم هذه التجارة. أضف إلى ذلك أنَّ المستعمرين فرضوا على إفريقيا أن تبقَى مصدرًا للموادِّ الخامِّ دُونَ السَّماح لها بتطوير صناعاتها والحصول على القيمة المضافة وهي المجزية فعلًا.
وإذا ما تدارسنا تاريخ شعوبنا التي رزحت تحت نير الاستعمار لعقود في إفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينيَّة نجد أنَّ الوسيلة الأنجع التي ساعدتهم على الاستمرار في هذا النَّهب الممنهج هو اختراقهم لمُجتمعاتنا وشراؤهم البعض، وإغداق بعض من خيرات هذه البلدان على بعض أفرادها؛ كي يكونوا رأس حربة في تخريب أوطانهم ومنعها من التقدُّم والازدهار. ومن المعروف كيف زرع الاستعمار البريطاني والفرنسي أُسُس التفرقة الطائفيَّة والمذهبيَّة وقسَّم الأراضي والشعوب بطريقة يسهل معها إثارة الفِتن وإشعال الاقتتال لأسباب لا تخدم إلَّا العدوَّ نفسه.
ومع أنَّ الاستنتاج يبدو بسيطًا والرؤية تبدو واضحة ومخلَّفات الاستعمار واضحة وضوح الشمس فلَمْ تتمَّ دراسة هذا التاريخ وتوثيقه وتوصيفه بما هو عليه واجتراح الأدوات الحقيقيَّة والواقعيَّة التي تضْمَن عدم استمراره، بل وتعكس التيَّار لصالح هذه الشعوب ومن أجْل خيرها وازدهارها. والسَّبب الأساس في ذلك هو أنَّ مَن نصَّبهم الاستعمار حكَّامًا على شعوبهم لَمْ يؤمنوا بالمؤسَّسات أو بناء الأحزاب والدوَل بل ظلُّوا رعايا لهذا الاستعمار مؤمنين بحمايته لهم ومستسلمين لتفوُّقه عليهم وطالبين رضاه وحُسن تقديره. وحين يحظى شَعب أو دولة بحكومة وطنيَّة تضع مصلحة البلاد فوق كُلِّ اعتبار يكيل لها الإعلام الاستعماري شتَّى أنواع التُّهم ويضع كُلَّ العراقيل الممكِنة في طريق تطوُّرها وتطوير بلادها ويفرض عليها كُلَّ أنواع الحصار؛ كي يُثبتَ للعالَم أنَّ نماذجه فقط وأدواته هي القابلة للحياة والاستمرار والقادرة على الاضطلاع بالمهمة.
إحدى أهم أدوات الاستعمار اليوم ـ بالإضافة إلى سياسة التفريق وإثارة النزاعات والنعرات ـ هي الإعلام المُوجَّه والذي يتكلم بصوت واحد وإن تعدَّدت الأساليب والطُّرق لإيصال الرسالة المبتغاة. وإحدى أهم وسائل التحرُّر اليوم من ربقة هذا الاستعمار هي في خلق إعلام منتمٍ متجذِّر في أرضه ووطنيَّته، ومدرك لأبعاد المعركة وطريقة وأساليب الخوض فيها. فالمعركة اليوم من قِبل كُلِّ الشعوب المستضعَفة تحتاج إلى أمْرَيْنِ أساسيَّيْنِ في متناول اليد ألا وهما تعزيز الانتماء وامتلاك السرديَّة والأساليب والوسائل الإعلاميَّة المُعبِّرة، وإعادة تحرير الأخبار الواردة ممَّن يستهدفنا، ونشر الوعي والفكر الذي يصبُّ في صالح الوطن والمواطنين بعيدًا جدًّا عن الانبهار بالأكاذيب والأقاويل التي تمَّ تعميمها وبثُّها كأدوات فقط لحصد النتائج.
المعركة اليوم ـ بالإضافة إلى كونها معركة اقتصاديَّة وقتالية ـ هي معركة فكريَّة وثقافيَّة وإعلاميَّة، والمُشْكلة أنَّ معظم البلدان التي رزحت تحت نير الاستعمار لا تُولِي النُّخب الفكريَّة والثقافيَّة المكانة التي تستحق، ولا تسمح لها بالدَّور القادرة على أدائه. فقَدْ فرض الاستعمار لُغته وأدواته وثقافته لضمان استمرار هيمنته وسيطرته على هذه الشعوب. وعلَّ الوطن العربي من البلدان القليلة في العالَم الذي حافظ على لُغته العربيَّة إلى حدِّ الآن مع أنَّنا نشهد محاولات جادَّة لإضعاف اللُّغة العربيَّة وتشتيت الوحدة الثقافيَّة والفكريَّة في مسارات كانت دائمًا متكاملة وليست متناحرة، بل اتَّسمت بإغناء بعضها بعضًا ورفْدِ بعضها بعضًا، بَيْنَما يتمُّ اليوم تصويرها على أنَّها في حرب وجود لا بُدَّ من انتصار طرف فيها على آخر.
ها هو الأميركي اليوم يصبُّ كُلَّ قواه لمنع التواصل بَيْنَ الأشقاء في سوريا والعراق؛ لأنَّه يعلم كَمْ يعزِّز هذا التواصل من قوَّة البلدَيْنِ، ويبني قلاعًا لرعاياه في العراق ولبنان ولأدواته أيضًا؛ لأنَّ كُلَّ مبتغاه هو تنفيذ السِّياسات التي تصبُّ في صالحه وصالح الكيان الذي هو أداة له. وها هم المغرضون الطامعون يزرعون النَّار واحتمالات التفجير على الحدود المغربيَّة ـ الجزائريَّة وذلك لاستنزاف البلدَيْنِ ومنعهما من استثمار مواردهما لصالح شعوبهما ومنعهما من التطوُّر والازدهار ومن التآلف والتعاضد لِمَا يمنح ذلك كليهما من قوَّة ومنعة وقدرة على البقاء والتطوُّر. كما يزرعون الفتنة بَيْنَ العراق والكويت وحيثما تمكَّنوا من فعل ذلك.
بعد كُلِّ هذا التاريخ، وبعد ما تعرَّضت له شعوبنا، أصبحت المعادلة واضحة جدًّا، وكُلُّ ما نحتاجه هو أن نعملَ بمقتضياتها وهي أنَّ الغرب حريص على نهب ثرواتنا وتمزيق بلداننا، وأنَّ كُلَّ ادِّعاءاته بالحرص على الإنسان وحقوقه هي مجرَّد غطاء لاستمراره في تضليل الشعوب، وكُلُّ مساعداته وقروضه هي وبال على هذه الشعوب، وأنَّ خير ما تفعله اليوم بلدان إفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينيَّة هو إسراع الخُطى للتعاون فيما بَيْنَها وتحصين بلدانها من الداخل ونفض غبار الأوهام التي زرعها الغرب في أذهانهم مرَّة وإلى الأبد.
أ.د. بثينة شعبان
كاتبة سورية
المصدر: جريدة الوطن
إقرأ أيضاً:
ماكرون يغضب أفريقيا ويجدد السجال بشأن حقبة الاستعمار الفرنسي للقارة السمراء
أثارت تصريحات أدلى بها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، قبل أيام أمام سفراء بلاده بمؤتمر سنوي حول السياسة الخارجية الفرنسية لعام 2025، غضب إفريقيا وتسببت في تجدد الجدل بشأن حقبة الاستعمار الفرنسي للقارة السمراء.
فقد قال ماكرون، إن بعض بلدان الساحل الإفريقي "ما كان لأي منها أن تصبح دولة ذات سيادة لولا نشر الجيش الفرنسي في هذه المنطقة".
وأشار إلى أن بلاده "كانت على حق عند التدخل عام 2013 لمحاربة المتطرفين، حتى لو نأت هذه الدول بنفسها الآن عن الدعم العسكري الفرنسي".
وأضاف ساخرا: "أعتقد أنهم نسوا أن يشكرونا، ولكن لا بأس، سيأتي ذلك في الوقت المناسب"، فيما نفى أن تكون فرنسا تتراجع في إفريقيا "بل تعمل على إعادة تنظيم نفسها فحسب".
ورفض ماكرون ما يجري الحديث عنه من أن فرنسا طردت من إفريقيا، مضيفا أن باريس اقترحت على رؤساء الدول الإفريقية إعادة تنظيم الوجود العسكري الفرنسي و"بما أننا مهذبون للغاية، فقد سمحنا لهم بالأولوية في الإعلان"، بحسب قوله.
وأوضح أن فرنسا غادرت المنطقة "لأنه كانت هناك انقلابات، ولأننا كنا هناك بناء على طلب دول ذات سيادة. ومنذ اللحظة التي حدثت فيها الانقلابات، عندما قال الناس إن أولويتنا لم تعد هي الحرب ضد الإرهاب، لم يعد لفرنسا مكانها".
غضب في القارة
تصريحات الرئيس الفرنسي هذه أثارت غضبا واسعا في القارة الإفريقية، وأعادت السجال مجددا بشأن حقبة الاستعمار الفرنسي في القارة.
وهاجم قادة و مسؤولين أفارقة تصريحات الرئيس الفرنسي ووصفوها بالمستفزة، فيما تفاعل الجدل بشكل واسع على منصات التواصل الاجتماعي.
واستذكر عدد من النشطاء الأعمال التي قامت بها فرنسا إبان حقبة استعمارها لإفريقيا، ساخرين من تصريحات ماكرون.
"السيادة غير قابلة للتفاوض"
وكان رئيس الحكومة السنغالية عثمان سونكو، أول مسؤول إفريقي هاجم بقوة تصريحات الرئيس الفرنسي، قبل أن تتوالى الردود الغاضبة من أكثر من بلد إفريقي.
وقال رئيس الحكومة السنغالية، منتقدا ماكرون: "إنه لو لم يتم نشر الجنود الأفارقة خلال الحرب العالمية الثانية للدفاع عن فرنسا، لربما كانت اليوم ألمانية".
وأضاف في بيان: "بأن سيادة السنغال غير قابلة للتفاوض وإن القرار المتعلق بالقواعد العسكرية هو إرادتنا السيادية المستقلة".
ونفى سونكو أن تكون بلاده قد دخلت "في أي مناقشات أو مفاوضات سابقة مع فرنسا بشأن انسحاب القواعد العسكرية الفرنسية". واعتبر أن القول إنه "لا دولة إفريقية كانت ستتمتع بالسيادة من دون فرنسا ليس أمرا خاطئا فحسب، بل إنه ينطوي على عدم احترام عميق للتاريخ".
"فرنسا لم تكن عامل استقرار"
شدد رئيس الحكومة السنغالية، على أن فرنسا "لم تكن دائما عامل استقرار في إفريقيا، بل كانت لزعزعة الاستقرار في ليبيا، من بين أمور أخرى، تداعيات كارثية على منطقة الساحل وغرب إفريقيا".
وأوضح أنه "إذا كانت فرنسا قد نالت حريتها، فإن ذلك يرجع أيضا إلى آلاف الجنود الأفارقة، الذين غالبا ما تم تجنيدهم بالقوة، وسفكت دماؤهم للدفاع عن أمة تقلل اليوم من مساهمتهم"، مؤكدا تجديد السنغال "التزامها برسم طريقها الخاص، دون أي تدخل، لضمان أمنها وتنميتها".
"ازدراء إفريقيا"
من جهته وصف وزير الخارجية التشادي، عبد الرحمن كلام الله، تصريحات الرئيس الفرنسي بأنها: "موقف ازدراء تجاه إفريقيا والأفارقة".
وقال في بيان نشرته الخارجية التشادية عبر حسابها على فيسبوك، "التاريخ يشهد على أن إفريقيا بما في ذلك اتشاد، لعبت دورا حاسما في تحرير فرنسا أثناء الحربين العالميتين، وهي الحقيقة التي لم تعترف بها فرنسا قط".
وأضاف "تم التقليل من أهمية التضحيات الهائلة التي قدمها الجنود الأفارقة دفاعا عن الحرية، ولم يتم التعبير عن أي شكر ذي معنى".
وقال إنه "يتعين على القادة الفرنسيين أن يتعلموا احترام الشعوب الإفريقية والاعتراف بقيمة تضحياتهم".
وتابع: "فرنسا لم تقم قط بتجهيز الجيش اتشادي بشكل كبير، ولم تساهم في تطويره البنيوي، فخلال 60 عاما من الوجود الفرنسي، الذي شهد الحروب الأهلية والتمردات وعدم الاستقرار السياسي لفترة طويلة، كانت المساهمة الفرنسية في كثير من الأحيان مقتصرة على مصالحها الاستراتيجية الخاصة، دون أي أثر حقيقي دائم للتنمية لصالح الشعب اتشادي".
من جهتها وصفت وزارة الخارجية في بوركينافاسو، تصريحات الرئيس الفرنسي بأنها "تسيئ إلى إفريقيا وتتعارض مع الحقائق التاريخية".
رفض شعبي
وعلى مواقع التواصل الاجتماعي ارتفعت الأصوات الغاضبة من تصريحات ماكرون. وفي هذا السياق كتب الناشط محمد آدم حسين: "يقول إيمانويل ماكرون أنّ الأفارقة أنكروا الجميل وأن طرد القواعد العسكرية الفرنسية من أفريقيا لم يكن كذلك إنما من تدبير فرنسا، كل هذا لأن بعض الأُسود من القادة الأفارقة، قالوا علينا أن نضمن السيادة الكاملة في أفريقيا".
وتابع في منشور عبر صفحته على فيسبوك: "نحن الشعب الأفريقي نقول: عذراً يا ماكرون نحن لا نريد قواعد عسكرية أجنبية في أفريقيا، وستكون أفريقيا قارة مفتوحة لجميع الدول الراغبة في الاستثمار أو تحقيق شراكة حقيقية ذات منفعة مشتركة".
من جهته كتب النائب في البرلمان الموريتاني محمد الأمين سيدي مولود، معلقا على السجال بشأن تصريحات ماكرون: "السيادة تستوجب الندية والمعاملة بالمثل وليس التبعية أو الرضوخ أو الهامشية".
وكتب الدكتور إياد قنيبي معلقا على تصريحات الرئيس الفرنسي: "مليون ونصف مليون مسلم قتلتهم فرنسا خلال ثورة التحرير الجزائرية ولا تزال تحتفظ بجماجم كثير منهم بمتحف الجماجم في باريس، مجزرة الدار البيضاء في 1907: التي قتلت فيها فرنسا حوالي 6 آلاف مغربي، مجزرة تازركة بتونس في 1952 : اغتصبوا فيها النساء ودهسوا الرضّع".
وتابع: "منذ سنة 1961 تحتفظ فرنسا بالاحتياطات المحلية لـ14 دولة أفريقية من بينها مالي والنيجر والسنغال وتشاد، وبذلك تحقق الخزانة الفرنسية ما يعادل 500 مليار دولار من الأرباح والعوائد السنوية من أفريقيا، بينما تعيش هذه الدول في فقر ومرض وجوع".
نفوذ باريس
وتزايدت خلال العام المنصرم، مطالبات القادة الأفارقة للقوات الفرنسية بمغادرة بلادهم، فيما يشبه انتكاسة لنفوذ باريس في أفريقيا التي شكّلت لأكثر من قرنين محور السياسة الخارجية والحضور العسكري الفرنسي خارج الحدود.
ويرى متابعون أن الخروج العسكري الفرنسي من أفريقيا ستكون له تداعيات على حجم نفوذها في القارة، خصوصا في ظل ظهور منافسين أقوياء لباريس في شمال وغرب القارة، مثل الصين وروسيا.
وظلّت أفريقيا، لعقود، المزوِّد الرئيسي لفرنسا بالطاقة واليورانيوم والمعادن، إذ تضخّ دول أفريقيّة مثل النيجر ومالي وتشاد 25 في المئة من احتياجات المفاعلات النووية التي تعتمدها فرنسا للتزود بالكهرباء.
كما تضع فرنسا يدها على العديد من ثروات القارة عن طريق الشركات الفرنسية العملاقة. ووفق تقديرات بعض الخبراء، فإن 80 في المئة من كل ما يتم استخراجه من الموارد والثروات المعدنية في أفريقيا يصدّر بإشراف فرنسي نحو القارات الأخرى.