يتحدث (عوفاديا هليل) بحزن وانكسار كبير وهو يروي قصته قائلا: "في طريق هجرتنا الأخيرة من شبوة إلى عدن توقفت شاحنتنا في منتصف الطريق في منطقة معادية عشية العام الجديد، وفجأة هاجمنا اللصوص، وصادروا أموالنا ومجوهراتنا وطعامنا، وحتى ملابس العيد، وتركونا في الصحراء نتنهد.. عراة ومعوزين ولم ننم طوال اليوم، ومن الصعب أن أصف بالكلمات كيف كنا على وشك الصلاة على شاطئ البحر، نساء ورجال يبكون ومنكسري القلوب، لكننا أقمنا الصلاة ، وجلسنا في أماكننا في انتظار إعلان الله .

.."

 

عند البحث والتنقيب عن تفاصيل المجتمع اليهودي في حبان لا بد أن يصيبك الإحباط من شحة المعلومات المتوفرة حول مجموعة إثنية مثيرة للاهتمام، عاشت وتفاعلت مع المجتمع الشبواني لفترة طويلة من الزمن في مدينة حبان التاريخية. وقبل أن نذهب بعيدا في تفاصيل حياتها، وهجرتها علينا أن نفهم طبيعة وتاريخ هذا المكان الموغل في القدم

 

مدينة حبان التاريخية

 

حبان مديرية تقع في الجزء الجنوبي الشرقي من محافظة شبوة واشتق اسمها من مدينة حبان التاريخية، وحبان اسم ورد في النقوش العربية الجنوبية (ح ب ن)في سياق النقش السبئي الشهير بنقش النصر الكبير للمكرب السبئي كرب ايل وتر في القرن السابع قبل الميلاد، وتشير المصادر التاريخية أن حبان هو اسم لقبيلة كانت تسيطر على تلك المنطقة إبان حكم المكرب السبئي.

 

 كانت حبان تقع على مفترق طرق وتشكل محطة مهمة على طريق القوافل التجارية القادمة من الموانئ البحرية جنوباً مثل ميناء قنا التاريخي والذاهبة إلى الممالك اليمنية القديمة مثل قتبان وسبأ ومعين , وفي فترة متأخرة نوعا ما خضعت حبان لحكم الدولة الطاهرية في القرن الخامس عشر الميلادي؛ ومن ثم أصبحت فيما بعد مركزاً لسلطنة الواحدي التي أفل نجمها في سبعينيات القرن المنصرم.

 

تعتبر حبان من أهم المدن التاريخية اليمنية القديمة التي تميزت بطابع إسلامي جميل وطراز عمراني لافت، وكانت بطبيعة الحال مقصدا لطلبة العلم والعلماء من مناطق كثيرة في اليمن بسبب الدور الثقافي والعلمي الذي كانت تقوم به، ويمكننا أن نرى آثار هذا الدور العلمي في الأربطة الدينية والمراكز العلمية والمكتبات التي لا تزال بعض آثارها موجودة إلى اليوم، ويأتي في مقدمة هذه المظاهر الدينية جامع حبان الذي تأسس قبل ألف عام، وتقول بعض الروايات أن في هذا الجامع قد ُدعي للخليفة الأموي عمر بن عبدالعزيز.

 

الوجود اليهودي في اليمن

 

الفصل الأول في قصة يهود حبان يمكننا أن نصفه بالمبهم إلى حد ما، ولا يمكن للمتتبع أن يصل إلى إجابة شافية مكتملة , مثله مثل بداية الوجود اليهودي في اليمن بشكل عام ولكي نفهم أكثر ونجيب قدر الإمكان عن سؤال من أين جاء يهود حبان ؟علينا أن نعود إلى الوراء كثيرا فبحسب كاميليا أبو جبل في كتابها (يهود اليمن) ثمة ثلاث روايات شهيرة حول بداية الوجود اليهودي في اليمن: أولها أن يهود اليمن ينتمون إلى أولئك الذين رافقوا ملكة سبأ بعد عودتها من زيارة الملك سليمان مثل ما جاء في سفر الملوك الإصحاح العاشر، وهناك من يعتقد أن بداية وجودهم كان في أعقاب خراب الهيكل، وثمة رواية لابن هشام الحميري في (السيرة النبوية لابن هشام) يعتقد فيها أن بداية وجودهم يعود إلى عصر ملك حمير تبان أسعد الذي تشير الروايات أنه مر خلال إحدى غزواته بيثرب، فأعجب بحبران من أحبار اليهود، واتبع دينهما وأخذهما معه إلى اليمن، وأمر قومه باتباعهم.

 

أما بالنسبة ليهود حبان فأكثر المصادر سواء العربية أو اليهودية تقودنا إلى سردية تاريخية قديمة تقول إن السلطان الواحدي في حبان كان يتعرض إلى حصار من قبل السلطان الكثيري بدر أبو طويرق في منتصف القرن السادس عشر، حتى نفذ الماء من الجابية، فأشار عليه اليهودي الحباني سليمان الحكيم بفكرة لإنقاذه من هذا الحصار مقابل حصوله على أرض خاصة باليهود في حبان وكانت الفكرة مثل ما يتحدث عنها المؤرخ والباحث علي الشبلي في كتابه ثمار المطالعة: أن يطلب السلطان الواحدي من العمال جمع الطين من الجابية وترميم المصنعة، حتى يوهم الكثيري بأن لديه ما يكفي من الماء للشرب فترة طويلة، وهنالك سردية يهودية تعزز هذه السردية أيضا وتضيف عليها: أن سليمان الحكيم أشار على السلطان أيضا أن يرسل اثنين من الفرسان ليزودوا أبو طويرق بالماء والخضرة ليظهروا له قوة السلطان وبطولته، وفعلا نجحت الفكرة، ويئس السلطان الكثيري من هذا الحصار الطويل وغادر منكسرا، فجازى السلطان اليهودي، وأعطاه أرضا خاصة لهم كان قد سكنها من قبل قوم من بنو عبدالواحد فانقرضوا.

 

حياة المجتمع اليهودي في حبان

 

عاش يهود حبان، واستقروا في حيهم الخاص بالقرب من قصر السلطان في بيوت تتكون من أربعة إلى خمسة طوابق، وكونوا مجتمعاً متكاملاً خاصاً بهم، واتسمت علاقتهم بجيرانهم المسلمين بالود والتسامح والتبادل التجاري والمعرفي، وبلغ أقصى عدد لهم ما يقارب 450 شخصاً وشكلوا نصف سكان المدينة تقريبا، وتوزعوا على خمس عوائل رئيسية: مطوف، هليل، شماخ، ميفاي وعداني.

 

ومن المُلاحظ أنهم تميزوا باختلافهم وتفردهم عن يهود اليمن الآخرين، ولعل هذا الاختلاف يعود إلى أصل عرقي مختلف، وكانوا بحسب الروايات اليهودية يطلقون شعورهم ويرتدون ملابس تشبه ملابس جيرانهم المسلمين ولا تختلف عنها كثيرا وكذلك الحال مع نسائهم فقد كن يرتدين ملابس عربية، ويتزين بالكثير من المجوهرات المصنوعة بأيديهن كما كان لهم نمط معيشي خاص بهم في الحديث والطعام ومختلف العادات اليومية

 

هؤلاء اليهود الحبانيون بتوصيف الكاتب يوسف عشار " توقف الزمن بالنسبة لهم، وتنطبق عليهم أوصاف الشخصيات التوراتية التي تتجنب القتال، وتعود من سباق التاريخ" ويؤكد هذا الكلام جوزيف هاليفي قائلا: المظهر الخارجي ليهود حبان يميزهم عن جميع أسباط إسرائيل، فلا يمكنك العثور على مجتمع يهودي يشبه هذا المجتمع في أسلوب حياته. وتشير هذه الحقيقة إلى قدم هذا المجتمع وعزلته عن بقية مجتمعات إسرائيل لأجيال عديدة.

 

ولكي نفهم أكثر هذا المجتمع الذي توقف الزمن بالنسبة له علينا أن نتجول في أزقة حافة اليهود القديمة التي أعطاهم إياها السلطان، وكانت منطقة تقع تحت قصر السلطان (المصنعة) مباشرة، وتشرف على كريف الماء، وتضم حوالي 50 بيتاً، وتحتوي على معبدين رئيسيين هما معبد معاتوف ومعبد هليل الذين كان يهود حبان يؤدون صلاة يوم السبت فيهما

 

وإذا ما واصلنا السير سنرى المقبرة الخاصة بهم وكذلك الدكاكين الصغيرة التي كانوا يمارسون فيها حرفهم اليدوية مثل دبغ الجلود والترقيع وصياغة الفضة وصناعة الأدوات الزراعية والأسلحة البيضاء حيث برعوا في هذه الصناعة بشكل كبير ويمكننا أن نرى بجلاء آثار هذه البراعة في مظهر النساء اليهوديات خلال تلك الفترة، وبقدر ما برعوا في الحرف اليدوية، فقد كانت لهم بعض المشاركات في القتال بجانب جيرانهم العرب، وخاضوا معهم العديد من الغارات ولا بد أن السلطان الواحدي كان يعتمد عليهم في بعض الأمور القتالية؛ نظرا لقوة ومتانة أجسامهم وتفوقهم البدني الواضح على جيرانهم مثل ما تقول بعض الروايات التاريخية.

 

ووفقاً للباحث محمد الحوت في كتابه (ما جادت به الأزمان من أخبار منطقة حبان) فقد كان اليهود يتداخلون مع الناس في البيع والشراء، وكانوا يتنقلون بين مختلف المناطق المجاورة وقلما يتعرض لهم أحد بالأذى لمعرفة الجميع أن لهم حق الذمة مقابل ما يدفعونه للسلطان من جزية مقابل الرعاية والحماية.

 

وإذا أردنا أن نكمل تتبعنا لآثار هذا المجتمع اليهودي فعلينا أن نواصل السير ونترك مدينة حبان خلفنا، ونتجه نحو الشمال لنصل إلى شعب الشقب وهو واد يقع بين سلسلتين جبليتين - والمتعارف عليه في اللهجة العامية أن (الشقب) هو المنحوس -, فسنجد نقوشاً وكتابات عبرية مبعثرة على السلسلة الجبلية التي تقع على يمين الوادي، وللدكتور عبدالله مكياش بحث مهم عن هذه النقوش التي يرى من خلال دراسته لها أنها نقوش تذكارية تبدأ بصيغة ضمير المتكلم، ويذكر فيها الكاتب اسمه واسم أبيه وجده ويمكن إرجاع تاريخ هذه النقوش إلى النصف الأول من القرن العشرين، ويعتقد مكياش أن سبب انتشار النقوش في هذا الوادي تعود إلى أن هذا المكان هو آخر حد لا يمكن لليهودي المقيم في حبان أن يتجاوزه في يوم السبت وهو يوم الراحة، وفي النهاية توصل الباحث إلى خلاصة أن يهود حبان مارسو شعائرهم الدينية بحرية، وعاشوا مطمئنين على حياتهم وأموالهم ودينهم في كنف مجتمع عرف بمبدأ التسامح.

 

الهجرة من حبان .. على أجنحة النسور

 

بالعودة إلى قصة الهجرة من شبوة والتي يرويها عوفاديا هليل في لقاء صحفي معه يجب علينا أن نُعرج قبل ذلك سريعا على بداية الهجرة ومسبباتها، فالعملية معقدة وطويلة، وسميت بعملية ( بساط الريح) أو (على أجنحة النسور),أشرفت عليها ومولتها الوكالة اليهودية، ونفذتها الجمعية اليهودية في عدن بحسب وثائق الأرشيف البريطاني , حيث تم ترحيل نحو 50 ألف يهودي - تارة بالترغيب وأخرى بالترهيب- من مختلف مناطق اليمن، ومن ضمنهم يهود حبان واستمرت العملية قرابة العامين، وكلفت قرابة السبعة ملايين دولار وكان للحاكم البريطاني في عدن وأتباعه سلاطين المحميات والإمام أحمد بن يحيى دور كبير في تسهيل هذه العملية وفقا لمساعد وزير الخارجية البريطاني آنذاك مثلما ذكر في مذكراته، وللعملية أهداف كثيرة من أهمها الاستيطان في فلسطين، إضافة إلى جانب آخر مهم وهو الاستفادة من يهود اليمن في الأعمال الزراعية بعد عزوف يهود الأشكناز وترفعهم عن هذه الأعمال

 

يروي عوفاديا هليل قصة وصول خبر الهجرة إلى فلسطين المحتلة بينما كان هو خارج مدينة حبان قائلا: جاء إلينا خبر الصعود إلى إسرائيل متأخرا لسبب ما، فلم ننفس عن فرحتنا، لأننا شعرنا بعدم اليقين؛ ولذلك أرسلنا ثلاثة رسل موثوقين من بيننا ليسألوا ويؤكدوا الخبر السار أخيرًا. وصل الرسل إلى مدينة "حبان" ووجدوا أن اليهود جميعهم كانوا جالسين بالفعل مزدحمين في الشاحنات، على وشك الذهاب إلى عدن، وعلى الفور رجعوا إلينا، وأخبرونا أن الإشاعة صحيحة، على الفور أخذنا أغراضنا ومشاعر الفرح التي غمرتنا لا توصف.)

 

يكمل عوفاديا قصته: استأجرنا أحد الوثنيين المخلصين مقابل ستين ريالاً حتى يتمكن من تهريبنا عبر طرق متعرجة؛ ومن ثم جاءت شاحنة لتأخذنا من معسكرنا في ( لهوتا) ، طبعاً رفضنا مخالفة السبت، وتأخرت الرحلة حتى يوم الأحد، ومن هناك توجهنا نحو مدينة (راشوم) حيث وصلنا عشية رأس السنة الجديدة.

 

يستمر عوفاديا في سرد قصته وما تعرضوا له من قطاع الطرق مثلما ورد في بداية المقال، ويصل إلى الوقت الذي وصل فيه الخبر إلى عدن حيث أُرْسِل جنود بريطانيين لحراستهم وتأمين طريقهم حتى وصولهم إلى (معسكر الخلاص) على حد قوله، وبعد ذلك إرسالهم عبر الطائرات إلى فلسطين المحتلة واستقرارهم في "عين شيمر".

 

واقع يهود حبان اليوم

 

خلال بحثي حول مجتمع يهود حبان تعرفت إلى سِغِيف وهو باحث مهتم بالتاريخ والثقافة ومن أصول شبوانيه حيث ولد والده ووالدته في مدينة حبان وترعرعوا فيها ولديه علاقة جيدة وتصالح كبير مع تاريخ أجداده وسيكون سعيداً إذا ما سنحت له الفرصة في يوم من الأيام لزيارة مدينة حبان ,حدثني سِغِيف بشكل مفصل عن كيف تحافظ (الجالية الحَبّانية) على عاداتها ولهجتها وعادات الزواج التي تختلف عن بقية اليهود، كذلك طريقتهم وأسلوبهم في اللبس، والتي تظهر جلية في الأعياد اليهودية المختلفة، إضافة إلى الأطباق الشعبية التي يتم إعدادها وطهيها إلى اليوم بالطريقة الحبانية في بلدتهم الصغيرة بركت والتي تعتبر المركز الرئيسي لهم، لكن لم يعد الكثير يتمركزون فيها اليوم، بل توزعوا على مناطق مختلفة.

 

يعمل سغيف على مشروع يوثق جميع شهادات الشيوخ الذين لا يزالون على قيد الحياة، حيث يقوم بتصويرهم وتسجيلهم وعند اكتمال المشروع سيتم نشره في الإعلام فهؤلاء الحبانيون بحسب وصفه أحبوا موطنهم، وكانوا في مكان جيد. وكانت لديهم علاقة جيدة مع اليمنيين. لكنهم دائمًا حلموا باليوم الذي يستطيعون فيه العودة إلى وطنهم إسرائيل.


المصدر: الموقع بوست

كلمات دلالية: شبوة حبان يهود اليمن اليمن هذا المجتمع الیهودی فی یهود الیمن علینا أن فی الیمن فی حبان

إقرأ أيضاً:

مجلس خبراء الدولة

23 يوليو 1970م.. يومٌ فارقٌ في الأمة العُمانية، فيه بدأ السلطان قابوس بن سعيد طيب الله ثراه (ت:2020م) عهداً جديداً لعُمان، فقاد نهضة شاملة، ونقل البلاد إلى العصر الحديث، بإنشاء دولة ذات مؤسسات مدنية يحكمها القانون. اشتركت فيها أجهزة الحكومة مع الشعب في مسيرة بناء سادت ربوع الوطن، فأوجدت الأنظمة الحديثة التي يحتاج إليها الإنسان كالتعليم والصحة والإسكان والمواصلات، مع الأمن المستقر داخلياً، والمكانة المقدّرة خارجياً، حتى عمّت الألفة والتعايش مكونات المجتمع، وحج إليها العالم لحل صراعاته السياسية.

وكما تطورت الدولة في أجهزتها، وفي مشاركة المواطنين لحكومتهم في إدارتها؛ حصل تطور ملحوظ في إسهام المواطن في تقديم رؤيته لها، عبر أربعة حقول: المجالس السياسية والخدمية والوظيفية ومكاتب مستشار جلالة السلطان، وقد تطورت هذه المجالس بما يواكب المرحلة التي يمر بها المجتمع والدولة:

أولاً: المجالس ذات الطبيعة السياسية:

- بدأت الدولة بإنشاء مجلس الزراعة والأسماك والصناعة، فصدر به مرسوم سلطاني برقم (19/ 79) بتاريخ 21 أبريل 1979م، وكان الغرض منه الاهتمام بالجانب الاقتصادي، بإشراك المواطنين في رسم وتوجيه اقتصاد البلاد، بغية تحقيق الرفاهية الاقتصادية للمواطنين. الاقتصاد هو الأساس الذي تقوم عليه الدول، وهو الهاجس الذي يقلق الحكومات والمجتمعات والأفراد على حد سواء، فكان من المهم الابتداء به.

- إنشاء مجلس استشاري للدولة.. صدر بالمرسوم سلطاني برقم (84/ 81) في 18 أكتوبر 1981م، ملغياً مجلس الزراعة والأسماك والصناعة، دام عقداً كاملاً، وهي مرحلة متقدمة لمشاركة المواطنين، حيث توسعت لتشمل شرائح عديدة؛ منهم: رجال الأعمال والمراكز الاجتماعية، وكبار مسؤولي الدولة الذين أحيلوا إلى التقاعد من الأجهزة المدنية والعسكرية والأمنية، والخبرات العلمية والعملية. وكان هذا المجلس يُعيّن أعضاؤه من قِبَل جلالة السلطان بمرسوم سلطاني.

- توقفت آلية المجلس الاستشاري لتعود منتصف التسعينات الميلادية بمجلس الدولة، حيث صدر مرسوم سلطاني رقم (86/ 97) بإنشاء مجلس عمان؛ متكوناً من مجلسَي الدولة والشورى في 16 ديسمبر 1997م. لكن هذا التوقف الذي امتد أكثر من خمس سنوات لم يحدث فراغاً في مشاركة المواطنين، فقد شغله مجلس الشورى.

- إنشاء مجلس الشورى.. بالمرسوم السلطاني رقم (94/ 91) في 12 نوفمبر 1991م. جاء إنشاؤه بداية تسعينات القرن الماضي بعد اكتمال بُنية مؤسسات الدولة، وفي ظل التوجه العالمي بتوسعة نطاق الديمقراطية. ورد في تسبيب المرسوم بأنه (رغبة في توسيع قاعدة الاختيار بحيث تشمل تمثيل مختلف ولايات السلطنة، وبما يحقق المشاركة الفعلية للمواطنين في خدمة وطنهم ومجتمعاتهم المحلية).

ثانياً: المجالس ذات الطبيعة الخدمية:

- رأت الدولة.. بأن هناك حاجة لتلبية مطالب المجتمع عبر مجالس تُعنى بخدمته، وتعمل على الربط بينه وبين الحكومة خدمياً، وذلك؛ بعد أن وجدت اتجاه المواطنين إلى أعضاء مجلس الشورى لتلبية الخدمات الاجتماعية أكثر من التعامل مع عضو المجلس بما وضع له من اختصاصات. أنشئت المجالس البلدية بالمرسوم السلطاني رقم (116/ 2011) في 26 أكتوبر 2011م. وبخلاف مجلسي الدولة والشورى اللذين لهما صفتهما الاعتبارية المستقلة منضوية تحت مجلس عُمان، ويرأسه جلالة السلطان عاهل البلاد؛ فإن المجالس البلدية تتبع وزارة الداخلية ممثلة في المحافظين، أو مكاتب المحافظين في مسقط وظفار ومسندم.

ثالثاً: المجالس واللجان الوظيفية؛ منها: مجلس الدفاع، ومجلس الأمن الوطني، ومجلس محافظي البنك المركزي العُماني، والمجلس الأعلى للقضاء، والمجلس العُماني للاختصاصات الطبية، واللجنة العُمانية لحقوق الإنسان، واللجنة الوطنية العُمانية للتربية والثقافة والعلوم. وهذه المجالس واللجان ذات الطبيعة الوظيفية محددة بالمجالات المسندة إليها من الحكومة.

رابعاً: المكاتب الخاصة بمستشاري جلالة السلطان.. وهي التي أنشأها السلطان قابوس بن سعيد؛ منها: مكتب المستشار الخاص للشؤون الدينية والتاريخية، ومكتب مستشار جلالة السلطان للشؤون الثقافية، ومكتب المستشار الخاص لجلالة السلطان للشؤون الاقتصادية، ومكتب مستشار حماية البيئة. وهي مكاتب ظرفية؛ تتعلق برؤية السلطان قابوس في إدارة الدولة.

وبعد؛ ففي ظل النهضة المتجددة التي يقودها مولانا جلالة السلطان هيثم بن طارق أدام الله مجده، وفي إطار «رؤية عمان 2040».. أقترح أن تنشئ الدولة مجلساً باسم «مجلس خبراء الدولة».

فالدولة.. محتاجة في مرحلتها الراهنة أن تستفيد من عقول تفكر لمستقبل أفضل، فالمجالس.. التي أنشأتها الدولة؛ مهمة وأدت -ولا تزال القائمة منها تؤدي- الدور المطلوب منها، لكنها تُعنى باستثمار الموجود -إن صحت العبارة- أي ما تقتضيه حركة المجتمع ويفرزه الزمن من حوادث، ولم يقم حتى الآن مجلس لصناعة الخبراء المختصين في الحقول التي تحتاج إليها الدولة، خاصةً؛ في مرحلتها القادمة. ولتشخيص الموضوع أكثر، فنحن في عمان؛ لا يوجد لدينا مراجع متخصصون، فلا يوجد فلاسفة في القضايا العقلية، ولا مفكرون في الشأن الديني، ولا علماء في الطاقة، ولا مبرمجون في التقنية، ولا فقهاء في القانون، ولا نقّاد في الأدب.. إلخ. وهذا أمر متفهّم في ظل بناء دولة حديثة من الصفر، بيد أنه حان الحين لأنْ تتجه دولتنا المتجددة لصناعة الخبراء.

عام 2015م.. لمّا كنت رئيساً للجمعية العُمانية للكُتّاب والأدباء كانت لنا محاولة لـ«صناعة المختصين»، وطفقتُ أبحث عمّن يتبنى الفكرة، ومن المؤسسات الحكومية التي تواصلتُ معها حينذاك وزارة التعليم العالي، فرحبوا بالفكرة، وتشكلت لجنة برئاسة مسؤول بدرجة مدير عام، وبدأنا نفكر عملياً حول الموضوع. فحددنا عدة مجالات؛ تتعلق بالفكر والأدب والعلوم، من خلال تنفيذ برنامج يعمل على تهيئة متخصصين فيها، بتكوينهم علمياً وفكرياً وعملياً، ليكونوا مراجع على مستوى الوطن في تخصصاتهم، كل مجموعة قد يستغرق إعدادها عشر سنوات. ولكن اللجنة توقفت، لأسباب لم أعرفها.

توقفت تلك المحاولة.. ولكن الفكرة استمرت تشغل بالي، ولمّا أسسنا مركز ابن بركة الثقافي بولاية بَهلا، جعلنا من مهامه صناعة المختصين؛ وذلك بإرسال الطلبة المختارين للحصول على الدراسات العليا، وتمكينهم من البحث، ودعم مشروعاتهم العلمية. بيد أن مشروع المركز توقف عندما ضربت العالم جائحة كورونا «كوفيد19». ثم إني جعلت الفكرة من المهام التي سيقوم بها المنتدى الأدبي في مراحل تطوره، وقد بدأنا بالفعل بتشجيع الباحثين على مجالات التخصص.

كانت تلك محاولات متواضعة.. إلا أنها غرست لديّ القناعة بضرورة متابعة طرح الفكرة رجاء أن تجد لها سبيلاً إلى التحقق على أرض الواقع. واليوم.. ونهضتنا المتجددة تدخل عامها الخامس بقيادة جلالة السلطان هيثم بن طارق أعزه الله.. أطرح الموضوع بصورة أوسع وعلى نطاق أكبر من صنع القرار، فأقترح أن يُنشأ مجلس باسم «مجلس خبراء الدولة»، يُعنى بمختلف الحقول العلمية التي يحتاج إليها الوطن في مستقبله.

المجلس.. ينبغي أن يجمع تحت مظلته كل العلوم التي تحتاج إليها البلاد؛ فالمتطلبات كثيرة والتحديات عميقة والمفاجآت واردة، إنه «العقل» الذي يفكر للدولة والمجتمع؛ حاضراً ومستقبلاً، ويعمل على صناعة العقول المتخصصة في كل المجالات كالفلسفة والدين والفكر والأدب وعلم النفس وعلم الاجتماع والطاقة والذكاء الاصطناعي، ويُوِجد مراجع متمكنة تثبت وجودها علمياً.

من مهام المجلس: الإنتاج المعرفي، وتقييم المنجزات العلمية والفكرية، وإصدار الدراسات الرصينة، وتقديم الاستشارات لمختلف مؤسسات الدولة، وتحليل الأفكار التي تسود المجتمع، وصناعة جيل من المختصين، والمشاركة في الدراسات على المستوى العالمي، كما أنه سيخلق قوة ناعمة لسلطنة عُمان عالمياً، ويوجد جذباً استثمارياً وسياحياً.

مهام كثيرة ستنبثق عن «مجلس خبراء الدولة»، ومشروعات كبيرة ستطرح، فالبلاد بحاجة إليه في تحولاتها القادمة، وإنما على الحكومة أن تشرع في تأسيسه وفقاً لدراسة موضوعية وعملية، وأقترح أن يكون المجلس بإشراف من قِبَل مولانا جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم حفظه الله.

مقالات مشابهة

  • قصة العملات الافتراضية من أين بدأت.. وكيف استغلها النصابون؟
  • عمليات كتائب القسام في اليوم الـ290 من "طوفان الأقصى"
  • اليوم الـ 290.. القسام يواصل التصدي للعدوان
  • مجلس خبراء الدولة
  • المقاومة الفلسطينية تفجر نفقاً بقوات العدو وتشتبك مع قوة أخرى داخل مبنى في رفح
  • فصائل فلسطينية: قوة إسرائيلية بين قتيل وجريح خلال اشتباكات في حي تل السلطان
  • فيتامين E..ما هي فوائده وكيف يحمي من الأمراض؟
  • أين أخفق الغرب وماذا طلبت السعودية وكيف تستعدّ صنعاء؟ أيّ «أنصار الله» تقاتلون؟
  • متى ظهرت في العراق ولماذا تلاحق أمنياً.. تفاصيل جديدة حول جماعة القربان
  • ما الأهداف التي ضربتها إسرائيل باليمن.. ولماذا؟