يُنسب القول الآتي إلى الكاتبة الإنجليزية أجاثا كريستي: «إن أفضل وقت للتخطيط لحبكة إجرامية هو وقت غسيل الصحون»
والمتأمل في القول السابق ومحاولة ربطه مع ظروف حياة كاتبته الشخصية -إن قالته حقًا- سيصاب بشيء من الدهشة؛ فالملحوظ العام أن المثل الشعبي السائر: «باب النجار مخلع» يُمكن أن يكون صادقًا، فالطبيب الذي ينصح المريض بتجنب بعض العادات السيئة تراه يقدم على فعلها، والشِيف الذي يستطيع أن يطهو أكثر أنواع الطعام المعقدة، يقف عاجزًا إذا تذوق أكلة طبختها يدا له.
وإذا عدنا إلى قول أجاثا، نستنتج أن مَن وُصفت أنها أشهر كاتبة روايات بوليسية -حسب محرك البحث جوجل- مَرّت في أثناء حياتها (1980- 1976) بحادثة (لم يستوعبها خيالها الجامح)، أثّر فيها بشدة؛ «ففي العام 1926 اختفت أجاثا لمدة عشرة أيام، واشترك الشعب البريطاني في البحث عنها... ولم يعرف أحد سبب ذلك الاختفاء»، وأرجعت كاتبة سيرتها جانيت مورغان السبب إلى صدمة عاطفية كبيرة، ومن هول الصدمة فقدت الذاكرة، لدرجة أنها تركت سيارتها على الطريق، وذهبت إلى أحد الفنادق تسأل الناس من أكون إلى أن تعرّف عليها أحد الأقارب!
فإذا كان أتيح لأجاثا أن تضع نفسها في موقف درامي بكل ما تستطيع من خيال خلاَّق، هل كانت يا ترى ستختار ذلك الموقف الصعب الذي مرت به؟
إن اهتمام أجاثا بالحبكة جعلها تربطه بغسيل الصحون، ويُعيدنا إلى تأمل جرائم الواقع الاجتماعي والسياسي، وتمييزها عن الجرائم التي تجري في الخيال الدرامي. ويؤشر المعجم المسرحي إلى بعض التعبيرات المتصلة بمفهوم الحبكة Plot، ففي اللغة العربية جاءت الحبكة من «شدّ فتل الحبل»، وفي الفعل الفرنسي Intrigue جاء استعمالها من الفعل اللاتيني Intricare بمعنى حيّر، وفي الإيطالية Imbroglio يعني خلط الأمور بعضها ببعض، وأيضًا الإبهام والخلط والتداخل والالتباس.
إن منشأ الحبكة الدرامية الناجحة يستند إلى تضارب في المصالح، وتعارض في الرغبات بين الشخصيات. ولهذا عندما نظّر أرسطو في كتابه فن الشعر للدراما، ووضع قواعدها وفصّل القول في فن المأساة، وأولى عناية بما يُحدد أجزاءها الستة، وتربّع على رأس الأجزاء تلك عنصر الحبكة، فالشخصية، فاللغة، فالفكر، فالمرئيات المسرحية، ثم الغناء.
وإذا كان لكّل كاتب درامي أسلوبه المُتّبع في الكتابة الدرامية، فهناك من يخط قصة العمل الدرامي في الشخصية الدرامية التي ستقود القصة على مدى سلسلة من الحلقات، أو في الروايات، أو في المسرحية، في حين يفضّل بعضهم البدء من القصة. ولا يجري التركيز على هذا الجزء إلا في الغايات المتعلقة بالتدريب على الكتابة الدرامية.
إذا عدنا إلى أرسطو وحبكة أجاثا كريستي المهمة، فإنه من الطبيعي أن كل قصة أو حكاية تحتوي على حبكة قوية وشخصيات تؤديها. وإذا سألنا أحدهم: كم من المسلسلات البوليسية أو الأفلام التي تناولت الجريمة عالقة في ذهنه؟ ولماذا؟ ستختلف الإجابات باختلاف المنظور الثقافي، وكثرة الاطلاع والقراءة الناقدة، وقدرة السيناريو وميزة الشخصية، وغيرها من الأسباب التي يمكن أن تُساق لتبرير أو تفسير الذوق الفني لخيال المعالجة أو الآلية التي عُرضت بها. ويمكن التدليل على ذلك من روايات أجاثا كريستي نفسها، حيث أذكر أنني كلما قرأت لها رواية كنتُ أتأثر وأشعر مع الحبكة أنني متورطة حتى أعماقي في الجريمة! بل أتذكر قبل الوصول إلى معرفة القاتل كيف كنتُ أستعين بدفتر أزرق أفتح صفحة منه، وأسجل جميع شخصيات الرواية، وأرسم خطوط تحركاتها مكانًا وزمانًا، وأقيّد ما أكلته من طعام أو ما شربته أو لبسته من ثياب، وما استخدمته من أدوات شخصية، وهدفي من ذلك تقمص شخصية المتحرّي أو المُخبر، أو شخصية المشتبه فيه!
تمتاز الحبكة الجيدة حسب أرسطو بعنصرين هما: التحوّل، والتعرّف، ولا يتحقق هذان العنصران إلا بوجود صراع وعوائق تقود الشخصيات إلى النهاية. لكن أرسطو ربط الحبكة بالأفعال، وليس مع الشخصيات، إضافة إلى ذلك، فقد استخدم أرسطو كلمة Mythos، وقصد المادة الخام/ الحكاية التي يتشكل منها الحدث، وطريقة نظم الأفعال. ويجري بناء الأفعال بأسباب منطقية، وكانت أجاثا تجيد نظم جرائمها وبارعة في اختيار الأماكن التي تحدث فيها جرائم القتل الشنيعة، حيث أتيح لها أن تزور مدنًا كثيرةً شرقيةً وغربيةً، مما يسّر لها حرية التنقل منذ طفولتها وتعليمها، فزارت في خلال مسيرتها الأدبية الحافلة بالعديد من الروايات والقصص والمسرح دولًا ومدنًا عديدةً مثل: باريس، ومصر، وسوريا، والعراق وجزر الكناري، والأردن، وفلسطين، وإيران.
استثمرت أجاثا كريستي تفاصيل من حياتها وخبراتها الذاتية وزواجها وأسرتها في إثراء كتاباتها، كتطوعها ممرضة إبان الحرب العالمية الأولى، وكمساعدة صيدلانية في واحدة من المستشفيات خلال الحرب العالمية الثانية. ومع تعدد مصادر التأليف والمراجع تعددت أنواع الحبكات بين حبكة رئيسة مركزية، وحبكة ثانوية معاضدة لها، فتسير الحبكتان معا بجانب الشخصيات، وهي تتقاتل أو تموت بالسم أو بالرصاص، حتى تبلغ الرغبات غايتها في عقدة بالغة التماسك، فتكون العقدة حسب المعجم المسرحي هي مرحلة الذُّروة في الأحداث.
اختلف شكل الصراع الذي نسجته أجاثا كريستي في رواياتها (جريمة في قطار الشرق السريع، وبيت الرعب، وجريمة في وادي النيل) عن الصراع الحاصل اليوم في عالمنا المتسلّح بالتقنية وظهور ما يُطلق عليه بالجريمة الإلكترونية بأنواعها المختلفة، وما يقع تحتها من جرائم شبكات العنكبوت والابتزاز والقرصنة وسرقة المعلومات عبر الهاتف الجوال أو أي وسيط متصل بالنت، ومثلما اختلف أسلوب الجريمة اختلف أنواع المحققين البوليسيين (المحقق البلجيكي هرقل بوارو، والمحققة الآنسة ماربل)، والمحقق (شارلوك هولمز) الذي ابتدعه الكاتب (كونان دويل) ومعهم ظهرت أنواعًا متباينةً من الشخصيات المجرمة والقتلة والسفاحين.
فإذا كانت الجريمة تتطور بتطور العقل البشري، فالحركة الموازية هي أن يتطور أسلوب مكافحتها والمؤسسات التي يقع عليها متابعة ظاهرة ارتكاب المجرم لجريمته، وكيفية حماية المجتمعات من شر الإجرام، ومعاقبة الجُناة بمختلف أشكالهم وموقعهم. واليوم لم تعد الجرائم تقليدية ولا أساليب ارتكابها متخيلة، فإطلالة سريعة على الوسيط YouTube الذي يتيح لمستخدميه «رفع التسجيلات المرئية مجانا ومشاهدتها عبر البث الحي ومشاركتها والتعليق عليها» يمكنه الاطلاع على غرائب الجرائم، وغيرها من القنوات المختصة في علم الجريمة التي يملكها شباب يستثمرون وقتهم في هذا النوع من البحث عن الجرائم الغامضة أو البشعة، وهناك من يستمتع بمتابعتها، وآخرون يفضلون إما مشاهدة مسلسل بوليسي أو قراءة رواية لكريستي.
لعل أهم خصائص الأدب البوليسي أو عالم الجريمة تتمثل في وجود الدافع القوي لارتكابها، وكشفه من قبل المحقق ينبغي أن يكون معقدًا. وتعدُّ عناصر الغموض والإثارة والتشويق وكسر أفق التوقع من الخصائص المميزة. وفي المسلسل التلفزيوني الأمريكي الدرامي البوليسي Monk تأليف آندري بريكمان يلعب الممثل اللبناني توني شلهوب الحامل للجنسية الأمريكية دور المحقق أدريان مونك. ويتكون المسلسل الذي عرض 2002م من (8) مواسم، وتدور الحلقات حول دراما البطل، حيث تفتتح الحلقات بوقوع جريمة قتل غامضة ذات دوافع مختلفة، لتبدأ الشرطة بعد ذلك في التحقيق، ويستعان بالمحقق الغريب الأطوار مونك ليساعد الشرطة في كشف خيوط الجريمة التي تبدو منذ الوهلة الأولى جريمة كاملة ويصعب كشفها، لكن القدرات التي يتمتع بها المحقق الخاص مونك لا يقف أمامها أي لغز.
وتتطور أنواع الأبطال منذ الإغريق في الميثولوجيا، من البطل الخارق إلى البطل المنتمي إلى عامة الناس في الدراما، وحصل تطور داخلي في التعامل مع التكوين النفسي للأبطال، فإذا كانت دراما هوليوود جعلت البطل منتصرًا على الأشرار المدججين بأعتى أنواع الأسلحة الفتاكة، فإنها ألهمته القوة والذكاء والخيرية. إن شخصية البطل مونك تُنسب إلى ذلك النوع من الأبطال الذين يعانون اختلالًا نفسيًا بسبب حادث قتل أدى إلى وفاة زوجته. يمكن للبشر جميعهم أن يصابوا بالفقد، لكن التقاط المؤلف استعارات مختلفة لبناء شخصية بطله هو ما يميز بنية الشخصية. فنشاهد مونك الناجح في تحليل الجريمة، لكنه إنسان عادي جدًا في لحظات ضعف وبكاء وتردد. ويتخلل كل موسم الكشف عن طفولة الشخصية وانطوائها وعائلتها في قالب درامي كوميدي مستفز في مواقف كثيرة. وهذا من محاسن التطورات التي أسهمت في تطور بناء الشخصية الدرامية عبر العصور؛ فالعوائق التي تعترض محقق الشرطة لم تعد خارجية، بل نابعة من داخل الشخصية. بعد تأمل في مقولة أجاثا كريستي رأيت أن وقت غسيل الصحون يشبه بعض سلوكيات المحقق مونك في أثناء حرصه الشديد لدرجة الوسوسة على جعل الأشياء والعناصر من حوله متماثلة، أو في خط مستقيم، مثلما يجب أن تكون الصحون في المطبخ جميعها نظيفة ومصفوفة في منظر مناسب.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: أجاثا کریستی أنواع ا
إقرأ أيضاً:
خلف: سلامتي الشخصية ليست أهمّ مِن سلامة الشعب اللبناني
كتب النائب ملحم خلف عبر منصة "اكس": "في ضوء التهديدات التي يُطلقها العدو الغاصب باستهداف مبنى مجلس النواب، والاتصالات والرسائل التي أتلقاها مِن الأحبة الذين يطالبونني بمغادرة المجلس حفاظاً على سلامتي، أصرّح بما يلي:
أولاً-سلامتي الشخصية ليست أهمّ مِن سلامة الشعب اللبناني بأسره، الذي يتعرض لإبادة جماعية، ويقدِّم عشرات الشهداء يومياً؛ ولن أتصرف إلا بما يمليه عليّ ضميري، ولن أخرج مِن مجلس النواب.
ثانياً-مضى على إقامتي في المجلس النيابي ٦٧٥ يوماً، التزاماً بواجبي الدستوري في انتخاب رئيس للجمهورية وإعادة انتظام الحياة العامة، السبيل الوحيد للإنقاذ. هذا الواجب لن أتراجع عنه مهما كانت الظروف.
ثالثاً-إنّ إنجاز الاستحقاق الرئاسي الإنقاذي، هو الأولوية القصوى وحجر الزاوية لإسترداد الدولة القادرة والعادلة وحماية مؤسساتها، وصون الوطن مِن أي عدوان أو إنهيار.
رابعاً-الوقت ليس للخروج أو الانكفاء، بل للمواجهة. أدعو جميع النواب إلى وقفة تاريخية عبر حضورهم فوراً إلى المجلس النيابي؛ وجودنا معاً في المجلس هو الرد الحاسم على التهديدات؛ بوجودنا داخل المجلس، نحميه، نحمي المؤسسات، نحمي الشعب الذي نمثل، نحمي الجمهورية والديموقراطية، ونحمي لبنان!".