تجويد التعليم العالي: تحدّيات وحلول
تاريخ النشر: 9th, July 2024 GMT
د. يحيى بن ربيع النهدي
(الأستاذ الجامعي - 1)
كنت جالسا مع أحد الأصدقاء الأكاديميين -الذين شقوا طريقهم بكفاح؛ ليكونوا أكفاء في العمل الأكاديمي- وقد سرد لي قصته؛ ليصل إلى أستاذ له أهميته في مؤسسته الأكاديمية، قائلا: "عندما كنت طالب دكتوراه في إحدى جامعات الدول المتقدمة كان طموحي وهدفي الأساسي من تكملة دراساتي العليا الالتحاق بسلك التدريس بمؤسسات التعليم العالي في الوطن، وعليه أردت أن أرقى لهذا المستوى بالجمع بين الشهادة والمهارات الأكاديمية؛ فطلبت من مشرفي أن أكون مساعده في محاضراته؛ فرفض طلبي قائلا لي: "أنت تفتقر إلى المهارات التدريسية، وإن كنت في طريقك للحصول على المؤهل"، فسألته عن الحل، فأجاب بأن ألتحق بدبلوم إعداد المدرسين لمدة عام كامل أو إحدى الشهادات التي تؤهل الشخص لأن يكون أكاديميا- وهي متوفرة في تلك الدولة- هذا كله فقط لأحضر محاضراته وأساعده في إعطاء بعض الدروس العامة.
من تتح له الفرصة للتدريس بمؤسسات التعليم العالي في الدول المتقدمة أو حتى الدراسة كطالب بإحداها؛ سيدرك- وبكل وضوح- معنى جودة "الأستاذ الجامعي"؛ فالأكاديمي في تلك البيئة التعليمية تجده في كثير من الأحيان- يصل إلى درجة "العالم" في مجاله؛ فنجد منهم من كان له السبق في براءة اختراع أوصله إلى جائزة نوبل، أو صاحب نظرية علمية تدرَّس على مستوى الجامعات أو- على الأقل- صاحب كتاب يكون المصدر الرئيس لمناهج التعليم العالي في جامعات العالم. وكلنا يتذكر الأسماء الكبيرة التي ارتبط اسمها بمناهج تدريسية، وأشهرها "نعوم تشومسكي" العالم والبروفيسور الأمريكي الذي تُعدُّ كتبه مصدرًا للكثير من مناهج كليات اللغات والآداب. في هذه الدول تظهر جودة الأستاذ الجامعي بما يمتلك من قدرات عالية في التأليف والنشر والبحث عن الجديد حول العالم، كلُّ ذلك مقرونٌ بقدرات ومهارات فردية تساعده في نقل المعرفة بطريقة فاعلة مبتكرة تسهم بشكل كبير في توسيع مَلكة الفهم لدى الطالب وتطوير مهاراته الإداركية والنقدية، وهو بعيدٌ كلَّ البعد عن مفهوم "الإملاء وحشو المعلومات والحفظ"، وهذا يعكس الانتقائية العالية في اختيار الأكاديميين في جامعات تلك الدول، فأن تكون أستاذًا جامعيًّا في تلك الجامعات ليس بالأمر السهل المنال. ففي اليابان- على سبيل المثال- هناك جامعة طوكيو، أرقى الجامعات على مستوى العالم، وهي حلم كلِّ من لديه طموح في أن يكون أكاديميا، إلا إنَّ الشروط الصعبة تحول بينهم وبين ما يشتهون. وإذا ما أراد الطامح قوي الإرادة منهم أن ينافس؛ ليكون له موطئ قدم في هذه الجامعة، عليه أن يستعد مبكرا ومنذ سنوات دراسته المتوسطة، كالرجوع إلى امتحانات القبول السابقة ومراجعتها مراجعة مستفيضة، وأن يكون مستعدا ذهنيا ومعرفيا للاختبارات عند الحصول على الثانوية، ولن ينجح في ذلك إلا القليل! لذلك فهي جامعة تقدم الجودة في التعليم بكل معانيها (البلاغ: https://mail.balagh.com/article/pdf/2247) نموذج جامعة طوكيو وأسلوبها في إختيار الاكاديمين الذي ينتج عنه غالبا بروفوسورات من أمثال " نعوم تشومسكي" قليلة في واقعنا التعليمي، فالأكاديمي في بعض جامعاتنا لا يتعدى أن يكون ناقلا للمعرفة، محدود الإنتاج البحثي والفكري.
إنَّ أسباب ضعف الأستاذ الجامعي في الدول العربية -كما أراها- كثيرة، أبرزها: العبء التدريسي الذي يُكلَّف به الأستاذ الجامعي في مؤسساتنا التعليمية، فتجده مثقلًا بالمحاضرات من الطلوع إلى الغروب، وما تبقى من وقته يذهب إلى ما يصاحب هذه المحاضرات من واجبات تعليمية كالتحضير، إعداد الامتحانات، التصحيح، وغيرها؛ ولهذا فإن كان لديه الطموح والحافز للتطوير؛ فسيرجع هذا الطموح إلى الوضع العادي ويتوقف عن فكرة التغريد خارج السرب؛ ليصبح كما يمسي، ويمسي كما يصبح أستاذا جامعيا يكفيه من الأمر الاسم فقط.
والسبب الآخر يعود إلى آليات اختيار الأساتذة الجامعيين في جامعات هذه الدول، فالطريقة الأولى تنطوي على اختيار معيدين من أوائل دفعات الخريجين في التخصص إلا أنه ليس كلُّ مَن حصل على معدلات عليا مناسبًا للتدريس في الجامعات؛ فالأستاذ الجامعي مصدر إلهام للطالب وسنده خلال وجوده على مقاعد الدراسة وبعد تركها، وكثيرون ممن وصلوا إلى نجاحات، يعود الفضل في نجاحاتهم -بعد الله- إلى أساتذتهم في الجامعة. تقول ياسمين نصر (2020): "الأستاذ الجامعي هو وسط مثلث، ضلعه الأول التعليم (تدريس الطلبة وتوفير المعلومة لهم)، والثاني التعلم (القراءة والاستفادة المستمرة من خبرة الأقران)، والثالث البحث العلمي (استثمار خبرتك وتطويرها في هيئة أبحاث علمية تفيد الآخرين)". ومن المعروف أنَّ هذه الأضلاع الثلاثة لا تنتهي، ويكمل بعضها بعضًا من خلال استخدام إستراتيجيات تعليمية فعالة، وتطويرها للوصول إلى طلبة هذا الجيل، والاستفادة القصوى من التطور التكنولوجي العالمي. وبالإمكان إثراء الخبرة العلمية والعملية من خلال التواصل العلمي على مستوى العالم عن طريق المؤتمرات والأبحاث العلمية ومجال البحث العلمي".
أمَّا عن الطريقة الثانية في الاختيار -والتي أراها كذلك لا تخدم جودة التعليم- فهي أن تقوم بعض مؤسَّسات التعليم العالي باستقطاب أصحاب المهن- من غير المتمرسين بمهنة التدريس- ليكونوا أساتذة جامعيين، هذه الفئة- غالبا- تعمل بالنظام الجزئي أو الكامل إن كانت من المتقاعدين، وأمَّا إن كانت من أصحاب المؤهلات فإنها- وكما يقال- الشهادة تشهد بأنَّك متعلم ولا تشهد بأنَّك عارف؛ فالعمل الأكاديمي مبني على المعرفة مع تجديدها وإبعادها عن مستوى الركود، مع ما يصاحب ذلك من مهارات التدريس التي يجب أن يمتلكها مَن هو في أروقة الجامعات؛ فكيف لعامل قضى عشرين سنة في مهنة غير مهنة التدريس أن يأتي بين عشية وضحاها ويرتقي مدرجات الجامعة، وهو لا يمتلك أدنى ما تتطلبه مهنة التدريس من مهارات!
والطريقة الثالثة في الاختيار التي تسلكها مؤسسات التعليم العالي -التي أجدها كذلك ليست بالطريقة المثلى- هي أن تقوم بعض هذه المؤسسات بالتعاقد مع محاضرين من جنسيات أخرى غير العمانيين، وبقدرات أكاديمية متواضعة- أحسبهم أكاديميين على الورق، ولكن عمليًّا هم بعيدون كل البعد من أن يصلوا إلى مستوى الأستاذ الجامعي الناجح-، والسبب في وجود مثل هذه الفئة، هو العشوائية في الاختيار، والبحث عن الرخيص من قبل بعض هذه المؤسسات التي تهدف إلى تعظيم الربح؛ كونها مؤسسات ربحية في المقام الأول؛ فترى الأولى أن تضحِّي بالجودة مقابل رفع العائد المادي.
في مقالي القادم، سوف أتطرق إلى الحلول التي سوف أقترحها والتي ربما تُسهم في وجود أكاديمي من النوعية التي اقترحها "ستيفن".
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
«التعليم العالي» تضيف برامج دراسية جديدة لقوائم الجامعات المعتمدة في أمريكا
|