واجهوهم في الميدان: وادخلوا عليهم الباب في غرف التفاوض!!
تاريخ النشر: 9th, July 2024 GMT
لأكثر من عشر سنوات، ظلت الحركة الشعبية بزعامة الراحل جون قرنق تفاوض حكومة الإنقاذ، وتحاربها في نفس الوقت، وكان قرار الحركة الاستراتيجي هو “عدم الوصول إلى اتفاق”!!
قد يسأل سائل، ولماذا المفاوضات إن كانت النية عدم الوصول إلى اتفاق سلام، والإجابة التي كان يعرفها الكثيرون هي أن الحركة الشعبية كانت تتخذ من المفاوضات منبراً للعلاقات العامة، ولا تريد أن تخسر وسيطاً من الوسطاء ولا أن تعطي انطباعاً للرأي العام الدولي والإقليمي بأنها تقف حجر عثرة أمام وقف الحرب ورفع المعاناة عن المواطنين الذين تدعي أنها تحارب من أجلهم.
لم تتخذ الحركة الشعبية قرارها الإستراتيجي بأن تفاوض بجدية وبهدف الوصول إلى سلام إلاّ بعد أن جاءتها الإشارة القوية بذلك من الرعاة الخارجيين، وكان تقدير الرعاة أن المفاصلة التي حدثت داخل الحزب الحاكم والتيار الاسلامي قد تشكل فرصة مواتية للحصول على مكاسب لصالح مشروع الحركة، إما بعلمنة السودان أو بفصل الجنوب، بينما كانت الإنقاذ – قبل المفاصلة وبعدها – على استعداد لخوض المفاوضات بجدية وخوض الحرب كذلك بنفس الجدية، واستراتيجيتها في ذلك أن يفشل الرعاة الخارجيون ، مهما قدموا من دعم، في فرض أجندة سياسية عن طريق البندقية.
الخارج الذي كان يدعم معارضات نظام الإنقاذ، جنوبيها وشماليها، العسكرية منها والسياسية، والذي نجح ، بعد ثلاثين عاماً، في صناعة حالة ثورية أسقط بها النظام، هو ذات الخارج الذي ظل يُصر على أن تحكمنا قوى الحرية والتغيير بدون إنتخابات بعد أبريل 2019، وهو ذاته الذي أراد – لاحقاً – للدعم السريع أن يتمرد وينقلب على السلطة التي كان يتحكم في كثير من مفاصلها، بدعوى إعادة الحكم إلى أولئك “المدنيين” غير المنتخبين.. فعل ذلك لأنه كان يريد أن يستكمل استتباع السودان له، ويديره الوسطاء الإقليميون بواسطة عملاء محليين.
ومن بعد أن فشل هذا المخطط، وتحول الإنقلاب إلى حرب هجينة وهمجية، ارتكبت فيها جميع أشكال الفظائع والجرائم والانتهاكات ضد حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، وجد “الخارج” نفسه في ورطة، فقد انبرت قطاعات واسعة من السودانيين للدفاع عن أعراضها وكرامتها والتفت حول جيشها الذي كانت أول المقاصد هزيمته وتفكيكه بالقوة بعد أن رفض أن يمد عنقه للذبح بسكين الإتفاق الاطاري !
وصمة الانتهاكات التي كانت تتباهى بها ميليشيا الدعم السريع، أحرجت الراعي الأمريكي مع حلفائه/وكلائه/ أصدقائه الإقليميين الذين سارعوا لسلخ جلد مجموعة المجلس المركزي في قوى الحرية والتغيير وإلباسها وجهاً تنكرياً أسموها بموجبه “تنسيقية القوى السياسية والمدنية” لإزالة بعض الحرج عنهم أمام الرأي العام الغربي بحجة أن هؤلاء هم الذين استجابوا ل “تطلعات الشعب السودان في الحكم المدني”، وبرغم الإتفاق الذي جرى توقيعه بين قائد “تقدم” وقائد المليشيا المشكوك في حقيقته، مطلع هذا العام، إلا أن المليشيا خذلت جناحها المدني وواصلت الإنتهاكات بصورة أفظع، وتحولت الأوضاع في السودان إلى حالة إنسانية قياسية في كل ضرب من ضروب الآثار الجانبية للحروب، فأعداد النازحين واللاجئين والمختطفين والمختفين قسرياً والمغتصبات والجوعى من النساء والأطفال والعجزة، هزت ضمير العالم وأحرجت الرعاة الكفلاء مع الوكلاء ، وأخذ الجميع يبحث عن مخرج يحافظ به على ما تبقى من صورته أمام العالم ويجد عن طريقه موطئ قدم للجناح السياسي للمليشيا وربما لما تبقى من عناصرها المقاتلة في مستقبل الدولة السودانية.
وبهذه الخلفية نستطيع أن نفهم الصورة الكلية للتحركات الدبلوماسية المكثفة التي انتظمت الإقليم لوضع حد للحرب الدائرة في السودان، فالراعي الرسمي لحرب السودان، وأعني به الولايات المتحدة الأمريكية، اقتنع بأن تقديرات وكلائه لنتائج الحرب أتت بما لا يشتهون، وأن هؤلاء الوكلاء، برغم استمرارهم في تقديم جميع أشكال الدعم للمليشيا، إلاّ أن أهدافهم التي من أجلها حولوا انقلابهم الفاشل إلى حرب هجين وهمجية، أخذت تبتعد منهم كل يوم، والراجح أن الرأي انعقد على الوصول لنهاية للحرب قبل أن يذهب الناخبون الأمريكيون إلى صناديق الاقتراع في نوفمبر القادم، إذ أنه برغم أن الشأن الخارجي لا يشكل إلا جزءاً يسيراً من اهتمامات الناخب الأمريكي إلا أن فشل ادارة بايدن في تحقيق أي قدر من الإنجاز لصالح السلم الدولي، كما في حالة الحرب بين روسيا وأكرانيا والحرب الإسرائيلية على غزة، يجعلها تعتقد أن في مشروع وقف الحرب في السودان حافزاً لتحسين صورتها ولضمان استمرار تأييد الأمريكان من أصول أفريقية وبعض مجموعات الضغط التي طالما اعتبرت أن الأوضاع في دارفور قضية داخلية !!
إن الزخم الإقليمي والدولي الذي بدأ يتصاعد منذ مؤتمر باريس للقضايا الإنسانية في أبريل الماضي، بمناسبة مرور عام على اندلاع الحرب، وما تبعه من لقاءات بين فرقاء في جنيف وهلسنكي، مروراً بمؤتمر القاهرة الذي كان أكثرها شمولية وأرفعها تمثيلاً للقوي السياسية والمدنية، وتقاطر وفود الفاعلين الإقليميين على بورتسودان منذ الأمس، ثم الحراك الدبلوماسي الذي تشهده عاصمتا الإتحاد الأفريقي والإيغاد، يأتي كله لحفظ ما تبقى من ماء وجه الوكلاء والكفلاء و لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من أدوات داخلية، عسكرية وسياسية، ممثلة في المليشيا وجناحها السياسي، حتى يمكن الإستفادة منها في مناسبات لاحقة إن دعت الضرورة.
إن أي تصنيف للحرب التي يخوضها شعب السودان وقواته المسلحة، منذ منتصف أبريل 2023 سوى أنها حرب استقلال ضد أدوات القوى الخارجية التي تريد أن تسلب شعبنا قراره الوطني، وأن ميليشيا الدعم السريع وتنسيقية القوى المدنية “تقدم” هما وجهان لأداة واحدة من أدوات قوى الهيمنة الدولية، هو تصنيف منقوص وتوصيف مبتسر إن لم نقل خاطئ، وعلى ضوء هذا التصنيف على القوى السياسية غير المنخرطة في حلف المليشيا أن تأخذ مواقعها، وقد فعل بعضها ذلك منذ وقت مبكر، وعَرِف فلزم، وانخرط في سلك الجندية منافحاً عن استقلال الوطن وبقائه، بالمال والنفس والولد، والبعض الآخر لا يزال على الأعراف، يكره المليشيا وجناحها السياسي لكنه لا يمانع من التعامل مع رعاتهما، إلى الحد الذي يأمل فيه أن يتقدم إلى مقام “تقدم”!!
رسالتي هنا أولاً لأهل الأعراف وللباحثين عن الأنفال، أن اختاروا الموقف الصحيح من التاريخ وانحازوا إلى استقلال بلادكم من قوى الهيمنة والتبعية، وثانياً للقوى التي عرفت طبيعة الحرب بشكل صحيح واختارت استقلال الوطن على تبعيته، فعبأت منسوبيها للقتال جنباً إلى جنب القوات المسلحة لتحفظ للبلاد استقلالها وللشعب كرامته، ولترد الحقوق المسلوبة لأهلها، أو يعفون.. لهؤلاء جميعاً أقول: لا تخشوا من منابر التفاوض متى ما لمستم قدراً معقولاً من جدية الوسطاء وحيادهم، ولا تسمحوا لخصمكم السياسي أن يضعكم، أمام الرأي العام المحلي والإقليمي والدولي، في خانة الرافضين للسلام غير العابئين بمعاناة شعبكم، واعلموا أنه ما من قوة في الأرض تستطيع أن تفرض عليكم سلماً ما فشلت في أن تفرضه حرباً، فإن آنستم رشداً في بعض أبناء وطنكم المستخدمين بيادق للخارج فلا تعينوا عليهم أبالسة الإنس، وإن أصروا على ضلالتهم فواجهوهم في الميدان وادخلوا عليهم أيضاً غرف التفاوض، حتى يشهد العالم أنهم هم دعاة الحرب ومجرميها ومنتهكي حقوق الإنسان، فهم أصحاب البضاعة المزجاة ولستم أنتم.
إنضم لقناة النيلين على واتسابالمصدر: موقع النيلين
إقرأ أيضاً:
انقسام وشيك للسودان المنهك
زوايا
حمّور زيادة
مع بداية الشهر الثالث والعشرين للحرب في السودان، انقسمت القوى السياسية، وحلّت تنسيقية القوى الديمقراطية والمدنية (تقدم) نفسَها لتتحوّل الى جسميْن برؤيتين مختلفتين. الجانب الذي يضم أغلبية القوى المدنية، والتي كانت جزءاً من تحالف قوى الحرية والتغيير، أعلن برئاسة رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك تكوين جسم جديد يسعى إلى محاولة وقف الحرب. بينما انحاز الجانب الذي يضم أغلبية الحركات المسلحة، ومعها بعض الذين هاجروا إليها بعد انقلاب 25 أكتوبر/ تشرين الأول (2021)، لتكوين حكومة في مناطق سيطرة قوات الدعم السريع. وهكذا تمضي المجموعة الثانية بسرعة في طريق تقسيم السودان بشكل رسمي، بإحداث وضع حكومتين. ورغم الخسارة الوشيكة لهذه المجموعة العاصمة الخرطوم، التي يمكن أن يعلن الجيش استعادتها في أي لحظة في الأسابيع المقبلة، إلا أنها توجه أنظارها كما يبدو نحو مدينة الفاشر. المدينة المحاصرة منذ أكثر من عام ونصف العام، وتواجه استنزافاً شبه يومي، يوشك أن يتحوّل إلى مذبحة تحت أنظار العالم أجمع.
المدينة التي تشهد وقفة القوات المشتركة لحركات دارفور المسلحة، الخصم القديم والرئيسي لقوات الدعم السريع، تضم مئات آلاف من النازحين، وتقف عقبة أمام إعلان الحكومة الموازية. ورغم المناشدات الدولية والعقوبات، تمضي قوات الدعم السريع في استهداف المدينة، منذرةً بإبادة تواجهها أعراق دارفورية، في استكمالٍ لحرب الإبادة التي دعمها نظام عمر البشير السابق وجنرالات الجيش الحاكمون.
يبدو العالم كما لو ترك الفاشر لمصيرها. تقرّر عن نفسها وعن آخر شكل لوحدة سياسية هشة خرّقتها ثقوب الرصاص. فامتناع المدينة عن قوات الدعم السريع ربما يعيق قليلاً إعلان الحكومة الموازية. وهو ما يبقي السودان، اسمياً فقط، تحت سلطة عسكرية واحدة تحكم من العاصمة البديلة. بينما تُظهر التقارير الإعلامية كيف تحوّلت العاصمة القديمة إلى ركام. استطاعت حربٌ لم تكمل العامين بعد تدمير المدينة التي عاشت حوالي 200 عام، وتوشك أن تدمّر وحدة البلد المنهك بالحروب الأهلية أكثر من نصف قرن.
انقسام القوى السياسية التي اتحدت تحت شعار محاولة وقف الحرب يبدو منطقياً، بعدما تجاوزت الحرب خانة المخاوف، فكل ما تحذّر منه القوى السياسية حدث. وعربة الحرب المندفعة داست على حلم التحوّل الديمقراطي، وأصبح البلد المناضل منذ العام 1958 للخروج من نار الحكم العسكري مندفعاً لمنح السلطة للجيش مقابل الأمان في جانبٍ منه، ومهرولاً لتقسيم البلاد بحكومة محمية ببندقية متهمة بارتكاب جرائم الحرب والتطهير العرقي في جانب آخر.
صادرت البندقية العملية السياسية. وحدثت جرائم الاستهداف العرقي. وزادت قوة المليشيات القديمة والجديدة التي حلّت مكان مليشيا "الدعم السريع" في التحالف مع الجيش. ونظّم قادة الجيش والحركة الإسلامية أكبر عملية غسيل سمعة ليتحول من اعتُبروا سنواتٍ "أعداء الشعب وطغاته" إلى منقذيه وأبطاله.
في الوقت نفسه، يمضي الجيش السوداني في تأكيد احتكاره السلطة المستقبلية، فقائده الذي أعلن، السبت، أن "القوى المساندة للجيش لن تختطف السلطة بعد الحرب"، عاد ليؤكّد، الخميس، أن "الجيش لن يتخلى عن الذين حملوا السلاح وقاتلوا بجانبه، وأنهم سيكونون جزءاً من الترتيبات السياسية المقبلة". تُخبر هذه التصريحات بأن السلطة للجيش، وهو من يحدّد من يشارك معه فيها، وهو من يطمئن القلقين على حصّتهم. يحدُث هذا مع تنامٍ غير مسبوق لتيار شمولي يؤيد بلا تحفظ استمرار الحكم العسكري ظنا أنه جالب الأمان والمظهر الأخير لوحدة السودان.
ما بدأ باشتباكات مسلحة في قلب الخرطوم قبل حوالي عامين تحوّل اليوم إلى أكبر أزمة نزوح في العالم، وحرب تهدّد تماسك البلاد. ولم تنجح القوى السياسية في وقف الحرب، إنما كانت ضحيتها الأولى. تاركة البلاد تواجه مصيرها المحتوم بين بنادق المتقاتلين.
قسّمت الحرب الأهلية الأطول في تاريخ القارّة الأفريقية (1955 – 2005)، السودان إلى بلدين، شمال وجنوب. وتبدو الحرب الأهلية الحالية ماضية إلى تقسيم جديد، شرق وغرب. وهو تقسيم قد لا يصمد سياسياً وقتاً طويلاً، لكن أثره المباشر سيكون مدمّراً على البلاد التي لم يبق فيها ما يُدمّر.
نقلا عن العربي الجديد