لأكثر من عشر سنوات، ظلت الحركة الشعبية بزعامة الراحل جون قرنق تفاوض حكومة الإنقاذ، وتحاربها في نفس الوقت، وكان قرار الحركة الاستراتيجي هو “عدم الوصول إلى اتفاق”!!

قد يسأل سائل، ولماذا المفاوضات إن كانت النية عدم الوصول إلى اتفاق سلام، والإجابة التي كان يعرفها الكثيرون هي أن الحركة الشعبية كانت تتخذ من المفاوضات منبراً للعلاقات العامة، ولا تريد أن تخسر وسيطاً من الوسطاء ولا أن تعطي انطباعاً للرأي العام الدولي والإقليمي بأنها تقف حجر عثرة أمام وقف الحرب ورفع المعاناة عن المواطنين الذين تدعي أنها تحارب من أجلهم.

لم تتخذ الحركة الشعبية قرارها الإستراتيجي بأن تفاوض بجدية وبهدف الوصول إلى سلام إلاّ بعد أن جاءتها الإشارة القوية بذلك من الرعاة الخارجيين، وكان تقدير الرعاة أن المفاصلة التي حدثت داخل الحزب الحاكم والتيار الاسلامي قد تشكل فرصة مواتية للحصول على مكاسب لصالح مشروع الحركة، إما بعلمنة السودان أو بفصل الجنوب، بينما كانت الإنقاذ – قبل المفاصلة وبعدها – على استعداد لخوض المفاوضات بجدية وخوض الحرب كذلك بنفس الجدية، واستراتيجيتها في ذلك أن يفشل الرعاة الخارجيون ، مهما قدموا من دعم، في فرض أجندة سياسية عن طريق البندقية.

الخارج الذي كان يدعم معارضات نظام الإنقاذ، جنوبيها وشماليها، العسكرية منها والسياسية، والذي نجح ، بعد ثلاثين عاماً، في صناعة حالة ثورية أسقط بها النظام، هو ذات الخارج الذي ظل يُصر على أن تحكمنا قوى الحرية والتغيير بدون إنتخابات بعد أبريل 2019، وهو ذاته الذي أراد – لاحقاً – للدعم السريع أن يتمرد وينقلب على السلطة التي كان يتحكم في كثير من مفاصلها، بدعوى إعادة الحكم إلى أولئك “المدنيين” غير المنتخبين.. فعل ذلك لأنه كان يريد أن يستكمل استتباع السودان له، ويديره الوسطاء الإقليميون بواسطة عملاء محليين.

ومن بعد أن فشل هذا المخطط، وتحول الإنقلاب إلى حرب هجينة وهمجية، ارتكبت فيها جميع أشكال الفظائع والجرائم والانتهاكات ضد حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، وجد “الخارج” نفسه في ورطة، فقد انبرت قطاعات واسعة من السودانيين للدفاع عن أعراضها وكرامتها والتفت حول جيشها الذي كانت أول المقاصد هزيمته وتفكيكه بالقوة بعد أن رفض أن يمد عنقه للذبح بسكين الإتفاق الاطاري !

وصمة الانتهاكات التي كانت تتباهى بها ميليشيا الدعم السريع، أحرجت الراعي الأمريكي مع حلفائه/وكلائه/ أصدقائه الإقليميين الذين سارعوا لسلخ جلد مجموعة المجلس المركزي في قوى الحرية والتغيير وإلباسها وجهاً تنكرياً أسموها بموجبه “تنسيقية القوى السياسية والمدنية” لإزالة بعض الحرج عنهم أمام الرأي العام الغربي بحجة أن هؤلاء هم الذين استجابوا ل “تطلعات الشعب السودان في الحكم المدني”، وبرغم الإتفاق الذي جرى توقيعه بين قائد “تقدم” وقائد المليشيا المشكوك في حقيقته، مطلع هذا العام، إلا أن المليشيا خذلت جناحها المدني وواصلت الإنتهاكات بصورة أفظع، وتحولت الأوضاع في السودان إلى حالة إنسانية قياسية في كل ضرب من ضروب الآثار الجانبية للحروب، فأعداد النازحين واللاجئين والمختطفين والمختفين قسرياً والمغتصبات والجوعى من النساء والأطفال والعجزة، هزت ضمير العالم وأحرجت الرعاة الكفلاء مع الوكلاء ، وأخذ الجميع يبحث عن مخرج يحافظ به على ما تبقى من صورته أمام العالم ويجد عن طريقه موطئ قدم للجناح السياسي للمليشيا وربما لما تبقى من عناصرها المقاتلة في مستقبل الدولة السودانية.

وبهذه الخلفية نستطيع أن نفهم الصورة الكلية للتحركات الدبلوماسية المكثفة التي انتظمت الإقليم لوضع حد للحرب الدائرة في السودان، فالراعي الرسمي لحرب السودان، وأعني به الولايات المتحدة الأمريكية، اقتنع بأن تقديرات وكلائه لنتائج الحرب أتت بما لا يشتهون، وأن هؤلاء الوكلاء، برغم استمرارهم في تقديم جميع أشكال الدعم للمليشيا، إلاّ أن أهدافهم التي من أجلها حولوا انقلابهم الفاشل إلى حرب هجين وهمجية، أخذت تبتعد منهم كل يوم، والراجح أن الرأي انعقد على الوصول لنهاية للحرب قبل أن يذهب الناخبون الأمريكيون إلى صناديق الاقتراع في نوفمبر القادم، إذ أنه برغم أن الشأن الخارجي لا يشكل إلا جزءاً يسيراً من اهتمامات الناخب الأمريكي إلا أن فشل ادارة بايدن في تحقيق أي قدر من الإنجاز لصالح السلم الدولي، كما في حالة الحرب بين روسيا وأكرانيا والحرب الإسرائيلية على غزة، يجعلها تعتقد أن في مشروع وقف الحرب في السودان حافزاً لتحسين صورتها ولضمان استمرار تأييد الأمريكان من أصول أفريقية وبعض مجموعات الضغط التي طالما اعتبرت أن الأوضاع في دارفور قضية داخلية !!

إن الزخم الإقليمي والدولي الذي بدأ يتصاعد منذ مؤتمر باريس للقضايا الإنسانية في أبريل الماضي، بمناسبة مرور عام على اندلاع الحرب، وما تبعه من لقاءات بين فرقاء في جنيف وهلسنكي، مروراً بمؤتمر القاهرة الذي كان أكثرها شمولية وأرفعها تمثيلاً للقوي السياسية والمدنية، وتقاطر وفود الفاعلين الإقليميين على بورتسودان منذ الأمس، ثم الحراك الدبلوماسي الذي تشهده عاصمتا الإتحاد الأفريقي والإيغاد، يأتي كله لحفظ ما تبقى من ماء وجه الوكلاء والكفلاء و لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من أدوات داخلية، عسكرية وسياسية، ممثلة في المليشيا وجناحها السياسي، حتى يمكن الإستفادة منها في مناسبات لاحقة إن دعت الضرورة.

إن أي تصنيف للحرب التي يخوضها شعب السودان وقواته المسلحة، منذ منتصف أبريل 2023 سوى أنها حرب استقلال ضد أدوات القوى الخارجية التي تريد أن تسلب شعبنا قراره الوطني، وأن ميليشيا الدعم السريع وتنسيقية القوى المدنية “تقدم” هما وجهان لأداة واحدة من أدوات قوى الهيمنة الدولية، هو تصنيف منقوص وتوصيف مبتسر إن لم نقل خاطئ، وعلى ضوء هذا التصنيف على القوى السياسية غير المنخرطة في حلف المليشيا أن تأخذ مواقعها، وقد فعل بعضها ذلك منذ وقت مبكر، وعَرِف فلزم، وانخرط في سلك الجندية منافحاً عن استقلال الوطن وبقائه، بالمال والنفس والولد، والبعض الآخر لا يزال على الأعراف، يكره المليشيا وجناحها السياسي لكنه لا يمانع من التعامل مع رعاتهما، إلى الحد الذي يأمل فيه أن يتقدم إلى مقام “تقدم”!!

رسالتي هنا أولاً لأهل الأعراف وللباحثين عن الأنفال، أن اختاروا الموقف الصحيح من التاريخ وانحازوا إلى استقلال بلادكم من قوى الهيمنة والتبعية، وثانياً للقوى التي عرفت طبيعة الحرب بشكل صحيح واختارت استقلال الوطن على تبعيته، فعبأت منسوبيها للقتال جنباً إلى جنب القوات المسلحة لتحفظ للبلاد استقلالها وللشعب كرامته، ولترد الحقوق المسلوبة لأهلها، أو يعفون.. لهؤلاء جميعاً أقول: لا تخشوا من منابر التفاوض متى ما لمستم قدراً معقولاً من جدية الوسطاء وحيادهم، ولا تسمحوا لخصمكم السياسي أن يضعكم، أمام الرأي العام المحلي والإقليمي والدولي، في خانة الرافضين للسلام غير العابئين بمعاناة شعبكم، واعلموا أنه ما من قوة في الأرض تستطيع أن تفرض عليكم سلماً ما فشلت في أن تفرضه حرباً، فإن آنستم رشداً في بعض أبناء وطنكم المستخدمين بيادق للخارج فلا تعينوا عليهم أبالسة الإنس، وإن أصروا على ضلالتهم فواجهوهم في الميدان وادخلوا عليهم أيضاً غرف التفاوض، حتى يشهد العالم أنهم هم دعاة الحرب ومجرميها ومنتهكي حقوق الإنسان، فهم أصحاب البضاعة المزجاة ولستم أنتم.

إنضم لقناة النيلين على واتساب

المصدر: موقع النيلين

إقرأ أيضاً:

50 عاما على نهاية حرب فيتنام التي غيّرت أميركا والعالم

لم يكن 30 أبريل/نيسان 1975 يوما عاديا في التاريخ الفيتنامي، فقد انتصرت فيتنام الشمالية آنذاك، وأُعيد توحيد شطري البلاد بعد حربين مع إمبراطوريتين أودتا بحياة نحو مليوني فيتنامي، وفقدت فرنسا كامل نفوذها تقريبا بالمنطقة، بينما خسرت الولايات المتحدة -التي تورطت بعدها- نحو 58 ألف جندي و120 مليار دولار في الحرب التي باتت الأكثر "إذلالًا" في تاريخها.

وبدت حرب فيتنام -أو حروبها- بتشابكاتها الدولية والإقليمية تجسيدا لنظرية "الحرب التي تلد أخرى" في ظل صراع ساخن في بواكير الحرب الباردة. فقد أدت معركة ديان بيان فو (13مارس/آذار-7 مايو/أيار 1954) عمليا إلى نهاية الإمبراطورية الاستعمارية الفرنسية في منطقة الهند الصينية برمتها، وخسرت أيضا مستعمراتها الأخرى في أفريقيا بفعل صعود حركات التحرير التي تأثرت بالمقاومة الفيتنامية، وبمفاعيل "نظرية الدومينو" العسكرية والسياسية.

اقرأ أيضا list of 4 itemslist 1 of 4كوارث بيئية لا تنسى.. "العامل البرتقالي" الأميركي بفيتنامlist 2 of 4الجزيرة نت في فيتنام.. احتفالات عارمة في "هو تشي منه" بخمسينية النصر والوحدةlist 3 of 4حرب فيتنام.. خمسينية النصر والوحدةlist 4 of 4هو شي منه قائد ثورة فيتنام ضد فرنسا وأميركاend of list

كانت حرب فيتنام نتاج سنوات من مقاومة الاحتلال الفرنسي للبلاد (منذ عام 1883) ثم الغزو الياباني الذي انتهى بهزيمتها في الحرب العالمية الثانية، والمد الشيوعي في المنطقة وصراع الأيديولوجيات، ومحاولات تقسيم البلاد، وبلغت أوجها مع التدخل الأميركي العسكري المباشر لمحاولة صد التوغل الشيوعي السوفياتي الصيني.

إعلان

وعمليا، لم تكن حرب الهند الصينية الأولى (بين عامي 1946 و1954) معركة الولايات المتحدة، لكنها كانت تمول فعليا نحو 78% من تكلفة تلك الحرب -وفق أوراق البنتاغون المنشورة عام 1971- وتقدم مساعدات عسكرية ولوجستية ضخمة لفرنسا، خوفا من التمدد الشيوعي وسيطرة الصين على المنطقة وصعود الاتحاد السوفياتي إذا هزمت القوات الفرنسية.

كما ناقش المسؤولون الأميركيون -تبعا لهواجسهم تلك- دعما إضافيا لفرنسا ضمن ما عرف بـ"عملية النسر" (Operation Vulture) وهي مقترح خطة عسكرية كبيرة، من أجل إسناد الفرنسيين في معركة ديان بيان فو، وضعها الرئيس دوايت آيزنهاور (حكم بين 1953 و1961) ومستشاروه.

وتضمنت العملية -اعتمادا على وثائق رفعت عنها السرية- قصفا مركزا ومكثفا مع احتمال استخدام قنابل ذرية اقترح تقديمها لفرنسا، وتدخلا بريا. لكن العملية لم تنفذ في النهاية وانسحبت فرنسا بخسائر فادحة، بعد توقيع اتفاقية جنيف للسلام في يوليو/تموز 1954 التي نصت على تقسيم فيتنام إلى شطرين، ولم توقع الولايات المتحدة وحكومة سايغون الموالية لها على الاتفاق رغم حضورهما. وبدأ التورط الأميركي العسكري تدريجيا لحماية النظام الموالي لها في فيتنام الجنوبية ومحاربة المد الشيوعي، إلى حد التدخل المباشر والمعلن عام 1963.

الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون (يمين) ووزير خارجيته هنري كيسنجر (أسوشيتد برس) نظرية الرجل المجنون

في منتصف عام 1968، وتحت ورطة الفشل في حرب فيتنام، اعتمد الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون (1969-1974) على مبدأ تحقيق "السلام بالقوة" عبر "المزيد من قاذفات بي 52" التي أوصاه بها وزير خارجيته هنري كيسنجر، مبتدعا ما سماها "نظرية الرجل المجنون".

ويكشف رئيس موظفي البيت الأبيض بوب هالدمان في مذكراته عام 1994 عن إستراتيجية الرئيس نيكسون لإنهاء حرب فيتنام التي أسرّ له بها قائلا "أنا أسميها نظرية الرجل المجنون، بوب.. سنرسل لهم رسالة مفادها يا إلهي، أنتم تعلمون أن نيكسون مهووس بالشيوعية لا يمكن كبح جماحه عندما يكون غاضبا ويده على الزر النووي.. سيصل هو شي منه (الزعيم الفيتنامي) بنفسه إلى باريس في غضون يومين ويطلب السلام".

إعلان

وكتب هالدمان أن الرئيس نيكسون سعى إلى تنفيذ إستراتيجية التهديد باستخدام القوة المفرطة لتقويض خصومه، وإجبارهم على الاستسلام أو التسوية. وبهذه الطريقة، يصبح عدم يقين الفيتناميين بشأن الخطوات المستقبلية للزعيم "أداة إستراتيجية في حد ذاتها".

وفي 4 أبريل/نيسان 1972 قال نيكسون لهالدمان والمدعي العام جون ميتشل "لم يُقصف الأوغاد قط كما سيُقصفون هذه المرة" عند اتخاذه قرارا بشن ما أصبح يُعرف باسم عملية "لاينباكر التي مثلت تصعيدا هائلا في المجهود الحربي، الذي شمل قصف ميناء هايفونغ، وحصار ساحل فيتنام الشمالية، وحملة قصف جديدة ضخمة ضد هانوي.

ولا تثبت الوقائع التاريخية أن الزعيم الفيتنامي هو شي منه خضع لنظرية "الرجل المجنون" عندما تم توقيع اتفاق السلام في باريس يوم 23 يناير/كانون الثاني 1973، لكن الولايات المتحدة استخدمت قوة هائلة ومفرطة لمحاولة إخضاع الفيتناميين، وفكرت في استعمال السلاح النووي.

كانت نظرية "الرجل المجنون" تجسيدا للإحباط الذي أصاب الإدارة الأميركية من صمود المقاومة الفيتنامية والخسائر الفادحة في صفوف الجيش الأميركي، ومن حركة الرفض الواسعة للحرب في المجتمع الأميركي، واهتزاز الضمير العالمي من المشاهد المؤلمة للمجازر البشعة، سواء في مذبحة "ماي لاي" في 16 مارس/آذار 1968 التي قتل فيها 504 من المدنيين العزل، وغيرها من المجازر.

وفي المقابل، كانت نظرية الجنرال فو نغوين جياب قائد قوات قوات "الفيت منه"(رابطة استقلال فيتنام) تراوح بين خطتي "هجوم سريع.. نصر سريع" و"هجوم ثابت.. تقدم ثابت" واعتماد الحرب الشعبية وحروب العصابات الخاطفة واستنزاف العدو، حيث يقول في مذكراته "إن كل واحد من السكان جندي، وكل قرية حصن" وكانت نظريته أن حرب العصابات هي "حرب الجماهير العريضة في بلد متخلف اقتصاديا ضد جيش عدواني جيد التدريب".

الزعيم الفيتنامي الراحل هو شي منه رفض التخلي عن فكرة توحيد فيتنام (غيتي) ) الورطة والمقاومة

بدأ التورط الأميركي عمليا في حرب فيتنام بعد خروج القوات الفرنسية، ومنذ عام 1961 أرسلت واشنطن 400 من الجنود والمستشارين لمساعدة حكومة سايغون الموالية في مواجهته قوة هو شي منه الشيوعية، ومع التوصيات بزيادة المساعدات استجاب الرئيس جون كينيدي. وبحلول عام 1962 زاد الوجود العسكري الأميركي في جنوب فيتنام إلى نحو 9 آلاف جندي.

إعلان

ومع بداية عهد الرئيس ليندون جونسون (1963-1969) -الذي منحه الكونغرس صلاحيات واسعة في الشؤون الحربية- بدأت القاذفات الأميركية تنفيذ عمليات قصف منتظمة على فيتنام الشمالية وقوات "الفيت- كونغ" (الجبهة الوطنية لتحرير جنوب فيتنام). وفي مارس/آذار 1965، بدأ تدفق القوات الأميركية إلى فيتنام الشمالية، حتى وصل إلى 200 ألف عام 1966، ثم نحو 500 ألف في نوفمبر/تشرين الثاني 1967.

وكانت قوات الزعيم هو شي منه، وقائد العمليات الجنرال جياب، تعتمد على التكتيكات الحربية النوعية والهجمات الخاطفة والكمائن والأنفاق والحرب الطويلة الأمد كما كانت تعتمد على الإمدادات القادمة من كمبوديا ولاوس المجاورتين، وعلى الدعم النوعي الذي تتلقاه من الصين ومن الاتحاد السوفياتي، خصوصا منظومات الدفاع الجوي التي أسقطت عشرات قاذفات "بي-52". ومع بداية عام 1968 بلغت الخسائر الأميركية 15 ألف قتيل و109 آلاف جريح.

وفي المقابل، زادت الولايات المتحدة من وتيرة القصف الجوي العنيف واستعمال الأسلحة المحرمة دوليا مثل "النابالم" وما سمي "العامل البرتقالي" -الذي يحتوي على "الديوكسين" وهو أكثر تلك المبيدات ضررا وفتكا- على فيتنام ولاوس وكمبوديا، ومازالت آثاره البيئية الخطيرة قائمة.

فتاة النابالم اعتبرت وثيقة تدين الحرب الأميركية في فيتنام (أسوشيتد برس) صورة الهزيمة

لم تكن الخسائر البشرية لوحدها ذات التأثير الأكبر فيما اعتبر هزيمة أميركية عسكرية وأخلاقية في فيتنام، فقد مثلت تلك الحرب أول "حرب تلفزيونية" مع بروز سطوة التلفزيون والصورة، وكانت للتقارير الإعلامية عن المجازر في فيتنام ذات تأثير واسع في الرأي العالم الأميركي والعالمي وفي قرارات الإدارة الأميركية لاحقا، خصوصا صورة "طفلة النابالم" التي كانت تجري عارية بعد أن أسقطت طائرة أميركية مادة النابالم الحارقة على قريتها في 8 يونيو/حزيران 1972.

إعلان

وفي 29 أبريل/نيسان 1975، ألقى الرئيس الأميركي جيرالد فورد (1974-1977) بيانا أعلن فيه إجلاء الموظفين الأميركيين من فيتنام قائلا "تعرض مطار سايغون لقصف صاروخي ومدفعي متواصل، وأُغلق بالكامل. تدهور الوضع العسكري في المنطقة بسرعة. لذلك، أمرتُ بإجلاء جميع الموظفين الأميركيين المتبقين في جنوب فيتنام" وكانت تلك نهاية الوجود الأميركي في هذه البلاد، ودخول قوات الجنرال جياب إلى المدينة اليوم التالي.

ولا تزال مجريات حرب فيتنام، بمآسيها وصمود مقاومتها وتوحيد شطريها، من بين أحداث العالم الفارقة خلال القرن العشرين، وواحدة من الحروب التي غيّرت وجه الولايات المتحدة والعالم بأبعادها العسكرية والسياسية وآثارها الإنسانية، كما باتت تكتيكاتها وأساليبها تدرس في الكليات العسكرية، وتتبعها حركات مقاومة أخرى حول العالم.

وبينما تحتفل بالذكرى الخمسين ليوم تحرير الجنوب وإعادة التوحيد الوطني، لم تعد مدينة سايغون (عاصمة فيتنام الجنوبية سابقا) -التي باتت تسمى هو شي منه نسبة إلى الزعيم الأسطوري لفيتنام- رهينة جراحات الماضي الأليم وأهواله، فقد تحولت على مدى الـ50 عاما الماضية إلى مدينة ناطحات سحاب براقة، وأعمال مزدهرة ومركز صناعي حيوي ونقطة جذب سياحية عالمية.

مقالات مشابهة

  • باحث: 7 أكتوبر كانت الفرصة التي انتظرها الإخوان لإحياء "الربيع العربي"
  • مصدر أمني بالسويداء لـ سانا: إننا نحذر كل الأطراف التي تحاول المساس بالاتفاق الذي أكد على ضرورة ترسيخ الأمن والاستقرار في المنطقة، ومدينة السويداء على وجه الخصوص
  • مفوض حقوق الإنسان: الرعب الذي يتكشف في السودان لا حدود له
  • شريط الأشباح رقم 10 الذي خاضت به أميركا الحرب النفسية مع فيتنام
  • الدُّب … الذي بكته السماء !
  • والي شمال دارفور وقائد الفرقة السادسة يهنئان البرهان بالإنتصارات التي حققتها القوات المسلحة على المليشيا بالفاشر
  • السلطات بالخرطوم تشرع في إزالة ونظافة أكبر البؤر التي كانت تستخدمها المليشيا للمسروقات والظواهر السالبة
  • الجيش السوداني لرويترز: السودان كشف تورُّط الإمارات الإجرامي وضلوعها في قتل السودانيين بدعمها ورعاية المليشيا.. والآن تحاول ذر الرماد في العيون وتختلق التهم الباطلة
  • المجد للبندقية التي حرست المواطن ليعود الى بيته الذي كانت قحت تبرر للجنجويد احتلاله
  • 50 عاما على نهاية حرب فيتنام التي غيّرت أميركا والعالم