الحركات اليسارية العمانية وظرفية حراكها
تاريخ النشر: 8th, July 2024 GMT
حركة التأريخ تحمل نقطتين مهمتين: الأولى لها اقتضاءاتها السابقة عنها والمؤثرة لحدوثها، والثانية لها تأثيرها كاقتضاء في خلق أحداث أخرى تكون سببا فيها، أو ناتجة عنها، ولا يمكن قراءاتها بعيدا عن هذه الظرفية التي نشطت فيها، ولا يمكن بحال نكران تأثيرها أيضا.
والحركات اليسارية العمانية لم تكن وليدة الصدفة، فهي جزء من المنظومة العالمية حينها، حيث كان اليسار أكبر مؤثر في العالم في المطالبة باستقلال الشعوب، ونيل حقوقها وفق قيم كبرى كالعدل والمساواة بين الجميع، وفي الوقت ذاته هو جزء من المنظومة العربية التي ارتبطت بضرورة العدالة الاجتماعية في جوها الماركسي من جهة، وربطت ذلك بالثورة والتثوير من جهة أخرى، فعمت هذه الرؤية غالب الدول العربية، كمصر والعراق والكويت والبحرين وليبيا وسوريا وغيرها من أقطار العالم العربي، هذان المؤثران العالمي والعربي لم تكن عُمان حينها بمعزل عنهما، بل كانت البيئة العمانية حينها خصبة لانتشار الفكر الماركسي والحركات اليسارية.
الاقتضاءات التي جرت إلى ذلك الوضع المعيشي الذي كان يعيشه العمانيون حينها، مما جعلهم شبه مشتتين في دول الجوار، طلبا للعيش، وبحثا عن الرزق، فكان منهم فريقان، فريق هم الأقلية الذين تعرفوا وارتبطوا بقيادات ماركسية، ومنهم من أصبح جزءا مهما في التنظيم، خصوصا الذين ذهبوا للدراسة أو العمل في العراق ومصر وسورية والكويت، وفريق عريض عاشوا حالة المقارنة بين الوضع المعيشي البالغ السوء، حيث كانوا يعيشون حياة القرون الوسطى، وبين النهضة المدنية والعمرانية التي عمت العالم، ومنها العديد من دول الوطن العربي، فغرس في قلوب العديد منهم إرادة التغيير، فوجدوا في الحركات اليسارية أملا في تحقيق ذلك.
هذا الوضع الاقتصادي السيئ كان مرتبطا بالفراغ السياسي، فهناك ثلاثة اتجاهات: اتجاه النظام العام الذي كان سائدا سابقا ومركزه مسقط، واتجاه الإمامة ذات الحكم الديني التقليدي ومركزه نزوى، واتجاه الجبهة اليسارية ومركزها ظفار، وأما النظام العام فلم يكن يملك مركزية الدولة القادرة على خلق مؤسسات مدنية، وحاول أن يحدث بعض التحديثات التي ابتدأت مع السلطان فيصل بن تركي (ت 1913م)، وابنه السلطان تيمور حيث أنشأ المدرسة السلطانية الأولى عام 1930م، وهي أول مدرسة نظامية عصرية في عمان، ثم ابنه السلطان سعيد بن تيمور (ت 1972م) وقد أنشأ المدرسة السعيدية عام 1936م، وكانت بعض الإصلاحات في مسقط ومطرح خصوصا، وكانت هناك إرادة من السلطان سعيد مع أخيه السيد طارق بن تيمور (ت 1980م) في وضع إصلاحات تحديثية وعصرية ودستورية شاملة؛ إلا أنّ الوضع السياسي والاجتماعي لم يكن مهيأ لذلك، كما أنّ الانقسامات العمانية اتسعت والتي تحولت إلى صراعات مسلحة كحربَي الجبل الأخضر وظفار، وثورات ومظاهرات الستينيات من القرن العشرين فأثرت سلبا في الواقع الأمني والمعيشي، فضلا عن هيمنة البريطانيين عسكريا، وفي العديد من القرارات المالية والاقتصادية والمدنية.
وفي المقابل لم تستطع الإمامة تكوين مفهوم الدولة العصرية، ولم تكن حاضرة لديها إلا في الفترة المتأخرة من عهد الإمام غالب بن علي (ت 2009م)، حيث أنشأ مدرسة في الدمام بالسعودية، ثمّ أرسل البعثات إلى بغداد ودمشق والقاهرة، ولكن غالبها ضمن التفكير الديني وليس العصري، وحاول الانفتاح في الخارج، وإنشاء مكاتب للإمامة، ولكنها جاءت في وقت متأخر جدّا، ورموزها كانوا خارج البلد، ولم يستطع الإمام غالب تقديم مشروع للدولة الحديثة، وقد أرسل له علماء الإصلاح في ميزاب بالجزائر رسالة مبكرة عقب وفاة الإمام الخليلي (ت 1954م) نصحوه فيها بتشييد المدارس والمعاهد والكليات، وإرسال البعثات، وتعميم الصناعات، وتأسيس المطابع والشركات، وإصدار الجرائد والمجلات، بيد أنّ الأمر كسابقه، حيث حاول سابقا المصلح الليبي سليمان الباروني باشا (ت 1970م) أن يجمع بين السلطان تيمور بن فيصل (ت 1965م)، والإمام الخليلي، وحثّ من الابتداء العمانيين على «ضرورة طلب العلم، ونبذ الجهل، وإصلاح المجتمع»، ممّا جعل الإمام الخليلي «يقلّد أمر تنظيم المملكة -أي عُمان- على الوجه العصري الموافق لروح الشريعة الغراء» إلى الباروني، فبدأ ببعض الإصلاحات المالية في إدارة المال العام، وأنشأ المدرسة البارونية في سمائل، إلا أنّ إصلاحاته تمت مواجهتها بالمعارضة من التقليديين والمنتفعين بدعوى «إنّ هذا الأمر بدعة، وكلّ بدعة ضلالة، ومن قائل إنّ هذا من عمل النصارى لا نقبله، ومن قائل إنّ هذا لم نجد عليه آباءنا وأوائلنا، وهم أدرى منا بالأصلح في البلاد»، لهذا فشلت الإمامة في تقديم رؤية عصرية للدولة الحديثة.
في هذه الأجواء ولدت الحركات اليسارية في عمان، وبعضها اقتربت من التوجهات الإسلامية كالجمعية الخيرية الظفارية، والجبهة الشعبية لتحرير عمان والخليج العربي، والحركات اليسارية كانت لها تحديثاتها العصرية في التعليم والصحة والزراعة والرعي في ظفار، وبعثت في الناس روح الثورة والتغيير، فكانت هناك مطالبات لسلطان عمان سعيد بن تيمور في كفالة الحريات العامة، وإيجاد دستور، وتنظيم الاقتصاد المالي، ووجد العديد من الشباب العماني في ظفار وفي الشمال ضالتهم فيها، فولدت العديد من الجبهات، ومع الزمن أحدث هذا شيئا من الانقسامات حولها، بجانب تطور التثوير العنفي فيها من المطالبة بالإصلاح إلى إسقاط النظام، مما أدى إلى الاصطدام مع السلطة في مسقط، بجانب إيمانها بالتشكل الجمعي وفق الجانب الفردي وليس القبلي، ما جعلها تصطدم بالمكونات القبلية، خصوصا ذات النزعة النفعية، كذلك نظرتها إلى الاتجاه الإمامي المقابل أنه شكل من أشكال التخلف المؤدي إلى الحكم الثيوقراطي، فلقيت ذاتها ابتداء في صراع مع الاتجاهين الذين قابلاها بتهمة الإلحاد والمروق عن الدين والإفساد في الأرض، ثمّ وجدت نفسها أيضا في انقسامات وصراعات بين أتباعها، وصل إلى حدّ العنف وأحيانا التصفية، ومع هذا كانت أكثر تقدما في وجود رؤية إصلاحية مدنية من الاتجاهين الآخرين، لهذا لقيت رواجا عند العديد من الشباب حينها كما أسلفتُ.
هذه الاتجاهات ومنها الحركات اليسارية، بعيدا عن السلبيات التي نتجت أو حدثت عنها، إلا أنّ اقتضاءاتها عجلت مرحلة التغيير في تكوين دولة مدنية مركزية، ذات مؤسسات مدنية، تجمع العمانيين في دولة وطنية واحدة، حيث يعد 23 يوليو 1970م علامة فارقة في تاريخ عمان الحديث، حيث انبعث روح التحديث الذي لازم كافة الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والإدارية والتعليمية والقانونية والإعلامية؛ هذا سيؤثر بلا شك على الجوانب الدينية والثقافية وتأثيرها وتأثرها في الوقت ذاته بالاجتماع البشري في عمان، ابتداء من الانفتاح على العالم، وغلق العزلة التي عاشتها عُمان لأسباب سياسية، ثمّ الوحدة، وظهور الدولة المدنية القطرية المركزية الواحدة، وما لازمها من وجود مؤسسات مدنية ترقى بالإنسان العماني.
ومع هذا، مع شعار «عفا الله عما سلف» الذي أطلقه السلطان قابوس بن سعيد (ت 2020م) مبكرا، ومع الرغبة في الانفتاح على الجميع لأجل بناء عمان، إلا أنّ الرؤية غير واضحة في بدايتها عند الجميع، وطبيعي أنّ النتاج لا يكون في يوم وليلة؛ لأنّ البناء وعلى رأسه بناء الإنسان يحتاج إلى مرحلة زمنية قد تطول وفق الإمكانات المتاحة، لهذا ظلت الاضطرابات وضبابية الرؤية عند بعضهم ردحا من الزمن، ثمّ بدأت تنكشف شيئا فشيئا، حتى أدرك الجميع صدق الإرادة الأولى والتي انطلقت عام 1970م.
واليوم يمكن إدراك ما حدث وفق اقتضاءاته من زاوية أكثر قربا ودقة من السابق، لهذا ينبغي دراسة هذه المرحلة من الدائرة الواسعة؛ لأنّ غاية الجميع -كما أسلفنا- حينها عمان، وكان الواقع السياسي والمعيشي جرهم إلى ذلك، ولا ينبغي عند دراسة هذه المرحلة الزمنية التوقف عند السرديات، بقدر ما ينبغي التركيز على سننية المرحلة، واقتضاءاتها الظرفية، وفق دراسات نقدية بما تحمله تلك الذاكرة من حسنات وسيئات، لطبيعة أي ذاكرة بشرية، طالت أم قصرت، لأجل الحفاظ على ما نحن عليه اليوم من نعمة الاستقرار، ووضوح الدولة الوطنية، والتي نرجو لها تطورا مدنيا ومعرفيا واقتصاديا، واستقرارا وعدالة اجتماعية في اليوم والغد ولأجل الأجيال القادمة.
* ملحوظة: النّصوص في المقالة بين «» مقتبسة من كتاب سليمان الباروني باشا في أطوار حياته؛ لأبي اليقظان إبراهيم، ط الدّار العمانيّة، 1376هـ/ 1956م.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: العدید من إلا أن
إقرأ أيضاً:
وفرنا 152 فرصة استثمارية.. الوزير: حريصون على توطين العديد من الصناعات
كتب- أحمد عبدالمنعم:
أكد الفريق مهندس كامل الوزير، نائب رئيس مجلس الوزراء للتنمية الصناعية، وزير الصناعة والنقل، حرص وزارة الصناعة، على توطين الصناعات المُرتبطة بعدد 152 فرصة استثمارية والتي تُشكل واردات منتجاتها أهمية نسبية كبيرة في قائمة الواردات المصرية.
والتي تتوفر خاماتها المحلية وموادها الأولية في مصر، بالإضافة إلى العمل على زيادة الفرص الاستثمارية المُتاحة لإحلال الواردات المصرية، ومن أهم هذه الفرص (الحديد -الإطارات -المواد الخام الدوائية-المستلزمات الطبية-الملابس الجاهزة) والترويج لها، حيث تم تخصيص أراضٍ صناعية لعدد 441 منشأة صناعية تعمل داخل 71 فرصة استثمارية.
كما أكد الوزير، حرص الوزارة على تفعيل دور الجهاز التنفيذي للمشروعات الصناعية والتعدينية لاستكمال مراحل تنفيذ مشروعات المناطق والمجمعات الصناعية بقيمة إجمالية 3.3 مليار جنيه، ومنها تنفيذ مجمع مرغم 3 للصناعات البلاستيكية على مساحة 30 فداناً بالإسكندرية والذي يشمل 144 وحدة إنتاجية وتنفيذ التجهيزات الداخلية لمصانع الغراء وعنابر المدابغ بالمرحلة الثانية بمدينة الجلود بالروبيكي.
وأوضح أنه تم الانتهاء من عدد 10 مصانع للغراء من إجمالي عدد 40 مصنعاً خلال هذه الفترة، وإنشاء المرحلة الأولى من المنطقة الحرفية بمنطقة الترامسة بمحافظة قنا، والإشراف على تنفيذ محطة معالجة الصرف العام بمنطقة الشروق الصناعية بمحافظة القليوبية بتاريخ 22 / 10 / 2024، وقد تم توقيع بروتوكول بين الجهاز وهيئة تنمية الصعيد لقيام الجهاز بتقديم كافة الخدمات الهندسية والاستشارية والإشرافية لمشروعات هيئة التنمية الصناعية.
جاء ذلك خلال المؤتمر الصحفي الأسبوعي الذي عقده الدكتور مصطفى مدبولي، رئيس مجلس الوزراء، واستعرض فيه الفريق مهندس كامل الوزير، الموقف التنفيذي للخطة العاجلة للتنمية الصناعية خلال 130 يوماً.
اقرأ أيضا
"العمل": اجتماع مرتقب يناير المقبل لتسهيل اعتماد شهادات الهندسة المصرية بالكويت
ضوابط جديدة لاختبارات القرآن الشهرية بالمعاهد الأزهرية 2025
حكم الدخول في "جمعيات" شهرية بعد وصفها بـ "الربا".. توضيح مهم من "الأزهر للفتوى"
"الوزراء": إضافة 5200 ميجاوات من الطاقة النظيفة إلى شبكة الكهرباء -مذكرات تفاهم
5 طرق للإبلاغ عن الآثار الجانبية للأدوية والأصناف المجهولة.. تعرف عليها
الفريق كامل الوزير وزير الصناعة والنقل توطين الصناعات الواردات المصرية الفرص الاستثمارية المشروعات الصناعية هيئة التنمية الصناعية
تابع صفحتنا على أخبار جوجل
تابع صفحتنا على فيسبوك
تابع صفحتنا على يوتيوب
فيديو قد يعجبك:
الخبر التالى: تصدير بأن مصر لديها أزمة عملة.. مدبولي عن شائعة طلب زيادة قرض صندوق النقد الأخبار المتعلقة كامل الوزير: إصدار 2715 رخصة تشغيل لإقامة منشآت صناعية جديدة أخبار حدث في 8 ساعات| أول تعليق من الحكومة بشأن تعديل قانون الإيجار القديم.. أخبار وزير الصناعة: نستورد جبن بـ130 مليون دولار سنويا.. ولدينا خطة لتصنيعه أخبار على مساحة 31 ألف فدان.. كامل الوزير: نستهدف إنشاء منطقة صناعية بامتداد أخبار أخبار مصر الرئيس السيسي يعزي شيخ الأزهر في وفاة شقيقته منذ 26 دقيقة قراءة المزيد أخبار مصر رئيس الوزراء: مصر تسعى لتكون مركزًا لصناعة السيارات المتطورة منذ 53 دقيقة قراءة المزيد أخبار مصر تصدير بأن مصر لديها أزمة عملة.. مدبولي عن شائعة طلب زيادة قرض صندوق منذ 1 ساعة قراءة المزيد أخبار مصر وفرنا 152 فرصة استثمارية.. الوزير: حريصون على توطين العديد من الصناعات منذ 1 ساعة قراءة المزيد أخبار مصر كامل الوزير: إصدار 2715 رخصة تشغيل لإقامة منشآت صناعية جديدة منذ ساعتين قراءة المزيد أخبار مصر شريف مدكور يكشف آخر تطورات حالته الصحية منذ ساعتين قراءة المزيدإعلان
إعلان
أخباروفرنا 152 فرصة استثمارية.. الوزير: حريصون على توطين العديد من الصناعات
أخبار رياضة لايف ستايل فنون وثقافة سيارات إسلاميات© 2021 جميع الحقوق محفوظة لدى
إتصل بنا سياسة الخصوصية إحجز إعلانك الدفع أو التخلي.. ماذا يحمل ترامب لـ الناتو وأوروبا؟ عاجل - مصر تسدد 6 مليارات دولار مستحقات خارجية خلال الشهر الجاري 28القاهرة - مصر
28 19 الرطوبة: 37% الرياح: شمال المزيد أخبار أخبار الرئيسية أخبار مصر أخبار العرب والعالم حوادث المحافظات أخبار التعليم مقالات فيديوهات إخبارية أخبار bbc وظائف اقتصاد أسعار الذهب أخبار التعليم رياضة رياضة الرئيسية مواعيد ونتائج المباريات رياضة محلية كرة نسائية مصراوي ستوري رياضة عربية وعالمية فانتازي لايف ستايل لايف ستايل الرئيسية علاقات الموضة و الجمال مطبخ مصراوي نصائح طبية الحمل والأمومة الرجل سفر وسياحة أخبار البنوك فنون وثقافة فنون الرئيسية فيديوهات فنية موسيقى مسرح وتليفزيون سينما زووم أجنبي حكايات الناس ملفات Cross Media مؤشر مصراوي منوعات عقارات فيديوهات صور وفيديوهات الرئيسية مصراوي TV صور وألبومات فيديوهات إخبارية صور وفيديوهات سيارات صور وفيديوهات فنية صور وفيديوهات رياضية صور وفيديوهات منوعات صور وفيديوهات إسلامية صور وفيديوهات وصفات سيارات سيارات رئيسية أخبار السيارات ألبوم صور فيديوهات سيارات سباقات نصائح علوم وتكنولوجيا تبرعات إسلاميات إسلاميات رئيسية ليطمئن قلبك فتاوى مقالات السيرة النبوية القرآن الكريم أخرى قصص وعبر فيديوهات إسلامية مواقيت الصلاة أرشيف مصراوي إتصل بنا سياسة الخصوصية إحجز إعلانك خدمة الإشعارات تلقى آخر الأخبار والمستجدات من موقع مصراوي لاحقا اشترك