منذ روايته الأولى «جنرال الجيش الميت»، أفرد الروائي الألباني إسماعيل كاداريه (28 يناير 1936 - 1 يوليو 2024) لنفسه مكانة كبيرة على خارطة الأدب في العالم؛ إذ استطاع هذا الصوت الآتي من وراء «الستار الحديدي» -(كانت ألبانيا يومها جزءا من «المعسكر الاشتراكي» وقد عُرف عنها انغلاقها الكبير)- أن يخترق العديد من الدوائر المغلقة، ليثبّت قدميه على أرض الكتابة التي أخلص لها طيلة حياته، على الرغم من قوله عن «وظيفته ككاتب» عام 2016: «لا أقول إنني فعلت ذلك بشكل جيد، لكن أجرؤ على القول إنها آلمتني (الكتابة)».
مع هذه الرواية «الساحرة» الأولى، ذهب كاداريه إلى زيارة التاريخ من جديد، ليعيد كتابته وفق «أسطورته» الخاصة؛ فكتاب «جنرال الجيش الميت» (نقله إلى العربية عبد اللطيف الأرناؤوط، وصدر عام 1981 في دمشق) يستعيد تلك اللحظة الألبانية خلال الحرب العالمية الثانية، لحظة احتلال جيش موسوليني لها. ألبانيا التي يصفها كاداريه بأنها المنطقة الخالدة الغارقة في المطر والضباب والثلج، والتي يمتزج فيها الطين بالذكريات.
ذات يوم، يُكلّف جنرال إيطالي بمهمة غريبة، هي مهمة قاتمة أيضا: نبش الهياكل العظمية للجنود الذين ماتوا على الأراضي الألبانية (خلال الحرب الأولى، زمن السلطنة العثمانية) لإعادتهم إلى عائلاتهم، وباختصار، كانت المهمة التي كُلّف بها، تتلخّص بمنح هؤلاء الجنود الشجعان دفنًا لائقًا، وإعادة الموتى إلى الأرض التي ولدوا فيها، وقد مثلت للجنرال مهمة مشرفة سعى إلى إنجازها بغيرة وفخر. صحيح أن مخاوف جمّة اعترضته، منها على الأقل الخشية من هذه الجبال الشاهقة والأرض الموحلة أو المتجمدة، التي تثير الرعب في أن ينقلب أعلاها إلى أسفلها، لتغرق الجميع. بمعنى آخر، كانت ألبانيا، بلدًا «غير مضياف» بالنسبة إلى الغرباء، لكن ما أدركه الجنرال متأخرًا هو أن «هذه الدولة القاحلة والسوداء» هي التي شكّلت مصير هذا الشعب المأساوي، الغارق «في كراهية صامتة لأعدائه السابقين»؛ لذا يفقد الجنرال، طيلة الرحلة، هذا التفوّق العسكري ليصل إلى درجة الانحدار الكامل، وينتهي به الأمر أيضًا إلى معرفة هزيمة أكبر، وحتى إلى موت أعظم من موت جيش هذه الهياكل العظمية المدفونة، ليدفن جيشه بدوره.
بين التاريخ والأسطورة، دارت الكثير من روايات إسماعيل كاداريه، من مثل «من أعاد دوروتين» و«طبول المطر» و«الحفل» (تُرجمت كلها إلى العربية) و«آخيل الخاسر الأكبر»، و«فصل سيئ على جبال الأولمب» وغيرها الكثير؛ وكأنه بذلك كان يرغب -ليس في تقديم وجهة نظر شخصية بالأحداث التي مرّت على بلاده- وإنما «معارضة التاريخ الرسمي» الذي يُكتب في الوثائق الرسمية، ليأخذنا برحلة إلى إعادة مساءلة الوعي في الكثير من الأحيان؛ لأن الوعي الرسمي يكتبه الحاكم بينما ما يجري في الواقع مختلف جدا. ربما يمكن ردّ ذلك إلى فكرة أساسية في كتابة كاداريه وهي ممانعته الدائمة لعقائد الواقعية الاشتراكية التي كانت سائدة لفترة طويلة في بلاده لكونها «الحقيقة الأدبية الوحيدة». ولو أعدنا قراءة أعمال الكاتب اليوم لوجدنا أنه من الصعب جدًا قراءة الواقع فيها، وكذلك من الصعب أيضًا إثبات الحقائق، فالحزن المنتشر هو «أمر اليوم» (وفق التعبير العسكري). هل لذلك تدور غالبية أعماله في فصل الشتاء، وكأن لا ربيع في الأفق؟ ما من أبطال مثاليين في رواياته، وغالبًا ما تكون النهايات «غير سعيدة»، بينما الزمن لا يتوقف عن أن يكون دائريا (وكأنه يُستعاد دوما)؛ لأن هذا الزمن الدائري هو الذي يواجه «مسيرة التاريخ» (التي تريد أن تتقدم إلى الأمام) والذي يَعتبر السلطة (الاشتراكية يومها) مظهرًا من مظاهر الفساد والشر، لذا فإن التفاؤل أو «المستقبل المشرق» غير موجودين على الإطلاق.
كلّ كتابات كاداريه، في تلك المرحلة الألبانية (أي قبل طلبه اللجوء السياسي إلى فرنسا مع بداية العام 1990)، تأتي من ثقافة لها جذورها المخالفة، عن الثقافة الرسمية في بلاده، وقد ذهب إلى اعتبار أن هذه الثقافة التي حصّنته بعوالمها الأدبية المذهلة، هي ثقافة «مقدسة». ولنقل مجازًا أن «آلهته» كانوا أسخيليوس وهوميروس وشكسبير ودانتي وثربانتس وغوغول وكافكا (الذي قرأه خلال إقامته للدراسة في موسكو) دون أن ننسى بالطبع الأساطير الألبانية التي أراد النظام الاشتراكي القضاء عليها باعتبارها «بقايا قديمة وخرافية»، بيد أن الكاتب كان يجدها أساسية للحياة وللكتابة، معتبرًا إيّاها «أوعية للحكمة العظيمة». من هنا استلهمها في روايتين أساسيتين على الأقل: أسطورة «قلعة الروزوفات المسورة» في رواية «الجسر ذو الأقواس الثلاثة» (1978) وأسطورة قسطنطين ودوروتين في كتاب «من أعاد دوروتين؟» (1980). ولكنه أيضا استفاد من الأسطورة الإغريقية كما في روايته «ابنة أغاممنون» (1985) على سبيل المثال التي كتبها بالسرّ في تيرانا، لتُنشر بداية في فرنسا لا في بلاده.
لكن الأسطورة هنا أيضا، تريد أن تعيد زيارة التاريخ الحديث بكلّ ما كان يفعله الكاتب، وهو التورية للهروب من الصدام مع النظام الحاكم، فتدور أحداث هذه الرواية في ألبانيا في السنوات الأخيرة من حكم النظام الشيوعي. لم تكن عشيقة الراوي سوى ابنة خليفة الطاغية المستقبلي، الذي أقنع ابنته بإنهاء هذه «القضية» إذ يمكن لها أن تضرّ بحياته المهنية. ومع ذلك، وفي الوقت عينه يتلقى هذا الشاب دعوة لحضور العرض الذي كان سيقام في الأول من شهر مايو (بمناسبة عيد العمال)، في المنصة الرسمية ما كان يعتبر امتيازًا يُحسد عليه.
وأمام كل تلك الأحداث، لم يجد العاشق أمامه سوى أمر واحد: التأمل في هذا العار والخزي اللذين لحقا به، من هنا يعود ويستحضر إيفيجينيا (من الأسطورة الإغريقية) التي ضحى بها والدها. إذ كما نعرف رفض أغاممنون عملية تبادل سجناء بابنته، مثلما رفض ستالين عملية تبادل سجناء ألمان بابنه الأسير. كل ما كان يطرحه كاداريه هو هذا التساؤل العميق: ماذا لو كانت التضحية لا تعني شيئًا سوى إرادة من هم في السلطة لتدمير الإنسانية جمعاء عبر أولئك الذين يخدمونها، من حيث المبدأ؟
قِسم كبير من أدب إسماعيل كاداريه كان يكمن في هذا الحيّز: إدانة آليات النظام الشمولي، بقوة نادرة وكذلك آليات الخضوع والضعف والتواطؤ.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
قصة مايتا ـ ماريوباراغاس يوسا.. مقاربات مع التاريخ الطهراني للثورات في الأردن
-1-يفتتح يوسا روايته العظيمة بمشهد الزبالة في ضواحي ليما، حيث يصور روتين حياته اليومية ككاتب روائي. ويختتمها بنفس المشهد. وفي هذا رمزية واضحة المعالم تتخذ من الواقع المعاش لغة فجة تغلف مقولة الكاتب ووجهات نظره. وكأنه يضع هذه التحفة الروائية كإستعارة بين قوسين يضعان هذه السردية التي يختلط فيها الخيال بالتاريخ أمام تحديات الواقع المعاش/ وقت كتابة الرواية سنة 1982 حيث تبدأ سلسلة من الصراعات المسلحة في بلده البيرو وتمتد لسنة 2000
يجيد هذا الكاتب لعبة التعاطي الخادع مع التاريخ وهو لمن خبر مغامراته الروائية أفضل من ابتدع هذه المحاوره الماكرة مع هذا الصنم المصمت المسمى تاريخا.. إذ يتلمس بعناية الخبير مفاصله الباردة ثم يلج إليها محاورا ومجيدا في اعادة صياغة ما غمض منه وهو ما يفتأ يذكرك بمناسبة وبدون مناسبة أنه لا يكتب تاريخا وإنما يستلهمه في صياغة رواية فيها الكثير من الخيال والقليل من الأحداث التي حدثت بالفعل.
لماذا يلجأ روائي مثل يوسا إلى هذه الطريقة في مناقشة قضايا محورية في التاريخ قررت مصائر بلد بأكمله. وبهذه الخفة التي تكاد السخرية تنظم حباتها ويكاد الماضي يطوي صحائفه هل يحاول إعادة صياغة الأحداث بأن يكون جزءا محوريا منها؟
الطهرانية الثورية.. هي جل ما يبحث عنها الكاتب في شخصية مايتا.. هذه الطهرانية التي نتوهم واثقين إمساكها في راحتينا ثم ما تلبث أن تتحول إلى محض سراب غير موجود إلا في خيالاتنا التي تنسج بفطرتها المريضة بالكمال ومع ذلك. فهو ما يلبث إلا أن يضعنا في مقام الحيرة الخابطة.. مسلطاً علينا شمس السؤال الحارقة.. متوازنين من غير يقين ولا تأكيد.
بعد سلسلة من النهايات التي لا تليق ببطل طهراني.. سنظل نتساءل هل كان مايتا مناضلا ثوريا منزوعا من أية نوازع غير ثورية أم أنه مجرد لص سارق يمارس السطو المسلح على البنوك ويقضي فترة حكمه مستكينا هادئا ومتصالحا مع قدره. هل كان ساذجا.. غدره أصدقاؤه أم أنه كان ثائرا حقيقيا.. خذلته الظروف ثم واصل حياته دون أن يرمش له جفن في تذكر ما مضى.. هل المشكلة بالفكرة أم بتداعياتها.
في التاريخ، الحديث للبيرو.. فإن اليخاندرو مايتا قام بتمرد على نطاق ضيق في منطقة خاوخا.. ولم يكن معه سوى أربعة من الرجاال البالغين.. وبضعة تلاميذ من المدرسة المحلية.. كانت مجموعة من التروتسكيين الشيوعيين... وسرعان ما تم القضاء على هذا التمرد بسهولة ويسر وفي ظرف اثني عشر ساعة . تم قتل اثنان من الثوار واعتقال الباقي. هذا التمرد لا يكاد يذكر في تاريخ التمردات في البيرو تلك الفترة. يتتبع يوسا هذا التمرد ويناقش الافكار الشيوعية التي كانت سائده في تلك الاثناء حول الثورة والتغيير.. هذه ببساطة خلطة يوسا الأولية لهذه الرواية والتي تتفرع ويزداد حجمها فتصبح علامة بارزة في مشواره الروائي.. ويتم قراءتها سياسيا من حيث هجاء يوسا لتاريخه وللحركات اليساريه ومشروعها بشكل عام . وهذا ما يدعوه لان يصرح بأكثر من مقابلة بأن هذه الرواية هي أكثر كتاب له ظلم من ناحية القراءة المتعسفة له .
ـ 2 ـ
بتاريخ 22 ـ 4 ـ 1987 وفي قرية صغيرة في الجنوب الأردني اسمها ذات رأس ضمن محافظة الكرك كانت حشود من المناضلين الشيوعيين الأردنيين تجتمع لدفن فتى نهاية العشرينات أسمه حمدان الهواري.. ويبدو أننا سنعرف فيما بعد أن القوم قد دفنوا أحلامهم الأممية ـ آنذاك ـ معه تحت شجرة وارفة كان يتفيأ ظلالها قبر والده المحامي من قبله.
حمدان الهواري.. ولدى البحث عن سيرته سنجد نزرا يسيرا من حياته الحقيقية و الكثير من ظلاله واشعاعه في كتابات من عاصروه.. ويتأكد لدى المتتبع لأخباره إنه من أولئلك الثوريين الطهرانيين الذين عاشو الحلم وربما تجرعو انكساره..
ظلال كثيرة.. وتأثيرات لايمكن لنا تجاوزها.. أدت بشاعر أردني كبير مثل حبيب الزيودي إلى تخليد ذكراه بقصيدتين أولاهما بعد موت حمدان بسنة ( عام 1988) والثانيه قبل موت الشاعر نفسه بأشهر من عام 2012 وما بينهما الكثير من المقالات والأحاديث.
طالب في الجامعة الأردنية في أواخر السبعينات يؤسس حزب العمال الشيوعي الفلسطيني فيحكم عليه بالسجن لمدة 10 سنوات .. ثم في سجنه يغير رفاقه في الحزب البوصلة ويتقربون من حركة فتح .. فيقرر الانتماء للحزب الشيوعي الأردني .. وفي أخر أيامه يصاب بمرض السرطان فيخرج بعفو انساني وينتهي به المطاف مسجى في قريته الصغيرة في جنوب الأردن.
تنتهي به الأحلام الكبرى والجدوى.. خارجا من سجن المحطة.. ويترك رئته الممزقة للريح وللمراثي.. هل خذله الرفاق.. هل وشو به.. هل تركوه نهبا لأفكار تتنازعه حول الجدوى.. أين كان يقف في لحظة خروجه من سجن المحطة. هل تقاسم رفاقه مخصصات وزارة الداخلية في دعمها للأحزاب المرخصة بعد موته بعام في ظل الانفتاح الديمقراطي الذي شهده الأردن . ماذا كان سيقول لو انه شهد تجمع القوى اليسارية المدعوم من الحكومة ؟؟ هل كان لابد له من الموت ببساطة لأن النظام العالمي الجديد بعد 1991 لا يمكن له استيعاب الطهرانيين.. أم أنه كان مجرد طالب جامعي تمور في رأسه كل طواحين الأردن التي ظلت تستجدي الرياح .
ستظل الأسئلة التي طرحها يوسا في روايته تلاحق كل الثوار الطهرانيين.. منذ الحسين عليه السلام وحتى حمدان الهواري.. ولكن من يجرؤعلى هذا الطرح سوى كاتب كبير مثل يوسا.. لا يأبه للتابوهات..