كتبتُ في إصداري الأول «مدخل جانبي إلى البيت» أن طبقات الهواء في بلادنا مكتومة، وتحمل طبقات من الكلام الذي نتجنب قوله، اعتدنا ذلك مع مرور الوقت حتى أصبحت تفاعلاتنا الشاحبة جزءًا من هويتنا. يأتي أحمد الرحبي في روايته الجديدة الصادرة هذا العام 2024 عن محترف أكسجين للنشر وعنوانها «بوصلة السراب» لتقصي هذه الطبقات المكتومة، إنه يمسكها، وعلى الرغم من أننا وكما نلاحظ في العنوان حضور «السراب» فإن هذه الضبابية يُعبّر عنها بدفء وشفافية عالية، يصبح فيها السراب موجهًا، ممسكًا به، محددًا، في عملية اجتراح بطيئة تعتمد على اللغة، لا كعنصر زائد، بل كعضو أساسي في قوام الرواية، أحداثها وطاقتها.
يتعامل الكاتب مع الزمن بخصوصية، فنعرف أن أحداث العمل تجري بينما يسافر الأب إلى حرب تحرير الكويت، ومع مرور الوقت نستمع للراديو في أحد أروقة سوق الوادي القديمة الذي يصدح بأخبار هيئة البث البريطانية «التحالف الدولي يعزز حشوده ضد العراق ويرسل المزيد من الجنود والأسلحة، ودول أخرى تنضم إلى التحالف» إلا أن وطأة الزمن هذه تلقي بظلالها على الأطفال بشكل خاص، خصوصًا في بحثهم المستمر عن شيء ما، كما يحدث مع محمد الذي يتنقل في الرواية من مشهد لآخر ومن بيت لآخر، ويتسكع مع سليمان ابن «الغالية» أو رشيد ابن الغجر، إلا أن تبطل الزمن في العمل وتبطل الشخصيات الضجرة، يتم تحديه في الفصل الأخير من العمل عندما يوحد الموت القرية، إلا أن صف الأطفال المقابل لصف الكبار وأعيان الوادي في مجلس العزاء والذي يزدري من خلال تعبيراته الكبار وحياتهم، يحدثنا عن جيل جديد سيأتي ليقول كلمته في الزمن القادم.
إن التغيير هو قدر هذه القرية، ففصل السوق فيها يسوق لنا الفرق بين المحلات الجديدة في مركز الولاية وبين الدكاكين الصغيرة فيها، «هنا يسير الزمن بتؤدة، مختلطًا بأحاديث التجار وزبائنهم القليلين، أما التجار هناك فأجانب لا يجيدون لغة الزبائن، ولا يملكون منها سوى ما يسعفهم على تسيير تجارتهم، لذلك ترتفع هناك أصوات الأبواب والأدراج ونقل البضائع وتطغى على أصوات البشر» وتصاحب هذه التحولات بدلًا من العيش محاولة التعايش، الأمر الذي يظهر ردات الفعل عليها راكدة جدًا، كما حصل مع الابن العائد من حرب تحرير الكويت ليفاجأ بتغيّر البيت، لكنه لا يعبّر عن ذلك وكأنه في ذهول بل يأخذ الأمر بتسليم طبيعي، وهذه السلبية التي يتفاعل بها سكان الوادي مع هذه التغييرات تحمل تفسيرات قوية لكن الكاتب لا يصرح عنها، لا يقدمها في أسلوب تقريري بل يجنح طول الوقت لالتقاطها على الجسد وانخراطه في الفضاء العام. مرة واحدة يظهر فيها الجزع من التغيير عندما يتمنى محمد عند تعقد الحبكة العودة إلى وقاية جدته المبللة بالماء التي تقيه حر ورطوبة الصيف بدلًا من الغرف المكيفة الجديدة، وكأنما يلوذ بذلك الحنين من توحش هذا التغيير الذي لا يُعرف ماذا سيطال غير الذي طاله.
يصبح وجوم الوجه، الثقة التي ينطق بها، والمغالاة في الحياد شخصية أساسية في كتابة أحمد الرحبي، يستخدمها في تقديم تخريجات اجتماعية تستجد على القرية. فلننظر مثلًا لمشهد الأخ الذي ينزل من غرفته العلوية بعد أن صار يعمل مع الوالي وتزوج أخت زوجة الوالي عندما يراه أخوه العائد من حرب تحرير الكويت، خصوصًا وأنه قبل انتقاله الاجتماعي هذا كان هائمًا ضائعًا في القرية «لكن هذه الوجاهة التي يتخذها الآن، والحياد الذي يلتزمه، يبدوان مغالين فيهما، زائدين عن حاجته، وحاجة من ينظر إليه» وتستمر هذه الإشارات لامتقاع الوجه مثلًا طيلة الرواية، فهي تحمل طابعًا موحيًا عن طبقات متراكمة من التغييرات التي تطال الشخصيات في الرواية. فلنتأمل مثالًا آخر عندما تشير الأم لابنتها حول وجودهم في أسفل طبقات مجتمع القرية وترد الابنة بـ«أحنت رأسها حين سمعت أمها، لكنها لم تبدِ تبرمًا لكلامها، فكأن ما قالته أمر طبيعي، يولد مع الإنسان ويبقى معه». وهنا يتّضح التسليم بالطبيعة الهرمية التي يخضع لها المجتمع، وكأنما يلتقط الكاتب بعدسة حساسة جدًا مآلات الروح وانعكاسها على الجسد، وتمثلات الخارج الرمزية داخل الإيماءة والتلويحة البسيطة لكن الغنية في الوقت نفسه. فيكتب عن الاختلاف بين بنات الوالي وأخواته وبقية بنات الوادي «بخلاف فتيات الوادي، كن يمشين بجرأة وثبات، وكانت نظراتهن صافية، لا تعكرها أحلام اليقظة» و«نظرات الخليجي على جانب من الحبور، تعكس حياة رغيدة يعيشها».
تشتبك الرواية برهافة عالية مع الطبيعة، الصراعات معها وتحديها، منذ هدأة الوادي وأوراق الموز، والنخيل، والسدرة التي يستظل بها المعلم، والسدرة التي تشمل المكان بظل كثيف متضافر رغم حدة الشمس، والنبق الأصفر، والنبق الذي يشبه التفاح الأخضر وصولًا للسفرجلة التي ستتوارى شيئًا فشيئًا وراء الغرف الجديدة التي سيبنيها الوالي لصالح لقاء زواجه من أخت زوجه، وهكذا يكون الاحتفاء بالطبيعة وبثعالبها التي تعوي في بداية الرواية في تحدٍ مع الحياة الجديدة التي تفرضها السياسة العامة للقرية وممثلي الحكومة فيها.
الضجر لاعب آخر في الرواية، فهنالك تشاغل بالرسم على الأرض بأعواد من السمر بينما تدور الأحاديث بين الأصحاب، أو يصبح التشاغل بالطعام وسيلة للتهرب من المواجهة، فلنتأمل هذا الاقتباس: «راح يتهرب من نظراتها ويتشاغل عنها، فتارة يعكف على تقشير فص سفرجل أو هرس تمرة بأصابعه الثلاثة: الوسطى والسبابة والإبهام، وتارة يشيح وجهه عنها، متوجهًا إلى النساء أو ناظرًا إلى مقتنيات الحائط»، وهذا المقطع «لم تكن أحاديثهم تشبه أحاديث النهار المعتادة، المنسوجة بمشاغل الحياة، بل مجرد كلمات وجمل تنطق لتسمع، لا أكثر من ذلك. لا جدال فيها أو نقاش أو حتى تساؤل. كلمات وجمل خفيفة، تخرج من الفم مثل همهمات تسري في الظلمة قبل أن يطبق عليها السكون».
تظهر المدينة بتشظ في الرواية، فهي المكان الذي يدخن فيه الناس، فلا يتفاجأ محمد -الشخصية الرئيسة في العمل- من تدخين الناس في القرية لأنه اعتاد ذلك بينما كان في المدينة قبل أن يستقر في القرية، أو تظهر المدينة في تهويمات أخرى مثل: اللباس والهندام والطريقة التي يتصرف بها موظفو المدينة العائدون للقرية، إلا أن مقطعًا مهمًّا يمر في الرواية عبر إحدى الشخصيات في العمل وهو مزارع فيكتب الكاتب: «يكون ساعتها عائدًا من المزارع التي أهدر فيها نهاره، قاصدًا بيته خلف مركز الولاية. لكنه لا يمر مرور الكرام، كان يحفظ الكلمات والعبارات الجديدة من موظفي مسقط، القادمين لزيارة أقاربهم، فيتغنّى بها في عودته إلى بيته موشحًا إياها بلحن ساخر، يظل يرن في السوق حتى حلول الظلام (إجازة سنوية، أقساط السيارة، قرض الإسكان، عام الشبيبة، المصارعة الحرة، برج الصحوة)».
وهكذا يقدم لنا الكاتب تصوّر سكان الوادي عن المدينة، ويكتب لنا عن تعقيداتها ببراعة. ويظهر التناقض بينها وبين الوادي فيكتب «تذكرت كلام أبي: (الحياة في بلادنا تخلي الرجال مثل الدجاج)، شوف هذا الأستاذ المحترم، يندس علشان يدخن سيجارة».
تنتهي الكتابة في هذا العمل إلى أن الأحلام العالية والحنين لمستقبل مختلف، يبدآن منذ القصص الصغيرة كما هو الحال في كل الوجوه التي ناقشتها في المقالة أعلاه فيكتب الرحبي مثلًا: «لهجتها الهجينة وحلتها الطويلة المهلهلة وشعرها الأسود الكثيف الذي تمرد على إشاربها، بعلمها أو من دونه، وراح يتأرجح بين كتفيها بحرية، كاشفًا عن عنقها الأبيض وسلسلتها الذهبية، كل هذا، مع حبها لنفسها، وغيرتها على مأكلها ومشربها، وما أحاطت به نفسها من أثاث وزينة، ناهيك عن انضباط أبنائها العجيب، نقل محمد من عالم القرية، بل من البلاد كلها، وأدخله في عالم جديد لم يألفه: عالم حقيقي لكنه مشحون بالتوقعات». وهكذا يصبح التعلق بالمستقبل رهينًا هو الآخر بالعادي جدًا، المحتفى به في هذه الرواية على عكس الروايات العمانية عن القرى والتي تأخذ عادة بعدًا أسطوريًّا في النظر إليها، القرية هنا هادئة وصامتة وتستعدُّ للتمدن، لكنها تدخل إلى ذلك العالم الجديد مرتبكة وتشيح بوجهها عنه عبر الصمت والضجر رغم قوة تمثلات ذلك العالم في واقعها الراهن.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فی الروایة إلا أن
إقرأ أيضاً:
الإبادة العرقية.. وجه الغرب الخفي في تدمير الحضارات.. قراءة في كتاب
الكتاب: الغرب نقيضا للحضارةالمؤلف: روبير جولان
المترجم: مراد دياني
الناشر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات
في العام 1974 وضع عالم الإثنولوجي الفرنسي روبير جولان (1928-1996) هذا الكتاب الذي جمع فيه بعضا من مقالاته، وحوارات صحفية أجريت معه، بالإضافة إلى مقالات باحثين آخرين، تدور كلها حول موضوع "الإبادة العرقية" وممارساتها، بما تعنيه من "إنكار" النظام الغربي وإبادته لأي ثقافة أخرى، لا سيما ثقافات الشعوب الأصلية. هي إبادة، كما يشير مترجم الكتاب مراد دياني في المقدمة، تسعى بحسب جولان "للقضاء كليا على وجود الآخر وهويته وحضارته، كما تسعى لاستلابه وتغريبه تغريبا تاما تمحي معه جميع خصوصياته الذاتية، وهي كذلك لا تتوقف عند حدود الآخر غير الغربي، بل تتعداه إلى كل من يقف في طريق الغرب لتحويل العالم إلى سلعة أو مادة استعمالية، حتى لو كان من داخل الغرب ذاته".
يقول دياني أن الفكرة الرئيسية عند جولان تقوم على أن "روح" الغرب هي روح أحادية ونافية للآخر ومنغلقة على الذات. وبالتالي فإن الغرب أو "الحضارة" الغربية نشأت في عمقها على إنكار الآخر ورفض التعايش معه، وقد تجلى ذلك بوضوح في إبادة السكان الأصليين في الأميركتين. وقد أجرى جولان دراسات على الكثير من السكان الأصليين في إفريقيا وأميركا الوسطى والجنوبية، وأقام لفترات طويلة بين قبائل الهنود الأميركيين الأصليين، حيث تعمّق نضاله ضد ما يسميه "الإبادة العرقية".
حضارة "لا تطيق" الحضارات
يقول جولان إن "الإبادة العرقية" تشير إلى فعل تدمير الحضارة، أي فعل "نقيض الحضارة"، ويمكن أن يستخدم هذا الفعل لتوصيف "الفاعل" المدان بالإبادة العرقية. وهو مصطلح عُرف منذ زمن طويل لكن جرى رفضه لانعدام سياق يسمح باستخدامه، لأن المصارحة الرسمية لمشكلة الإبادة العرقية، بحسب جولان، كانت محظورة منذ قرون، وعُدت استحالة أو مزحة في بلاد الغرب.
ويضيف أنه "في عامي 1947و1948 بحثت اللجنة السادسة للأمم المتحدة مفهوم الإبادة الجماعية، وتمت حينئذ الإفادة بوقائع الإبادة الثقافية، غير أن اللجنة رفضت في نهاية المطاف فكرة الإبادة الجماعية الثقافية بحجة أن ذلك قد يلحق الأذى بمفهوم الإبادة الجماعية. فقد كان العالم خارجا من الحرب والنفوس مهووسة حقا بذكرى أفران المحرقة." ويرى جولان أن الشعور بالذنب المرتبط بتصفية "عرق يُزعم أنه معبر عن إثنية يحجب مشكلات تصفية الشعوب باعتبارها معبرة عن ثقافات وحضارات".
إن "الإبادة العرقية" تشير إلى فعل تدمير الحضارة، أي فعل "نقيض الحضارة"، ويمكن أن يستخدم هذا الفعل لتوصيف "الفاعل" المدان بالإبادة العرقية. وهو مصطلح عُرف منذ زمن طويل لكن جرى رفضه لانعدام سياق يسمح باستخدامه، لأن المصارحة الرسمية لمشكلة الإبادة العرقية، بحسب جولان، كانت محظورة منذ قرون، وعُدت استحالة أو مزحة في بلاد الغرب.في حوار مع جولان نشرته مجلة أرجنتينية يسأله المحاور عما إذا كانت الإبادة العرقية مسألة خاصة بالغرب والعالم الأبيض المسيحي، فيجيب بأنه يراها كذلك بالفعل. ويقول إن الغرب ينظر إلى نفسه باعتباره نموذجا للبشرية في الحاضر والمستقبل، وبالتالي يميل إلى اختزال ما هو ليس كذلك، ويؤدي هذا الميل إلى محاولة للتوسع في كل شيء وغزو العالم.
ويضيف إن الإبادة العرقية هي "في المقام الأول تتعلق بإحداث الاختلال في النظام اليومي للآخرين. أي تدمير نمط تنظيم علاقات الإقامة والجوار بقدر ما هو تدمير نمط تنظيم علاقات الاستهلاك والإنتاج. فعندما لا نعود أحرارا في النوم في منزل كبير مشترك كله راحة، مصنوع من أوراق الشجر، وعلينا باسم التقدم أن نعيش في منزل صغير ومعزول ومصنوع من الأسمنت، فمن الواضح أن هناك تدميرا للبنية الاجتماعية المرتبطة بهذا البيت الجماعي بأسرها". ويرى جولان أن الحضارة الغربية "لا تطيق" الحضارات الأخرى، وهو ما يثبت أنها، على حد قوله، نقيض للحضارة، وبينما يمكن ملاحظة أن الحضارات الأخرى تحترم اختلافات الآخرين فإن الحضارة الغربية بذلت قصارى جهدها لتدمير الآخرين تحت عنوان زائف هو "الاندماج".
ويضيف إن الهنود الأمريكيون الأصليون لم يزعجهم أبدا وجود البيض، بل أن البيض هم من يزعجهم وجود الهنود الأصليون الذين يبدون تسامحا وقبولا للآخرين (الغرب) "أكثر من اللازم"، لكن للأسف يجري تدميرهم برغم ذلك.
الغرب المتعطش للغزو
في فصل من الكتاب مخصص للحركة الهندية الأمريكية يقول جولان إنه منذ بضعة قرون عمد الأوروبيون إلى تملك الأرض بطريقة غريبة، يحركها الاعتقاد بأنهم يمتلكون عليها حق الإحياء وحق الإماتة. فتعاملوا معها، بكل ما فيها، ليست باعتبارها كائنا آخر يمكن عقد تحالفات معه، بل عبدا خاضعا. ويضيف أنه مع ما شهدته أوروبا من عمليات تحديث، "وجدت الحضارات الزراعية فيها نفسها معنّفة، ووجد المزارعون أنفسهم مطرودين من ديارهم، فتطورت طبقة اجتماعية من المحبطين وذوي الشره المرضي".
مع هذا التراكم للهبات الكاذبة، نجد أنفسنا في مواجهة مفارقة صادمة ومثيرة للسخط، إذ يجري تقديم فرنسا باعتبارها الحضارة التي تمنح كل شيء، في حين أنها تأخذ كل شيء، وإن منحت شيئا فهو البؤس والاستغلال..هؤلاء، الذين سيصبحون مستوطنين بعد ذلك، كانوا، بحسب جولان، التعبير الأكثر سطوعا لمعنى الغرب المتعطش للغزو والحصول على "الكون" كله، إلى حد الإشباع، بعد أن حرموا من الأرض. المستوطنون البيض الغربيون، الذين ادعوا اكتشاف أمريكا، سينكرون وجود الهندي الأميركي الأصلي، وبالتالي سيكون شاغلهم الأساسي قتله، "لأنهم كانوا حريصين على كسر العلاقة التي يعقدها الهنود الأصليون بالعالم". وعمليات القتل هذه ستتم بآلاف "الحيل والأعمال الخسيسة.. وبالخيانة أكثر من الشجاعة أو أي من أشكال التفوق، وهذه الخيانة تغذت دائما على نبل الهنود الأميركيين وكرمهم".
لذلك اختلطت المذابح بالمعاهدات، بحسب ما يقول جولان، التي لم تحترم يوما، وبموجبها احتفظ الهنود الأصليون بالقليل جدا من الأراضي التي صارت تعرف ب"المحميات". لكن القتل لم يكن سوى مرحلة أولى من "إكراه" يسعى لتدمير الحضارات الهندية الأصلية، وبعد ذلك إدماج من يتبقى من الهنود في عالم الرجل الأبيض. وقد انتهت عمليات الإبادة الجماعية إلى قتل نحو 150 مليون هندي أميركي أصلي في أميركا الجنوبية، ونحو 50 مليون في أميركا الشمالية، بطرق وحشية.
فرنسا التي تأخذ كل شيء
يتضمن الجزء الأخير من الكتاب دراسة عن الأساليب التي تقدم عبرها كتب التاريخ المدرسية في فرنسا صورة ازدرائية للحضارات غير الغربية. ويرى جولان أن ذلك يحقق ثلاث وظائف أساسية؛ "الأولى الإسهام في الاستدامة الأبدية لأنماط التفكير العنصرية، والثانية تطوير التعصب وعدم التسامح إزاء الآخرين، والثالثة "تسليح" مواطني المستقبل من أجل إشراكهم في حركة إنكار الحضارات الأخرى".
ويضيف أن ما وجده في الكتب المدرسية هذه ينسحب على ميادين أخرى مثل الصحف والمجلات والإذاعات، ما يفسر، بحسب ما يقول، حالة اللامبالاة الغربية أمام ما يجري في العالم من قتل ثقافي للكثير من الشعوب. ومن خلال سرد قصة الاستعمار، وعبر محورين أساسيين هما إضفاء القيمة وتبخيس القيمة بالنسبة إلى ثنائية المستعمِرين والمستعمَرين، سعت كتب التاريخ هذه إلى تخليص فرنسا من أي مسؤولية في غزو مناطق أخرى، والحديث عن أن هذا الغزو أو الاستيطان تحول إلى حرب يلقى فيها اللوم على الخصم. ويبدأ ذلك بإضفاء الشرعية على هذا الاستعمار والاستيطان، وتقديم ذرائع واهية له، ثم إضفاء شرعية أخرى على توسع الصراع، وتقديم الفرنسي على أنه المنقذ الذي يحاول إدخال الآخرين في مسار الحضارة. وبينما يمنح العسكري الفرنسي صفاتا نبيلة ينال الآخر(المقاوم وصاحب الأرض) أحط الصفات وأخبثها.
يقول جولان إن مفهوم الحضارة في هذه الكتب يجري ربطه بالتقدم كما هو متعارف عليه في الحضارة الغربية، وبالتالي فإن كل مجتمع أو شعب لا يعيش وفق هذا المعيار متخلف. "ولا يجري أبدا الاعتراف بخصوصية الحضارات الأخرى وأصالتها، بل يجري إرجاع كل شيء إلى المقارنات". أما المستوطنون فيساهمون إلى جانب العسكريين والمستكشفين والمبشرين في جعل البلاد المستعمرة دولا حقيقية، تمتلك مدنا وطرقا ومصانع ومدارس ودساتير. " ومع هذا التراكم للهبات الكاذبة، نجد أنفسنا في مواجهة مفارقة صادمة ومثيرة للسخط، إذ يجري تقديم فرنسا باعتبارها الحضارة التي تمنح كل شيء، في حين أنها تأخذ كل شيء، وإن منحت شيئا فهو البؤس والاستغلال".