إبراهيم بن عبد العزيز الزعبي

 

يقف العقل الإنساني مواقف مُختلفة ومتباينة أمام مسألة البرهنة على وجود الله تبارك وتعالى؛ حيث إنَّ جل هذه المواقف تنبني على جزئية واحدة وردت بالتنزيل الحكيم، وهي تقوم على أساس النظر والبحث بالآثار المشخصة من خلال حواسنا، ثم إخضاع هذا التشخيص لجملة من العمليات والتفكير التي من شأنها أن تُحدد المؤثر الذي نتجت عنه هذه الآثار.

وفي الحقيقة ما زال هذا المسلك لا يُعبِّر في نهايته عن وجود الله كحجة دامغة أمام المؤمنين به، فضلاً عن المنكرين لوجوده سبحانه وتعالى. وبنظرة سريعة إلى ما ورد في كتاب الله نجد أن الله تبارك وتعالى يصدر ذاته ويبين وجوده على أساس أنه الحق المطلق الذي لا يحتاج بيان وجوده إلى برهان أو دليل كما في الآية (ذَٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ ٱلْبَٰطِلُ وَأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْعَلِىُّ ٱلْكَبِيرُ) [الحج: 62] 

فبين لنا الله تلك الحقيقة دون تدرج أو تموضع وراء ضرورة البرهان أو حتمية الدليل، كما في الآية (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) [البقرة: 255]

وفي كثير من الآيات، نرى أن الله لم يسلط الضوء على الأثر بالشكل والطريقة التي يتداولها الباحثون ولم يُبين لنا حقيقة وجوده المتعلق بذاته على أساس القاعدة التي تقول إنَّ الأثر هو الدليل على وجود المؤثر؛ بل إن الله تبارك وتعالى صرح بشكل دقيق وصريح ومباشر أنَّه هو الله ولم يذكر الأثر للبرهان على ذلك ابتداءً كما في الآية (إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي) [طه: 14].

فلا يمكن أن الله وهو الحق المطلق أن يبرهن على وجوده كنتيجة لوجود تلك الآثار المشخصة بحواسنا والخاضعة لمحاكماتنا ولا يُمكن أن يتعلق وجوده بها تعلقاً يجعل وجودها سبباً لوجوده أو للاستدلال على وجوده لأنَّ ذلك يجعل وجود الله متعلقاً بالأسباب والآثار ومتوقفاً عليها وهذا خلل في فهم ذات وخصائص الله الغني عن الأسباب ﴿لَّهُۥ مَا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَمَا فِی ٱلۡأَرۡضِۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَهُوَ ٱلۡغَنِیُّ ٱلۡحَمِیدُ﴾ [الحج: 64]

لذلك.. فإنه فيما يخص وجود الله في النص القرآني لا يمكن أن تجعل ذاته خاضعه للبرهان، فضلا عن أن يعتمد البرهان على آثاره من (خلق وإيجاد) والتي لن تصبح دليلًا، إلّا من خلال التفكير والبحث الذي تخضع له وهذا بالتأكيد (سواء شعرنا أولم نشعر) سيجعل وجود الله فكرة تتعرض إلى كل ما تتعرض له الأفكار الأخرى من نقد وتشكيك وتطور وتصحيح وغيره، وكأي مادة بحثية تخضع لقوانين العلم والمعرفة ومناهج التفكير والاستدلال في كل زمان ومكان، وهذا أحيانًا يكون ضربًا من العبث، وهذا لا يليق بربٍ وإلهٍ كما في الآية ﴿إِذۡ قَالَ إِبۡرَ ٰ⁠هِـۧمُ رَبِّیَ ٱلَّذِی یُحۡیِۦ وَیُمِیتُ قَالَ أَنَا۠ أُحۡیِۦ وَأُمِیتُۖ﴾ [البقرة: 258] وهنا جعل الأثر دليلًا على المؤثر، وبالتالي خضع الدليل الذي هو الأثر كفكرة لعقلية فاسدة أدت إلى تلك المحاكمة الخاطئة، بينما الاستدراك السريع من النبي إبراهيم عليه السلام ونقل الأثر من كونه دليلًا على وجود الله، إلى جعله مساحة لإقامة الدليل على عدم وجود مؤثر غير الله أدى إلى إقامة دليل العجز على دحض بيان الله ﴿قَالَ إِبۡرَ ٰ⁠هِـۧمُ فَإِنَّ ٱللَّهَ یَأۡتِی بِٱلشَّمۡسِ مِنَ ٱلۡمَشۡرِقِ فَأۡتِ بِهَا مِنَ ٱلۡمَغۡرِبِ فَبُهِتَ ٱلَّذِی كَفَرَۗ وَٱللَّهُ لَا یَهۡدِی ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِینَ﴾ [البقرة: 258]

ولتوضيح ذلك لابد من طرح سؤال مهم جدا هو: إذا لم يخلق الله مخلوقاته ولم يظهر لنا آثاره، فهل يمكن القول بعدم وجود الله؟ بمعنى أنه إذا غاب الأثر فهل هذا دليل على عدم وجود المؤثر؟

وللإجابة على هذا السؤال لا بُد من فهم الطريق الذي حدده الله في كتابه لمعرفته؛ حيث إن الله صوَّر لنا هذه المعرفة وصاغها بشكل علني وجعلها مكتملة الأركان وبيَّن الأثر فيها ليس لنستدل من خلاله على أنه هو المؤثر؛ بل ليكون الأثر هو مجال البحث في العقل الإنساني في حال إنكار وجود الله.

وترك تلك المساحة والأدوات اللازمة لإثبات أو نفي صلة الأثر بالمؤثر أو البرهنة على وجود مؤثر آخر، إنما هو لبيان استحالة نفي الصلة ﴿أَمۡ خُلِقُوا۟ مِنۡ غَیۡرِ شَیۡءٍ أَمۡ هُمُ ٱلۡخَـٰلِقُونَ﴾ [الطور: 35] واستحالة وجود مؤثر آخر كما في الآيات ﴿أَمَّنۡ خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ ٱلسَّمَاۤءِ مَاۤءࣰ فَأَنۢبَتۡنَا بِهِۦ حَدَاۤىِٕقَ ذَاتَ بَهۡجَةࣲ مَّا كَانَ لَكُمۡ أَن تُنۢبِتُوا۟ شَجَرَهَاۤۗ أَءِلَـٰهࣱ مَّعَ ٱللَّهِۚ بَلۡ هُمۡ قَوۡمࣱ یَعۡدِلُونَ * َمَّن جَعَلَ ٱلۡأَرۡضَ قَرَارࣰا وَجَعَلَ خِلَـٰلَهَاۤ أَنۡهَـٰرࣰا وَجَعَلَ لَهَا رَوَ ٰ⁠سِیَ وَجَعَلَ بَیۡنَ ٱلۡبَحۡرَیۡنِ حَاجِزًاۗ أَءِلَـٰهࣱ مَّعَ ٱللَّهِۚ بَلۡ أَكۡثَرُهُمۡ لَا یَعۡلَمُونَ * أَمَّن یُجِیبُ ٱلۡمُضۡطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَیَكۡشِفُ ٱلسُّوۤءَ وَیَجۡعَلُكُمۡ خُلَفَاۤءَ ٱلۡأَرۡضِۗ أَءِلَـٰهࣱ مَّعَ ٱللَّهِۚ قَلِیلࣰا مَّا تَذَكَّرُونَ * أَمَّن یَهۡدِیكُمۡ فِی ظُلُمَـٰتِ ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ وَمَن یُرۡسِلُ ٱلرِّیَـٰحَ بُشۡرَۢا بَیۡنَ یَدَیۡ رَحۡمَتِهِۦۤۗ أَءِلَـٰهࣱ مَّعَ ٱللَّهِۚ تَعَـٰلَى ٱللَّهُ عَمَّا یُشۡرِكُونَ * أَمَّن یَبۡدَؤُا۟ ٱلۡخَلۡقَ ثُمَّ یُعِیدُهُۥ وَمَن یَرۡزُقُكُم مِّنَ ٱلسَّمَاۤءِ وَٱلۡأَرۡضِۗ أَءِلَـٰهࣱ مَّعَ ٱللَّهِۚ قُلۡ هَاتُوا۟ بُرۡهَـٰنَكُمۡ إِن كُنتُمۡ صَـٰدِقِینَ﴾ [النمل: 64].

ومن المعلوم لدينا أن من بديهيات التفكير أن لا يتم البرهنة على الحق والحقيقة، لذلك فإن الله يعرض لنا وجوده على أنه الحق المطلق، وعلى من أنكر أو كذب أو لم يصدق ذلك أن يأتينا ببرهانه على ما يدعيه من تكذيب؛ إذ إن ترك مساحة الاثبات والنفي والتصديق والتكذيب لنا في تلك الآثار ليس للبرهنة على وجوده؛ بل للبرهنة على عدم وجود مؤثر آخر غير الله، أو على عدم صلة هذه الآثار بغير الله.. فيكون بذلك البينة على الله والدليل على من أنكر.

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

ما هو النذر؟ وما هي أنواعه؟

النذر هو أحد الأفعال التي تصدُر من الإنسان بقصد التقرب إلى الله تعالى، حيث يعد من العبادات التي تستدعي الوفاء بالعهد الذي يلتزم به المؤمن تجاه الله سبحانه وتعالى. وفيما يتعلق بتفسير النذر في الإسلام، فقد أكدت دار الإفتاء المصرية، والأزهر الشريف، أن النذر من أعمال التقوى والعبادة التي يجب أن تتم بحذر، حيث يلتزم الشخص بما وعد به الله من أعمال صالحة أو تضحيات بعد تحقق ما نذر من أجله.

تعريف النذر في الإسلام

النذر هو تعهد بالقيام بعمل معين لله تعالى في حال تحقُّق أمر ما، سواء كان ذلك أمرًا يسيرًا أو صعبًا. وقد جاء في الحديث النبوي الشريف: "من نذر أن يطيع الله فليطعه"، مما يعني أن النذر لا يكون إلا في طاعة الله، ويمثل تعهدًا من المؤمن بأن يلتزم بما يطلبه الله تعالى. النذر يُعبر عن مدى قوة إيمان الشخص ورغبته في التقرب إلى الله سبحانه وتعالى، وقد وردت في القرآن الكريم بعض الآيات التي تشير إلى النذر بشكل عام، حيث تعد من أفعال البر والطاعة التي يحبها الله.

وفي تفسير الآية 270 من سورة البقرة: "لَا تُؤْتُوا۟ ٱلرِّبَا لِيَفْشَلَ سَتَرُهُۥ إِنَّ ٱلۡرَّدَّ رَٰتِبُهُۥ مِّرْفَجَهُۥ وَلَا نَعْمَلُوا۟ إِنَّمَا"، يتضح أن النذر لا بد أن يكون طائعًا لله وفي إطار ما يرضيه، ولا يجوز النذر في معصية أو ضد الطاعة لله تعالى، حيث تبين الآية ضرورة الإخلاص لله في كل الأفعال، بما فيها النذور.

أنواع النذر

النذر يمكن أن يكون من نوعين رئيسيين، كما بيّن الأزهر الشريف في تفسيراته حول هذا الموضوع:

النذر المباح: وهو النذر الذي يلتزم به الشخص لفعل أمر مباح، مثل تعهد بأداء صيام أو صدقة أو زيارة مسجد، مع العلم أن المسلم ليس ملزمًا بالقيام به إذا لم يرده ولكن تطوعًا لمرضاة الله تعالى.

النذر المعصية: وهو أن يقوم الشخص بنذر شيء محرم أو يعارض تعاليم الإسلام، كالنذر لإرضاء شخص آخر أو عمل شيء غير مشروع. وقد حرمت الشريعة الإسلامية النذر من أجل معصية الله، بل يجب على الشخص حين يفكر في نذر ما أن يتأكد أنه سيكون في مرضاة الله.

النذر الواجب: وهو نذر شخص معين عنده أمر قد يحدث له في حياته، مثل نذر شفاء أو نذر لمنع مشكلة أو محنة ما. في مثل هذا النوع من النذور، فإن الشخص ملزم بالقيام بما نذره.

كيفية الوفاء بالنذر

الوفاء بالنذر من واجبات المؤمن تجاه الله تعالى، ويجب على المسلم أن يفي بما نذر ما دام النذر يطابق أوامر الله. وقد نصحت دار الإفتاء المصرية بأن وفاء المسلم بنذره يجب أن يكون بمثابة تلبية وعد لله سبحانه وتعالى، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من نذر أن يطيع الله فليطعه".

إذا كانت النذر من نوع غير واجب أو لا يتسبب في أذى أو معصية، فإن الوفاء به يعد من العبادة التي يتقرب بها العبد إلى الله تعالى. أما إذا كانت النية في النذر غير طاعة الله أو إذا كانت في المعصية، فإن النذر في هذه الحالة لا يجوز.

الحكم الشرعي في النذر

أجمع العلماء في الأزهر الشريف ودار الإفتاء المصرية على أن النذر لا يعد واجبًا على المسلم إلا إذا كان لله في طاعته. كما أضافوا أنه إذا نذر المسلم أن يؤدي أمرًا لم يكن واجبًا عليه في الأصل، فإنه لا يجوز له تركه بعد أن نذر، إلا إذا كان النذر في شيء محرم أو يؤدي إلى معصية.

وفي الختام، يجب على المسلم أن يكون واعيًا لأهمية النذر وأثره على حياته الدينية، وألا يندفع إلى النذر إلا بعد التأكد من أن النذر سيكون في مرضاة الله تعالى ووفق ما يرضيه من الطاعات، مع الالتزام بالوفاء بما وعد به في حال تحقق الهدف المرجو من النذر.

مقالات مشابهة

  • منال سلامة تمازح علاء مرسي: «وجوده بيغطي أي فراغ مسرحي مع إنه 160 سم»
  • حزب الله يوجه رسالة للإسرائيليين عن طائراته المسيرة
  • حزب الله: استهدفنا مستوطنة كتسرين برشقة صاروخية
  • بالطائرات... إليكم ما استهدفه حزب الله في إسرائيل
  • لا خطوط حمراء.. ماذا يعني استهداف حزب الله “الكرياه”؟
  • قصفٌ وهجمات.. بيانات جديدة لـحزب الله
  • ما هو النذر؟ وما هي أنواعه؟
  • أجمل ما قيل عن يوم الجمعة
  • كاركاتير عمر دفع الله
  • تحدَّثَ عن نصرالله.. ما الذي يخشاه جنبلاط؟