في الجاهلية كانوا يصنعون آلهتهم من التمر، وعندما يجوعون يلتهمون ما صنعوا، وجريًا على تلك العادة نحن، أيضًا، كانت لنا صنعتنا؛ شيء صنعناه من دمائنا وأرواحنا وأحلامنا، لكن نسينا أن نلتهمه، ربما كان عصيًّا أو ربما نحن أصلًا لم نجُع، لكنّه هو الذي لا ينسى يلتهمنا كل يوم.. وهو جوعان وهو متخم من الشبع. نحن صنعنا الغرب بكل تجلياته وعنفوانه.
قد نتساءل ما هو الغرب؟ هل هو تلك البقعة الجغرافية التي تتكون من أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية، بتاريخه وشعوبه وتضاريسه وفضاءاته؟ أم هو كائن مختلف هلامي مخاتل زئبقي؟ يبدو أن الغرب ليس الذي إذا ذكر الشرق يحضر الغرب، وليس فقط هو أحد الاتجاهات الأربعة للكون المقابل للشرق، والمكان الذي تغرب فيه الشمس. ليت الغرب ذلك فقط، وليت الغرب كلمة بسيطة عادية متداولة، لكن بساطته ليس إلا ظاهريًّا. فهو يحضر معنا في كل شيء، في مخيلتنا وثقافتنا حضورًا طاغيًا، حضورًا ملتبسًا لا ينفك يلاحقنا، لا يتركنا لشأننا فهو معنا أينما ذهبنا في جلوسنا وفي منامنا وفي خلوتنا يزاحم فكرنا ويدخل بيوتنا، منذ خلقنا وهو هكذا ملاصق لنا.
لكن هل الغرب ضرورة؟ وهل هو مصير وقدر مكتوب علينا؟ ماذا لو صحونا يومًا ولم يكن شيء اسمه الغرب موجودًا في حياتنا، وهل اختفاؤه قد يخرق تماسكنا وقوتنا ويزيل هويتنا وديننا؟
في الذاكرة الملتبسة، يتكشف غرب انتهك حقوقنا واستعمرنا واحتل أراضينا ولا يزال يستغل ثرواتنا ويقف ضدنا في كل شيء، يستولي على كل شيء، لا يبقي ولا يذر، ينهب ثرواتنا ونحن راضون ضاحكون مبتسمون. يفرقنا بين عرب مسخّرين لخدمته وعرب يعاديهم، يمقتهم ويحاربهم ويتحالف ضدهم، هو الثابت كالصخرة أمامنا لا يغير ولا يتبدل ونحن المتبدلون. في فلسطين نراه مع الصهيونية جهارًا نهارًا، بيدٍ يرسل الأسلحة والجنود لقتلنا ولا يخجل ولا يتوارى خلف الكلمات والأفعال، وبيد أخرى يتوسط لوقف القتال، أي جنون هذا الذي نحن به؟ يقتلنا ويساعدنا. قل عنه ما تقول منافق، مزدوج الرؤية فكان كذلك، العنصري البغيض الحقود الذي لا يتوانى عن تدميرنا وسحقنا دون أن يرف له جفن. يحشد كل أسلحته ويشحذها في وجوهنا، يجيّش العالم ويدفعه ضدنا، هو الذي دمّر العراق وسوريا وليبيا واليمن، غرب بكل تداعياته والتباساته هو ضد عروبتنا وإسلامنا وضد المسلمين. أمريكا وهي رأس حربة الغرب وهي القوة لا تعاملنا ولا تريدنا متحدين متوحدين بل منفردين تعمل وفقا لقاعدة استعمارية بنيت عليها سياسات الاستعمارية والكونيالية وهي قاعدة فرّق تسد. وهو ليس إلا الوقاحة والبشع الانتهازي والاستغلالي واللاأخلاقي، مراوغة وكذب، تسلط وإمبريالية، فردانية وانقطاع، وعالم من المثلية والأجناس المتعددة العابرة للتصنيف. غرب ما أنتج إلا المتطرفين واليمينيين والشعوبيين، والحربين العالمية الأولى والثانية والدمار والإبادات وقنبلتي ناجازاكي وهيروشيما، الرأسمالية المتوحشة، العولمة والنيوليبرالية. وهذا الغرب الذي ظل نيتشه ثقافته والقيم الأخلاقية والسياسية والدينية والفلسفية السائدة فيه، وتمنى أن يأتي رجل خارق ينقذ البشرية من هذا الغرب.
وفي الجانب الآخر من الذاكرة غرب كيان ثقافي تراكم عبر العصور كما وصفه الفيلسوف الفرنسي فيليب نيمو. الغرب في ذاكرتنا وذاكرة العالم أجمع هو التاريخ والجغرافيا، منبع الثورات النضالية والنظريات والأيديولوجيات والديمقراطية وسيادة القانون، والحرية الفكرية، والعقلانية النقدية، والعلم، والاقتصاد الحر والأسواق المفتوحة، والثورات الصناعية وعصر الأنوار والتقنيات والذكاء الاصطناعي، حقوق الإنسان والدساتير والأحزاب وتداول السلطة، وفصل السلطات، والاختراعات والرفاهية، وهو أيضًا العلماء والكتاب العظماء والفلاسفة وكل شيء هو الغرب.
هل المؤرخون حرّفوا مفهوم الغرب من معناه الجغرافي إلى معنى جديد ثقافي وأيديولوجي غير مرتبط بمنطقة جغرافية معينة كما كان الحال في السابق «كما ذكر محمد أركون». أعتقد أن هذا هو الغرب الحقيقي الواضح المتجلي المتطور الحداثي الذي لا يخفي سوأته ولا قبحه ولا يضع المساحيق ليبدو أكثر جمالا. هذا هو الغرب النسخة الحقيقية الساطعة التي يراها كل العالم ويتعاملوا معها بما هو وأضح أمامهم. الغرب لم يتغير وهو طبيعي وإن التغيّر والتبدل الذي شابه ربما كان من الضروري ليبقى ويعيش ويترعرع. ورغم أن الغرب كلمة بسيطة لكنها كلمة حمالة للمعاني والدلالات عابرة الأفق مخاتلة إشكالية مخادعة وزئبقية. لكن يبدو لا شيء بسيط، ولا وجود للبساطة في الفهم أو في الكلمة، لو اقتصر الأمر كذلك لوقعنا في إشكالية التسطيح والتبسيط، عرفنا شيئًا وغابت عنا أشياء «لا وجود لمفهوم بسيط، كل مفهوم يملك مكوناته، ويكون محددًا بها» على حد قول الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز. نبحث عن الغرب فلا نجده، ندركه ولا ندركه، نعرفه ولا نعرفه، نراه أمامنا وقد لا نراه، سهل لكنه ممتنع. أهو كبير جدًا، شيء مطاطي هلامي لا قياس لحجمه ولا حدود لتمدده، كائن يتوسع ويتقلص وفقا للزمان والمكان وتبعا للظروف الجيوسياسية.
لكن هل لنا نحن غربنا أو الغرب هو نحن؟ في الحقيقة يبدو الأمر وكأن لنا غربًا نحن صنعناه. للعالم غربهم ولنا غربنا. نحن لنا غربنا المختلف، غرب صنعناه نحن فأصبح غربنا الخاص، لنا وحدنا لا أحد يشاركنا فيه، كبُر وترعرع معنا، لكن علاقته معنا علاقة ملتبسة رغم أنه يحضر في مخيلتنا وذواتنا. فنحن الذين تمادينا في صناعته وساهمنا في تقويته وترسيخه وطغيانه. غرب لا نرى فيه إلا ذلك الكائن المتعالي، فأصبح هو الذي يخيفنا وهو الذي لا يذكر لنا أي حسنة ولا يتوانى أن يضع إصبعه في عيوننا ويدوس أقدامنا وإذا ما رفع أحد منا رأسه يقطعها بسرعة.
هذا الذي بيننا وبينه ليس إلا نقطة على حرف، ذلك ما يفرقنا في الكتابة، لكن ما بيننا بون واتساع ومحيطات وبحار وثأر، هو الذي يتآمر علينا وعلى دولنا، ويفرض علينا التخلف والتراجع. لست من يؤمن بنظرية المؤامرة، لكن هناك حقيقة ساطعة أن الغرب هو سبب كل تخلفنا ودمارنا بشكل مباشر أو غير مباشر دون الخوض في التفاصيل التي يدركها الكل.
ماذا نفعل تجاه هذا الغرب وقد تلطخت جباهنا وغاصت أقدمنا في الوحل وشُلّ تفكيرنا، هل نجلس ونولول كل الزمن، أم ننتظر رجل نيتشه الخارق الذي تمناه أن يأتي وينقذ البشرية وينقذنا نحن معه. ويضع أسسا جديدة للعالم ولنا.
ليس بالضرورة أن يكون الغرب قدرنا ولا مصيرنا إلى ما لا نهاية، وليس ذلك المكتوب على جباهنا. في الحقيقة قد نحتاج إلى خطة على غرار خطة مارشال نستطيع من خلالها إعادة التوازن في العلاقة بيننا والغرب ونشرعن عالما جديدا مختلفا لنا.
الغرب هذا الذي خلقناه والمعشعش في عقولنا يجب علينا أن نتخلص منه وندفنه بلا رجعة. أن نلقي بهذا الجاثم فوقنا الذي نحمل ثقله، أن نتحرر من قبضته وهيمنته كما فعلت شعوب إفريقيا وأمريكا الجنوبية ودول من آسيا. يجب أن نتعامل مع الغرب كبنية ممكن تفكيكها والتعامل معها وإعادتها إلى حجمها الطبيعي، وأن نفكك تلك العلاقة المعقدة الإشكالية التي ساهمنا نحن في ولادتها وما زلنا. يجب أن ننظر له ونتعامل معه وفق ما نحن نريده وفقا لمبادئنا وأخلاقنا ومزاجنا وكأنه منا وفينا. أن نضعه في مكانه الذي هو يضع نفسه هو فيه، أن نعامله على أنه الآخر المختلف عنا له أخلاقه وقوانينه ومبادئه، ونترجم ذلك الاختلاف في علاقتنا معه. وقبل كل شيء يجب أن تسود الحرية والديمقراطية والعدالة في مجتمعاتنا وأن نحارب الكثير من الأشياء السيئة وأن نتماسك ونتحد كأمة عربية إسلامية وأن نواجه العالم بما فيه الغرب كجسد واحد لا يمكن اختراقه أو النفاذ منه، نعتمد على بعضنا في كل شيء. «العالم لا يحترم إلا الأقوياء» هذه المقولة يجب أن تكون نهجًا لنا. قد يكون طريقنا طويلا ولكن أن نصل متأخرين خير لنا من ألا نصل أبدًا.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: هو الغرب ا الغرب الذی لا هو الذی یجب أن کل شیء
إقرأ أيضاً:
رئيس مجلس الشئون السياسية الروسية: لا نسعى لإشعال فتيل حرب نووية في العالم
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
قال الدكتور سيرجي كاراجانوف، رئيس مجلس الشئون السياسية والدفاعية الروسية، إن روسيا تحلت بالصبر طويلا أملا في أن تميل الكفة في نهاية المطاف إلى رجاحة العقل، متابعا: "أما الآن فنأخذ منظومتنا النووية بعين الاعتبار، فضلا عن خفضنا سقف إمكانية اللجوء إلى السلاج النووي".
وأضاف "كاراجانوف"، خلال لقاء مع قناة القاهرة الإخبارية بموسكو، "بدأنا نأخذ مسار الارتقاء في سلم التصعيد، ونحن نثبت لخصومنا في الولايات المتحدة والغرب أننا على أهبة الاستعداد لاستخدام السلاح النووية حال اقتضى الأمر إلا أننا ننوي استخدامه انطلاقا من أن الإقدام على خطوة كهذه إنما خطيئة أخلاقية في حق أنفسنا".
وأوضح: "في طبيعة الحال باستطاعتنا استخدام السلاح النووي وإحراز النصر على الصعيد العسكري، لكننا لا نسعى لإشعال فتيل حرب نووية في العالم، أما في حال كان هذا الخيار الأخير المتاح فسنضطر إلى اتخاذ القرار بتفعيله، يجب أن يعي الجميع أن ما يدور في أوكرانيا الآن هو المعركة الأخيرة لدفن الأنا المتضخمة عند الغرب المهيمنة على العالم، وأن كفاحنا الآن ضد الغرب في أوكرانيا إنما هو كفاح في سبيل أمننا وسيادتنا".
وتابع: "وفي الوقت ذاته نكافح في سبيل الحرية للعالم أجمع الذي نرى رؤى العين أنه بات أكثر حرية فعلا، إذ أنه بدأ ينعطف تدريجيا من نيل منظومة الطغيان التي كبله الغرب بها منذ 500 سنة مضت، لذا يخيل إلى أنه في حال استخدامنا السلاح النووي- ولا أتمنى أن يتم استخدامه- ما يجعلني آمل بتفهم من جانب شركائنا وأصدقائنا في الجنوب أو ما نطلق عليه مسمى الأكثرية الدولية".