الجزيرة:
2025-03-12@13:27:22 GMT

ما بعد الديمقراطية المعاصرة.. هل هناك أمل؟

تاريخ النشر: 9th, July 2024 GMT

ما بعد الديمقراطية المعاصرة.. هل هناك أمل؟

كم استعملنا مصطلح "الانتقال الديمقراطي" في السنين الأخيرة توهّمًا أننا ننتقل بصفة حتميّة، وفي العالم أجمع، من النظام الاستبدادي إلى النظام الديمقراطي، ونحن لا ننتبه أن ما نعيش في الواقع هو الانتقال الاستبدادي.

انظر كيف تعاملت السلطات في أميركا وأوروبا مع تظاهرات الطلبة؛ دعمًا لغزة المعرضة بوضوح للإبادة الجماعية.

أخطر من العنف البوليسي اتضاح هيمنة الأرستقراطيات المخفية على وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي لخنق كل الأصوات الحرّة وفرض السردية الصهيونية.

ما برز بوضوح أثناء أشهر الحرب على غزة هو انكماش الحريات الفردية والجماعية حتى في هذه البلدان الديمقراطية، لا بإرادة أو لمصلحة حكومات فقدت منذ زمن بعيد كل سلطة حقيقية، ولكن بإرادة ولمصلحة الشركات العملاقة للإعلام والإنترنت. هل سيجعل كل هذا قريبًا – حتى في الديمقراطيات القديمة – من ترديد مقولات تمتّع الناس بالحريات الفردية والجماعية وسيادة الشعب عبر الانتخابات الحرة والنزيهة، مزحةً سخيفة يموّه بها مخادعون على مخدوعين؟

انظر ما يحصل في بلد كنا نسميه أكبر ديمقراطية في العالم. في زيارة خاطفة لجامعة برنستون تعرفت على الدكتورة كريتي كابيلا (Kriti Kapila)، وهي باحثة هندية في العلوم الاجتماعية، وتدرس حاليًا تبعات عملية بالغة الخطورة في بلدها تمت في الصين؛ أي فرض بطاقة إلكترونية على قرابة مليار هندي تحتوي على ملامح الوجه والبصمات وقرنية العين والمهنة، ولا يمكن قضاء أي حاجة تجارية أو إدارية بدونها.

مما يعني أنه سيكون بوسع السلطة معرفة كل شيء عن حياة المواطنين من تنقلاتهم إلى معاملاتهم البنكية إلى من يصوّتون، وماذا يقرؤون، ومع من يتعاملون. تخيّل كيف ستستعمل هذه المعطيات ولمصلحة مَن؟

كم يبدو اليوم مثيرًا للشفقة والسخرية الاستبدادُ القديم الذي لم يكن يملك لمراقبة المجتمع إلا جواسيس يجلسون في المقاهي يفتعلون قراءة الجرائد، ولم يكن له، للتحكم في العقول والقلوب، إلا نشرات وسائل إعلام مكتوبة ومسموعة ومرئية كان الوحيد الذي يملكها. أما الاستبداد الذي بدأت ملامحه تتشكل بسرعة رهيبة تحت أعيننا، فهو شيء غير مسبوق في تاريخ البشرية.

ففي الشرق، يُلقي المحور الاستبدادي المكوّن من الصين والهند وروسيا بظلاله على ثلث البشرية، وفي الغرب لا ينذر رجوع ترامب في أميركا والصعود المتواصل لليمين المتطرف في أوروبا بأي ضمان لتواصل الديمقراطية في أقدم معاقلها. حدّث ولا تسَلْ عن عودة الانقلابات في أفريقيا، أو عن مغزى انتخاب شخص مثل الرئيس الأرجنتيني. وفي عالمنا العربي أجهضت الثورات الديمقراطية بالثمن الرهيب الذي نعرف.

من أين لنا دخول عقول وقلوب شرائح واسعة من مجتمعاتنا ترى في الوضع الكارثي الذي تتخبط فيه بلدان ثورات 2011 مسؤولية الثورة لا جريمة الثورة المضادة، بل وفيها مَن لا يزال مصرًّا على أن الديمقراطية أيديولوجيا غربية استعمارية علينا رفضها، رغم أن شباب الغرب هو الذي تجنّد لفلسطين وليس شباب العرب؟

أليس من باب السذاجة إذن التمسّك بالمشروع الديمقراطي، وهو اليوم في انحسار في جلّ أماكن العالم، وفي أخطر وضع قد يكون عرفه طوال تاريخه؟

لمواجهة تسونامي الإحباط لنسأل المشككين في جدوى التمسك بالمشروع الديمقراطي: أليست جلّ الكوارث والمآسي التي نتخبط فيها من تبعات عاملين أساسيَين: فشل الحوكمة الرشيدة في كل بلداننا دون استثناء أي حكم الاستبداد، وفشل الدولة القُطْرية الشمولية المتخلفة، كما رسم حدودها الاستعمار الغربي في الإيفاء بالحاجيات الدنيا لمواطنيها، ناهيك عن المحافظة على الحدّ الأدنى من استقلالية القرار؟

القاعدة التي تجاهلها الوحدويون العرب أن الدكتاتوريات لا تتحد فيما بينها، وكل ديكتاتور يعتبر بلده مزرعته الخاصة، ولا يقبل بالتسليم في سلطته المطلقة عليها تحت أي سبب. الفشلان إذن مرتبطان ببعضهما البعض، ففشل الدمقرطة لم يكرّس فقط سطوة أنظمة فاسدة قمعية تابعة وغير كفؤة، وإنما منع هذه الدول من إيجاد صيغة مماثلة للاتحاد الأوروبي الذي لم يظهر للوجود إلا بعد انهيار الأنظمة الاستبدادية النازية والفاشية والشيوعية.

هل كانت الأمة تعرف كل هذا الهوان، وأربعمائة مليون عربي هم اليوم كاليتامى في مأدبة اللئام، لو كان هناك اتحاد عربي بين دول ديمقراطية مثل الاتحاد الأوروبي؟

قناعتي المطلقة المستمدة من نصف قرن في المعارك النظرية والسياسية أنه لا مستقبل لشعوب أمتنا إلا ببناء دول قانون ومؤسسات على أنقاض حكم الفرد والعصابات. فهي الوحيدة القادرة من جهة على خلق شعوب من المواطنين الخلّاقين المبدعين بدل شعوب الرعايا السلبيين الذين خلّقهم الاستبداد. من جهة أخرى هي الوحيدة التي تسمح ببناء اتحاد بين شعوب حرة ودول مستقلة على شاكلة الاتحاد الأوروبي الذي لم يتأسس إلا على أنقاض الدكتاتوريات.

صفّفْ الآن للأجيال المحبطة وللأجيال الشاكة بقية الحجج للإمعان في مشروعنا الديمقراطي، وضعْ أمام أعينها الحقيقة التي لا ينكرها إلا مخادع أو مخدوع وهي أن النظام الديمقراطي هو:

الوحيد القادر على حماية المجتمع من الوقوع في قبضة زعيم غير كفؤ. معرض للخطأ كل البشر مع فارق هام أن خطأ منه يكلف حياة الملايين. الوحيد الأقدر على بناء استقرار حقيقي عبر التداول السلمي على السلطة، والصراع العنيف حولها أهم سبب في مآسي مجتمعاتنا. الوحيد القادر على أن يوفّر لأفراد المجتمع الحد الأدنى من الحماية القانونية. الوحيد القادر على مواجهة آفة الفساد المتسببة في استنزاف خيرات المجتمع لمصلحة أقلية أنانية وشريرة. الوحيد القادر على حماية الحريات الفردية والجماعية التي تضمن للأفراد والجماعة حقوقهم المشروعة، وأولها الكرامة.

لقائل أن يقول: كلام جميل، لكن لماذا نرى إذن مثل هذا النظام العبقري يترنّح ويتراجع في الأماكن التي استتب فيها، ويفشل في البقاء في الأماكن التي وفرت له الثورة فرصة ذهبية مثلما حصل في بلدان الربيع العربي، وخاصة تونس؟ قناعتي اليوم أن مصاعب الديمقراطية ليست فقط بسبب شراسة الاستبداد وعمق تجذّره في غرائزنا الحيوانية وتجدد آلياته وتزايد فاعليتها، وإنما هي في جزء كبير منها بسبب آلياتها والخيارات الفكرية والقيمية التي تسندها.

من هذا المنطلق إذا أردنا التمسك بالمشروع الديمقراطي ومواصلته بحظوظ معقولة للنجاح، فعلينا ألا نغيّر شيئًا من أهداف الديمقراطية، لكن علينا أن نغير كل شيء في وسائلها؛ لأنها اليوم من أهم أسباب أزمتها الخانقة، بل هي من تفرش البساط الأحمر لعودة الاستبداد وهلاكها.

الحلقة المقبلة: المراجعات الضرورية

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات الوحید القادر على على أن

إقرأ أيضاً:

جنرال إسرائيلي: الخطة المصرية لإدارة غزة هي الخيار الوحيد القائم

أكد جنرال إسرائيلي أنّه لا يوجد خيار آخر حاليا فيما يتعلق بخطط ما بعد الحرب على قطاع غزة، سوى الخطة المصرية التي تم الكشف عنها مؤخرا، وأقرتها جامعة الدول العربية واعتمدتها منظمة التعاون الإسلامي.

وقال الجنرال الإسرائيلي أفرايم سنية في مقال نشرته صحيفة "يديعوت أحرونوت" العبرية، إن "الخطة المصرية التي تقع في 112 صفحة ليست كاملة، لكنها كافية عمليا كي يتم البدء بتنفيذها"، مضيفا أن "المهم فيها أكثر من أي شيء آخر، هو إنهاء حكم حماس واقتراح بدائل".

وشدد سنية على أنه في ظل عدم وجود خطة جدية أخرى سواء إسرائيلية أو دولية، فإنّ الخطة المصرية هي الخيار الوحيد القائم، منوها إلى أنه في الشهر الـ17 منذ اندلاع الحرب لا تزال "حماس" الجهة المسيطرة في غزة، وهذا ذنب رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو الذي يرفض بعناد الانشغال بـ"اليوم التالي".

وذكر أن "إعمار اقتصادي وإداري لغزة دون أي تدخل من حماس، هو مصلحة إسرائيلية صرفة"، معتقدا أن "سيطرة عسكرية إسرائيلية على غزة، هي عبء يسحق الجيش الإسرائيلي قبل كل شيء، إلى جانب التحديات الأمنية الأخرى".



وتابع قائلا: "رؤيا الاستيطان في غزة هي من نصيب سموتريتش وبن غفير، والرغبة في عدم إغضابهما هي الدافع الحقيقي لعدم وجود هدف استراتيجي للحرب في غزة (..)، فتقويض القدرات العسكرية لحماس تم بالفعل، لكن تصفية جميع رجالها هي مهمة ليس لها نهاية عملية".

ولفت إلى أنه حينما أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن خطته، "عانقتها حكومة نتنياهو عناقا شديد"، مستدركا: "الإخفاق البنيوي للخطة هو أنه لا توجد أي دولة عربية مستعدة لأن تستوعب مليوني فلسطيني، والدول غير العربية تجتهد للتخلص من اللاجئين الذين يتواجدون على أراضيها".

وأردف قائلا: "في هذا الوضع الذي ستضطر فيه إسرائيل لإدارة وحكم غزة، وفي ظل مواصلة القتال ضد حماس، فإن مصر وضعت خطتها لمستقبل غزة، والأهم بالنسبة لإسرائيل هو أنه لا يوجد فيها مكان لحماس، وسيتم استبدالها بحكومة خبراء فلسطينيين يتبعون السلطة".

وأكد أن الخطة المصرية تضمن انتقال تدريجي للسيطرة الأمنية في غزة، من جهات خارجية إلى جهات محلية لا صلة لها بحركة حماس.

مقالات مشابهة

  • الحزب الديمقراطي يفوز بانتخابات غرينلاند وتقدم للقوميين
  • الشيف الشربيني يرد على الشائعات: عمري ما ظلمت حد.. وابني هو منافسي الوحيد
  • جنرال إسرائيلي: الخطة المصرية لإدارة غزة هي الخيار الوحيد القائم
  • السوريون والبحث عن تعايش سلمي متكافئ
  • عضو مجلس الأهلي: المتضرر الوحيد هو من يضحك اليوم بمنتهى السذاجة
  • غيث حمور: أدب المنفى السوري وجد طريقه أخيرا للوطن
  • آل مغني: الهلال النادي السعودي الوحيد الذي يحمل آمال الجماهير في آسيا
  • ملياردير “مرشح ترامب” الذي سيدير غزة في اليوم التالي للحرب؟ .. من هو؟
  • من هو الملياردير “رجل ترامب” الذي سيدير غزة في اليوم التالي للحرب؟ (صور)
  • الجزيرة نت ترصد الدمار الذي خلفه الاحتلال بمستشفيات الجنوب اللبناني