السودان: بعد سقوط الأقنعة لا للبكاء والعويل
تاريخ النشر: 9th, July 2024 GMT
د. عكاشة السيد عكاشة
يمر السودان الآن بمرحلة خطيرة من تاريخه تتمثل فى فقدان التوازن الذى يهدد البلاد بالإنهيار السياسى الكامل وكل الظواهر والأحداث حالياً تشيرإلى تفكك القيم الإجتماعية وإندثار الأعراف والتقاليد وسط أجواء حملة واسعة وشديدة وقوية لإنتشار خطاب الكراهية والتحريض على القتال وأصبحت هناك تحديات كثيرة تواجه البلاد وتضع أمامنا إفتراضات أكثر حدة فيما قد يحدث فى ظل إننا نواجه حالياً إنفراط عقد النظام العام والنسيج الإجتماعى مع إستمرار تنامى إرتفاع صيحات المتخرصون والمرجفون فى المدينة الذين يسعون بشتى الطرق إلى تأجيج نيران الصراع والحرب بكل الوسائل الممكنة لزيادة الإنشقاق والإنفراط المجتمعى .
سودان اليوم ليس كسودان الأمس بكل المقاييس فى كافة النواحى وإن عسكرة الحكم فى السودان لحقب طويلة أضرت بالتطور الطبيعى المنشود للمسيرة الديمقراطية وجعلت السودان فى حاجة ماسة للإصلاح الشامل فى كافة مناحى وأوجه الحياة FULL REFORM وإن ظاهرة بقاء الجيش كجزء أساسى فاعل فى الصراع السياسى الدائر فى البلاد منذ الإستقلال كانت نتيجته الطبيعية تنامى مظاهر العنف والعنف المضاد بصورة كبيرة كما أن وجود علاقة ملتبسة بين العسكر وبعض القوى السياسية قد ساهم وزاد فى سؤ الأحوال وتعقيداتها وإن عملية التهميش السياسى والإجتماعى والإقتصادى والإستعلاء العرقى من بعض الشرائح كانت نتيجته إندلاع وإشتعال نيران الحرب فى كافة أرجاء البلاد .
سلطة الأمر الواقع الحاكمة حالياً فى السودان تقرأ من نفس كتاب الإنقاذ الذى درجت فيه على عقد الحوارات والإتفاقيات لتجميل وجه النظام دون حصول تغيير جذرى فى بنية الدولة وسياساتها والإنقاذ كانت تقوم خلال إتفاقياتها بعملية إستيعاب فقط للمنحازين للسلام وكانت تعمل على بسط نفوذها وتفرض عليهم تنفيذ برنامجها فقط رغم توقيعهم على إتفاقيات السلام دون مراعاة لأى تفاهمات كانت قد تمت معهم بالتراضى الأمر الذى أفرغ تلك الإتفاقيات من كل محتواها وأهدافها المرجوة وأوقف كل الأمال والأحلام فى عملية تجديد الحياة السياسية فى البلاد وتقدمها للأمام والسلطة الحالية لم تستفيد من دروس الماضى ولم تتعظ من دروس التاريخ وبكل أسف هناك عدد من الإحزاب السياسية المتأكلة قد ساهمت وشاركت بشكل أو بأخر فى وأد عملية الإرتقاء الديمقراطى ومسيرة التحديث والتطور الطبيعى فى البلاد .
إن إقتلاع رواسب فترة حكم الإنقاذ وما صاحبها من أخطاء والوصول إلى بناء سودان جديد تبقى مهمة أساسية ذات أبعاد وأولوية قصوى لإنطلاق عملية إعادة البناء والتحديث وهذا لا يتم بالتمنى بدون النظر فى وضع أسس جديدة لإعادة البنية النفسية للمواطن السودانى أولاً وتأهيله وصياغته من جديد بعد كل الأهوال التى عاشها والقضاء على التشوهات التى حصلت فى مسيرته وإبعاده بصورة شاملة من ظاهرة التعصب العرقى والقبلى والجهوى ولن يصبح السودان بلداً أمناً ومستقراً إلا بإعادة تصميم وتشكيل هياكل جديدة له للبناء الوطنى فى أعقاب هذه الكارثة التى نعيشها وبعد أن مس شعبنا من ضراء كبيرة نتيجة هذه الحرب العبثية المدمرة وهذا يحتاج منا إلى تفكير عميق وإسلوب مبتكر وجهد مضاعف وأن نقوم بإبتداع هندسة دستورية متطورة ومتقدمة وجديدة تساهم وتساعد فى عملية الإصلاح .
الإنقاذ قامت بإفراغ الجيش من كوادره ذات الكفاءة والخبرة وأضعفت قدراته القتالية بصورة كبيرة وخلقت الدعم السريع كجيش موازى له إضافة لقيامها بجعل جهاز الأمن والمخابرات كجيش آخر يتمتع بقدرات قتالية وقامت بتأسيس عدة مليشيات أخرى عديدة كالدفاع الشعبى والمجاهدين ومجندى الخدمة الوطنية وغيره وهذا الوضع أصبح يعقد المشكلة الحالية وآليات الحلول السلمية لها ويصبح حل هذه المعضلة ومعالجتها يحتاج إلى وقفة متأنية ويتطلب التروى والمرونة فى التناول وبسط العدالة والتعامل بالحسنى وإبرازحسن النية لإزالة المخاوف والشكوك بين المجموعات ذات الأراء المتباينة والعمل بتأنى على زرع الطمأنينة والأمان وسط كافة المواطنين وضمان تمتعهم بالحد الأدنى من الأمن الجماعى لبسط السلام والإستقرار بالتدرج وهذا لن يتحقق إلا من خلال العدالة وحكم القانون وإحترام الحقوق الأساسية للمواطنين جميعاً وفق المواطنة كأساس للحقوق والواجبات .
إن التحول الديمقراطى مسؤولية كبيرة ومهمة تهم جميع السودانين بكل أطيافهم كافة من أجل الخروج الآمن من هذا النفق المظلم و التحول الديمقراطى الذى نسعى إليه جميعاً كهدف منشود ولكن لن تنطلق مسيرته بقوة إلا إذا كنا نملك الإرادة والصدق فى المسعى لجعل الحلم حقيقة وذلك عبر بسط المصالحة الوطنية الشاملة وإفشاء روح التسامح كركيزة للتفاهم والإتفاق والتحول الديمقراطى ليس حكراً على حزب أو مجموعة أو فئة بل مسؤولية الجميع ولذلك يجب أن تتضافر وتبذل من أجله جهود جماعية قوية وأن تنبنى مسيرته وفق الوضوح التام والمصداقية فى التناول وبسط المعرفة وسط الجماهير بالواقع المعاش والتطورات الجارية خلف كواليس السياسة واللقاءات التى تتم فى ظل التعتيم الذى تفرضه بعض الأقلام التى فرضت نفسها على الصحف ووسائل الإعلام المختلفة وهم يبيعون يومياً الكذب والوهم للجمهور بلا خجل ويتصدون بالإساءة وبكل ما جاء من كلمات جارحة لكل فرد ينادى بلا للحرب ويوقدون نيران الفرقة والتحريض والكراهية بين الناس دون أن يرمش لهم جفن ( الإختشو ماتوا ) .
الرئيس الأوغندى يورى موسيفنى بإستلامه ملف السلام السودانى يبقى هو الأمل الوحيد المتبقى لجلب الأمن والسلام للشعب السودانى وإسكات صوت البندقية وهوزعيم مؤهل لذلك لما يملك من مؤهلات عسكرية وخبرات سياسية كبيرة وهو لاعب أساسى على المستوى الأقليمى فى مجموعة دول إتحاد شرق أفريقيا والبحيرات العظمى منذ فترة طويلة وله نفوذ قوى على مستوى القارة الأفريقية ولكنه سوف يصتدم فى جهوده المقدرة لإحلال السلام بضبابية المواقف التى تتمثل فى إن الدعم السريع أبدى موافقته وإستعداده فى الجلوس للحوار والسلام بينما قادة الجيش ما زالوا يرفضون الحوار ويصرون بشدة على الحرب ويصرحون فى وسائل الإعلام المختلفة بأنهم سيقاتلون حتى أخر جندى رغم إنهم يعلمون تماماً بخطأ موقفهم هذا وإن كل الحروب إنتهت على طاولة التفاوض وأن ليس هناك بديل للحوار إلا الحوار إذا كان فى جدة أو كمبالا أو أى مكان فى العالم .
إن الحرب الدائرة فى السودان بكل قسوتها وتداعياتها أزاحت الستار عن المخبى وكشفت كافة الأجندة التى كانت مخفية وأسقطت كل الأقنعة التى كانت تخفى وجوه الشر وما يكنه البعض من بغض وكراهية لهذا الشعب السودانى الكريم وعدم إحترامهم لإرادته وأحلامه وطموحاته المشروعة فى الحياة الكريمة والتقدم وأظهرت زيف الشعارات التى كانوا يتخفون ورائها كذباً وما إطلاقهم لصيحات الحرب الآن من وراء نوبات من البكاء والعويل المتواصل إلا شاهد على فقدانهم تماماً لكل شىء حتى حلم العودة التى أصبحت مستحيلة .
إن وقف إطلاق النار ضرورة ملحة وتصبح هى نقطة الإنطلاق الأولى نحو إرساء قواعد الأمن والسلام و هذا يتطلب رضينا أو أبينا تدخل قوات أفريقية أو دولية كقوة محايدة لفك الأرتباط والفصل بين طرفى الصراع المتقاتلين فى خطوط الإلتماس العسكرى وجميع القوى المدنية المؤمنة بشعار لا للحرب تعلم تماماً إن السلام مسألة حتمية لإستعادة الدولة السودانية مهما طال الوقت أو قصر وسوف تعمل القوى المدنية المؤمنة بالسلام على إستمرار النضال اليومى بكل السبل حتى تتم هزيمة دعاة الحرب والدمار وقارعى طبوله ومهما طال أمد الحرب وإستمر إشتعال لهيب نيرانها ستكون هناك نهاية دون شك فى ذلك وتجارب الأمم والتاريخ تؤكد هذه الحتمية ( إذا لم تجد من يفهمك لا تتعلق بالعابرين ) .
akashaalsayed@yahoo.com
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
السودان يواجه مصيراً مجهولاً- هل ينقسم أم يتوحد؟
يشهد المشهد السياسي والعسكري في السودان تدهوراً متسارعاً وغير مسبوق، مما يهدد بتمزيق نسيج البلاد ، مع بوادر وجود حكومتين منفصلتين: واحدة في بورتسودان بقيادة الجيش، والأخرى محتملة في الخرطوم أو دارفور تحت إشراف قوات الدعم السريع. هذا التطور، الذي يُعيد للأذهان سيناريوهات شبيهة بتقسيم السلطة في دول مثل ليبيا، يحمل في طياته مخاطر جمة على وحدة السودان واستقراره.
خطر الانقسام السياسي والعسكري
يعكس إعلان قوات الدعم السريع عن تأسيس حكومة موازية عمق الانقسام السياسي، ويدل على فشل الجهود المبذولة للتوصل إلى حل تفاوضي للأزمة. من مسارات التفاوض التي لم تحقق اختراقًا يُذكر منذ اندلاع الصراع في أبريل الماضي. في المقابل، يواصل الجيش العمل من بورتسودان، متشبثًا بموقعه كصاحب الشرعية، مما يعمق من حالة الاستقطاب السياسي.
يهدد وجود حكومتين متوازيتين بانهيار الدولة، وتعميق الانقسامات الاجتماعية والعرقية، وفتح الباب أمام التدخلات الخارجية ، حيث تتبدد سيادة القانون ويترسخ منطق السيطرة العسكرية على الأرض. هذا الوضع سيخلق بيئة خصبة لنمو الميليشيات، وتعزيز الانقسامات العرقية والقبلية، وازدياد التدخلات الإقليمية والدولية.
التداعيات الإقليمية والدولية
و أصبحت الأزمة السودانية قضية دولية معقدة، حيث تتنافس القوى الإقليمية والدولية على النفوذ، مما يزيد من تعقيد الأزمة ووضعهم في موقف حرج. فالاعتراف بأي من الحكومتين قد يُفسر على أنه انحياز لطرف على حساب الآخر، مما يضاعف من تجاذبات المصالح الإقليمية والدولية داخل السودان.
على الصعيد الإنساني، يؤدي غياب سلطة موحدة إلى تفاقم الأزمة الإنسانية، حيث يعاني ملايين السودانيين من النزوح والجوع والأمراض. انقسام السلطة سيجعل من الصعب التنسيق مع الجهات الدولية لتقديم المساعدات في ظل تعدد الفاعلين وتضارب المصالح.
غياب الحوار والنتائج الكارثية
التصعيد العسكري المستمر وتجاهل الحلول السلمية يدفعان البلاد نحو حافة الهاوية، ويهددان بتفككها وهو ما أوصل البلاد إلى هذه المرحلة الحرجة. التلويح بورقة الحكومتين ليس سوى استمرار لنهج التصعيد الذي يغلق أبواب الحل السياسي. إذا استمرت هذه الديناميكية، فإن البلاد مهددة بالتفكك إلى كيانات متناحرة، مما يعيد إلى الأذهان تجارب دول أخرى غرقت في مستنقع الحروب الأهلية.
الحل الممكن العودة للحوار
التجارب السابقة أثبتت أن الحروب لا تُفضي إلى سلام مستدام. لا بد من العودة إلى طاولة المفاوضات، ليس كخيار ثانوي، بل كضرورة وطنية. على القوى الإقليمية والدولية الضغط على جميع الأطراف لقبول تسوية سياسية شاملة، تضع مصلحة السودان فوق الاعتبارات الشخصية والسياسية.
إن الحفاظ على وحدة السودان واستقراره يتطلب حواراً شاملاً وجاداً بين جميع الأطراف، وإلا فإن البلاد ستواجه مستقبلاً مجهولاً مليئاً بالتحديات
إن سيناريو تقسيم السودان إلى حكومتين ليس مجرد احتمال، بل هو خطر حقيقي يتطلب مواجهة جادة وقرارات شجاعة من كل الأطراف. الحوار وحده هو السبيل لتجنب هذا المصير المأساوي، والحفاظ على وحدة السودان وأمنه ومستقبله.
zuhair.osman@aol.com