ليس سهلا سك مصطلح «اليهودية السياسية» قبالة «الإسلام السياسي»؛ فهذا الأخير متحدد الملامح، على الأقل؛ لدى من يتعامل مع الشأن السياسي الإسلامي؛ سواء من المسلمين أم غيرهم، وهو يأتي في سياق مستمر من العمل السياسي لدى المسلمين؛ منذ صدر الإسلام حتى اليوم. أما «اليهودية السياسية».. فهو مصطلح غير موجود في أدبيات معالجة الظاهرة السياسية في الدين اليهودي، إلا على سبيل استنكار استعمال «الإسلام السياسي» دون استعمال مصطلحي «اليهودية السياسية» و«المسيحية السياسية».

وعلى كل حال.. فالمصطلحات تنشأ لتأطير ظاهرة ما أو مفهوم معين، ولا مشاحة في الاصطلاح؛ كما يقال.

أقصد بـ«اليهودية السياسية».. التيار اليهودي الديني المشتغل بالسياسة، وهو غير الصهيونية العلمانية. المقال.. لا يسعه المقام ليتحدث عن تفاصيل هذا التيار، ولكنه يحاول أن يسلط الضوء على خطه العام.

بداية؛ عليّ أن أبّين بأن آباء المشروع الصهيوني سعوا إلى إيجاد دولة لليهود، ليست لها محددات أصولية يهودية؛ أي لا تقوم على أسس دينية، فهي ليست دولة يهودية، وإنما دولة لليهود تقوم على أسس سياسية تحكمها قوانين علمانية. وقد كان مطروحا أكثر من بلد لأن تقوم فيه، بيد أنه تم اختيار فلسطين لاعتبارات استعمارية غربية، وليس لاعتبار يهودي ديني، بالمقام الأول.

الأمر مستغرب.. حيث يبدو أن هناك تناقضا؛ بين كون مَن أنشأوا إسرائيل غير متدينين وبين أن الدولة بأبجدياتها المختلفة تقوم على رموز دينية يهودية؛ فاسم الدولة وبرلمانها وعملتها وشعارها، والمشروع الصهيوني برمته، قائم على عقيدة الخلاص اليهودية بالعودة إلى الأرض المقدسة. لكن الاستغراب يزول عندما نعلم أن اليهودية تحولت إلى عنصرية قومية، ولم تعد عقيدة دينية، فهي بخلاف الإسلام والمسيحية؛ حيث يمكن التمييز بين الدين ومعتنقه، فإن تخلّى المسلم أو المسيحي مثلا عن دينه فلا يعود مسلما ولا مسيحيا. فاليهودي.. يهودي ليس بدينه وإنما بعنصره، يقول عبدالوهاب المسيري (ت:2008م) المتخصص في الدراسات اليهودية والحركة الصهيونية: (فمن الممكن حسب الشريعة اليهودية أن يكون المرء ملحدا ويهوديا معا في الوقت نفسه، نظرا؛ لأن الشريعة ترى أن اليهودي هو من ولد لأم يهودية، وهذا أمر لا يوجد في المسيحية ولا في الإسلام، حيث تنتفي صفة الانتماء للدين إذا أنكر الإنسان وجود الإله، حتى ولو ولد لأبوين مسيحيين أو مسلمين) [الموسوعة اليهودية، 5/15]. والعنصر هنا.. لا يعني السلالة النسبية، وإنما هو أقرب أن يكون كيانا اجتماعيا قوميا، فاليهودية.. تتكون من جماعات تختلف ثقافيا بحسب البيئة التي توجد بها.

اليهودية ذاتها.. ليست حركة سياسية، وإنما هي كيان اجتماعي، لا يتكون من جماعة واحدة، وإنما من جماعات عديدة، كل جماعة تنظّم نفسها بما يتواءم مع المجتمع الذي تعيش فيه، وكأي جماعة منغلقة على نفسها فإنها تعاني من العيش في المجتمعات التي توجد بها. فاليهود.. عاشوا في جيتوات مغلقة «أحياء خاصة باليهود»؛ كان عليها أن تبذل جهدا ضخما وهي تتحرر من جيتواتها لتنتشر في المجتمعات، ولذا؛ فهي في تبدل دائم في المعتقدات الدينية والعناصر الثقافية والأعمال الاقتصادية والمواقع الاجتماعية. ووظيفة الحاخامات والأحبار إيجاد المسوغ الديني، لاسيما؛ أن أسفار التوراة ونصوصها الكثيرة تسمح بتأويلها باستمرار، ولذلك؛ الديانة اليهودية تحوي عقائد متناقضة في الألوهية والنبوة.. بل وفي تفسير مسار التاريخ اليهودي.

فمن تحولاتها العجيبة.. أن اليهود المرتبطين بالرأسمالية، وعبرها تمكن الصهاينة من إقامة كيان استعماري بفلسطين؛ عندما انتشرت الشيوعية في العالم؛ ظهر لديهم مفكرون حملوا الشيوعية عقيدةَ خلاص لهم، فنشط اليسار لدى الصهاينة؛ وكان هذا من أسباب اعتراف الاتحاد السوفييتي بدولة إسرائيل. فالدين.. لدى اليهود يتبع الجماعة، وليست الجماعة تتبع الدين، كما هو الحال لدى المسلمين.

آباء الصهيونية كانوا علمانيين، وبعضهم ملاحدة، فمن أين نشأت لديهم فكرة الصهيونية ومشروعها الاستيطاني؟

لم تنشأ الصهيونية في بيئة يهودية، لأن اليهودية ليست مبدئية في معتقداتها ومشروعاتها، وإنما هي ردة فعل للمسار التأريخي الذي توجد فيه؛ بما يحفظ وجود الجماعة اليهودية ويحقق مصالحها. فاعتناق بعض اليهود للصهيونية؛ والذين عرفوا بالصهاينة، لأجل الحصول على أرض لكيانهم. وأما الصهيونية نفسها فهي عقيدة بروتستانتية نشأت ضمن الإصلاح الديني اللوثري [نسبة للاهوتي الألماني مارتن لوثر (ت:1546م)]، والذي آمن بعودة المسيح المخلّص لأجل نشر المسيحية بين يهود بني إسرائيل، ولا تحصل العودة إلا بوجود اليهود في فلسطين، حيث ولد «يسوع» وعاش وبشّر بدعوته ثم صلب، ورفع للسماء ليعود مرة أخرى، ويُلِزم اليهود باعتناق دعوته.

فعودة اليهود بالأساس عقيدة بروتستانتية، وكانوا يعارضونها، لأن معتقدهم أن العودة لأرض الخلاص لا تكون إلا على يد النبي المخلّص، وهم لا يؤمنون بالمسيح أصلا.. بل تآمروا عليه مع السلطة الرومانية. وظلت هذه العقيدة خاملة بين اليهود، حتى أخذ المجتمع الأوروبي في التغيّر، ودخل في مشروعه الاستعماري، وأصبح الاستعمار تيارا عاما بين ساسة أوروبا، فأغرى بعض اليهود، لاسيما؛ أن بريطانيا البروتستانتية هي أكبر مستعِمر عالمي حينذاك، فاعتنقوا الصهيونية، وسعوا جادين لإقامة كيانهم ليكون لليهود وطنا قوميا، وعمل مفكرو الصهيونية على تأويل النصوص الدينية؛ التوراتية والتلمودية التي تدل على عودة اليهود لأرض الخلاص مع ظهور «المسيح المخلص»، بأن يجتمع اليهود أولا في أرض الخلاص لكي يظهر المسيح المخلص.

بالإيمان بهذه الدعوة وجدت اليهودية السياسية؛ والتي هي الصهيونية المتدينة لا غير، فالصهيونية.. هي التيار السياسي لدى اليهود، قام على أساس أن «خلاص اليهود» لا يمكن أن يقوم به أحد غيرهم، وعمل مفكرو الصهيونية على إعادة تأويل النصوص لخدمة الجماعة الصهيونية، واعتبر هذا العمل إصلاحا تنويريا في اليهودية.

بداية؛ عارض أحبار اليهود الدعوة الصهيونية، واعتبروها ضد «إرادة الرب»، وعدّوها معاداة للسامية، إلا أن الصهيونية شقت طريقها، وتمكن أبو الصهيونية تيودور هيرتزل العلماني - وقيل إنه ملحد- من الترويج لإيجاد وطن قومي لليهود، مستغلا تسويق المشروع الصهيوني مع الساسة البريطانيين، ولم يهلك هيرتزل عام 1904م إلا وقد اعتنق حوالي 1٪ من اليهود الصهيونية. تمكن الصهاينة من بعده عام 1917م أن يستصدروا وعدا من رئيس الوزراء البريطاني آرثر جيمس بلفور (ت:1930) بـ(أن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية).

رغم أن الهجرات اليهودية نشطت إلى فلسطين منذ منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، لأسباب؛ منها: زيارة الأماكن المقدسة لليهود، وتحسين الوضع الاقتصادي لهم، واللجوء إليها هربا من اضطهادهم في مجتمعاتهم، ولسبب سياسي يكاد ينحصر على الصهاينة. لكن حصل تحول نوعي على يد الحاخام إبراهام كوك (ت:1935م)، الذي اعتنق الصهيونية وعمل على نشرها بين المتدينين اليهود، وكان يبشّر بأن المستوطنين في فلسطين هم الجيل الذي بشّرت به النبوات لظهور المسيح المخلص. وقد عمل كوك هذه المرة من داخل الحقل الديني على تأويل النصوص الدينية بما يتوافق مع المشروع الصهيوني.

بإعلان قيام إسرائيل عام 1948م.. كانت اليهودية السياسية بين المتدينين التقليديين لا تزيد نسبتها على 7٪، إلا أنهم نشطوا وأخذوا ينضوون إلى الأحزاب السياسية، ويفرضون «أحكام الشريعة اليهودية» مثل: التعطيل أيام السبت، والذبح بطريقة «الكاشير»، وعدم انخراط الطلبة الدينيين في الجيش. كما أن اليهودية السياسية تأثرت بصعود الإسلام السياسي فنشطت هي الأخرى، وأصبحت تشكل حوالي 30٪ من المجتمع الإسرائيلي، وهم الأعضاء الأكثر تأثيرا في الحكومة الحالية، وسياساتهم الغاشمة هي مما أدى إلى انفجار طوفان الأقصى، وهم الآن وراء الأوضاع التي تشهدها غزة من حرب إبادة جماعية وتدمير شامل.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: أن الیهودی أن الیهود

إقرأ أيضاً:

طوفان بشري ومسيرة مليونية في العاصمة صنعاء تأكيداً على الثبات مع غزة رغم أنف العدو الأمريكي (تفاصيل + صور)

يمانيون/ صنعاء شهدت العاصمة صنعاء اليوم، مسيرة جماهيرية كبرى تحت شعار “ثابتون مع غزة.. رغم أنف الأمريكي وجرائمه” تأكيدا على الاستمرار في مساندة ونصرة غزة والشعب الفلسطيني.

ورفعت الحشود المليونية في المسيرة، العلمين الفلسطيني واليمني، وشعارات الصرخة والجهاد والمقاومة، والمؤكدة على استمرار الصمود والثبات في مواجهة العدوان الأمريكي الصهيوني، وإسناد غزة حتى تحقيق النصر.

وجددت التأكيد على ثبات الموقف اليمني الداعم والمناصر لغزة، والتفويض المطلق لقائد الثورة السيد عبدالملك بدر الدين الحوثي، في كل ما يتخذه من قرارات وخيارات لردع العدو الأمريكي والصهيوني، دفاعاً عن الوطن ونصرة للشعب الفلسطيني.

وأكدت الجماهير على مواصلة الاستنفار والجهوزية والاستعداد الكامل لمواجهة تصعيد العدوان الأمريكي الهمجي على اليمن.. مرددة شعارات (مع غزة يمن الإيمان.. رغم أنف الأمريكان)، (عهد جميع اليمنيين.. لن نترك شعب فلسطين)، (بالله الحي القيوم.. ولى الأمريكي مهزوم)، (موقفنا أصدق برهان.. لحديث الإيمان يمان)، (الحرب عزيمة وإرادة.. أمة ومسيرة وقيادة)، (أمريكا هزمت وتكابر.. تقصف أسواقاً ومقابر)، (أمر الله وقال نجاهد.. لم يأمر نصمت ونشاهد)، (يا غزة واحنا معكم.. أنتم لستم وحدكم).

وأوضح بيان صادر عن المسيرة المليونية، أنه واستمراراً للموقف اليمني المشرف المساند للشعب الفلسطيني المسلم المظلوم، ورداً على العدوان الأمريكي على بلدنا، خرج الشعب اليمني اليوم في المسيرات المليونية استجابة لله سبحانه وتعالى وجهاداً في سبيله وابتغاء لمرضاته.

وجدد التأكيد بكل قوة على “الثبات في موقفنا الإيماني القرآني الراسخ في نصرتنا لإخواننا في غزة، وأننا لن نسمح بالانفراد بهم من قبل الأعداء، ولن نتفرج عليهم كمن تفرج؛ بل سنواصل جهادنا المقدس ضد مجرمي الأرض – أئمة الكفر أمريكا وإسرائيل بكل جد وعزم حتى يتوقف العدوان عليهم ويرفع الحصار عنهم، مستعينين بالله ومتوكلين عليه وواثقين بوعده سبحانه وتعالى”.

وخاطب الأعداء الأمريكان والصهاينة بالقول: “عبثاً تحاولون تغيير موقفنا وردنا عن إيماننا لنصبح كافرين ومنافقين، وعليكم أن تعلموا بأننا لن نرجع بعد الاستجابة لله مفرطين ومتخاذلين، وبعد عزة الجهاد مهانين ومستسلمين، وعدوانكم علينا أفشله الله على أيدي عباده المجاهدين في سبيله المتوكلين عليه، وأصبح هدفكم فقط هو اقتراف جرائم القتل بحق المدنيين أو استهداف معيشتهم وأسباب رزقهم، بعد فشلكم في إضعاف قدراتنا العسكرية، وهذا أيضاً لن يركعنا، وأنتم أكثر من يعرفنا، وقد جربتم ذلك معنا سابقاً ولم تفلحوا، وعليكم أن تعرفوا بأننا مستعدون بقوة الله أن نواجهكم أنتم وكل منافق يتحرك معكم ويربط مصيره بكم، وسيحقق الله لنا الانتصارات العظيمة وما النصر إلا من عند الله”.

وتوجه البيان، بتحية إجلال وإعزاز وإكبار لإخواننا في قطاع غزة على صمودهم المذهل وصبرهم الملهم برغم جسامة التضحيات وحجم المعاناة التي لا مثيل لها، وأيضاً نوجه تحية الوفاء والفخر والاعتزاز لمجاهدي المقاومة الباسلة التي ما تزال تقاتل بكل ثبات وصبر برغم طول المدة وقلة الإمكانات، ونقول لهم أنتم شرف هذه الأمة، ومن يعاديكم أو يجرح فيكم فهو فاقد للشرف والكرامة.

ودعا إلى الاستمرار بكل قوة في التعبئة العامة والوقفات القبلية وكل الأنشطة الداعمة للشعب الفلسطيني ومنها استمرار وتصعيد المقاطعة الاقتصادية بشكل فعال، ومقاطعة كل تاجر لا يقاطع البضائع الأمريكية أو الإسرائيلية، لأنه يساهم في دفع ثمن الغارات التي تقتلنا وتقتل أبناء غزة.

مقالات مشابهة

  • الخطة الصهيونية المُعلنة لإبادة غزة أمام القضاء الدولي
  • قاعدة “نيفاتيم” الصهيونية في مرمى الصواريخ اليمنية
  • شهداء وجرحى في اليوم الـ 40 لتجدد حرب الإبادة الصهيونية على غزة
  • فوق السلطة: يهود سيقتلون اليهود والإكثار من أكل البطيخ يدخل الجنة
  • طوفان بشري ومسيرة مليونية في العاصمة صنعاء تأكيداً على الثبات مع غزة رغم أنف العدو الأمريكي (تفاصيل + صور)
  • صور جوية| طوفان بشري وحشود مليونية في مسيرة “ثابتون مع غزة.. رغم أنف الأمريكي وجرائمه” في ميدان السبعين بالعاصمة صنعاء
  • جيش الاحتلال يقر بفشله في حماية مستوطنة نير إسحاق يوم 7 أكتوبر
  • مسير ومناورة لخريجي دورات “طوفان الأقصى” في مديرية جحانة بصنعاء
  • مسير شعبي في الشعر بإب لخريجي دورات “طوفان الأقصى”
  • مسير ومناورة لخريجي دورات “طوفان الأقصى” في جحانة بصنعاء