تمثّل الأحداث والوقائع في المجتمع مادة خصبة للباحث في الدراسات الثقافية، من خلال رصد بعض التحولات الاجتماعية وتطورها من الحالة العابرة إلى الظاهرة التي تصبح عُرفا اجتماعيا لا يمكن التنازل عنه إلا باتباع ظاهرة أخرى تحل محل الأولى أو تتطور عنها، فخلال الأيام الماضية أقيمت مسابقة لشاعر الهبوت بتنظيم من مجلس ظفار الثقافي للتراث والإبداع (قيد الإشهار)، وقد حظيت المسابقة بمتابعة جماهيرية على نطاق واسع في محافظة ظفار، وامتد صيتها إلى محافظة المهرة في الجمهورية اليمنية الشقيقة نظرا لمشاركة متسابقين يمنيين في الفعالية.

وقبل البحث في مفهوم صناعة الثقافة، لا بد من التعريف بفن الهبوت، وهو فن حماسي ينتشر في محافظة ظفار وفي بعض المناطق اليمنية، و(الهبوت) لفظة من الدارجة الظفارية مشتقة من كلمة (هِبُوت) في اللغة الشحرية وتعني القصيدة، وهب الرجل بمعنى أنشد أو نظم القصيد. يُؤدى فن الهبوت باللغة العربية إذ ينظم الشاعر قصيدته المكونة من أربعة أبيات ثم يلقنها للمرددين الذي ينتظمون في صفوف متتابعة أثناء دخولهم لميدان الاحتفال، ثم يتحلقون في صف نصف دائري في مقابلة الفريق الآخر الذي يرحب بقدوم الشاعر والمرددين معه.

يمثل فن الهبوت إعلان القبيلة لمشاركتها في المناسبات الاجتماعية كالأعراس وحفلات شفاء المرضى وعودة المسافرين، وفي السابق تقام لمناسبات الختان. تتضمن قصائد الهبوت الاعتزاز بالقبيلة ومنافسة القبائل الأخرى بذكر المناقب التي تميزها عن غيرها واجترار الأحداث التاريخية في المنطقة، بمعنى أن فن الهبوت فن قبلي بامتياز، ومناسبة لظهور شعراء ارتبط ظهورهم وشهرتهم بهذا الفن. أسهم فن الهبوت في الماضي في عقد المصالحات القبلية وتكوين الأحلاف وإشاعة التفاهم بين المكونات القبلية في المحافظة، وربما تضاف هذه القيمة إلى سجل الهبوت.

وقبل العودة إلى المسابقة المذكورة، أريد أن أستبق القارئ لأبيّن أنني لست بصدد تقييم المسابقة بقدر ما هي محاولة لدراسة الحالة وكيفية تطوير المفردات الثقافية وتحويلها إلى صناعة ثقافية، فقد جرت التحضيرات للمسابقة منذ شهر مايو الماضي، ووضعت اللجنة المنظمة شروط المسابقة، واختارت المحكمين من الشعراء في التصفيات الأولية، قبل أن تمنح الجمهور حق التصويت للمتسابقين عبر الرسائل النصية، إذ وفرت شركات الاتصالات العاملة في سلطنة عمان فرصة لمشتركيها في التصويت. هنا بالتحديد خرج التقييم من إطاره الفني في اكتشاف المواهب الشابة والاهتمام بفن الهبوت، إلى ساحات التواصل الاجتماعي، حيث ذهبت كل قبيلة تدعو إلى التصويت لأبنائها المشاركين في المسابقة، فتم التحشيد وإثارة الرأي العام عبر شراء الأصوات وتحميل المصوتين أعباء مالية استجابة لنداء (الفزعة) لمساندة أبناء قبائلهم.

كان بالإمكان إقامة المسابقة دون ضجيج أو ردود أفعال غير مرغوبة كما حدث لاحقا، لو أن لجنة التحكيم اتّبعت آلية ممنهجة ومُحكّمة بعيدا عن التصويت الجماهيري الذي يقلل عادة من موهبة الشاعر وإبداعه، نقول لو لم يشترك الجمهور في التصويت لما حدث الضجيج وردود الأفعال التي لا أجد داعيا لسردها هنا.

إذن ما العلاقة بين مسابقة فن الهبوت وبين صناعة الثقافة؟ تحضر الإجابة في كتاب «النظرية الثقافية والثقافة الشعبية» للكاتب البريطاني جون ستوري (74 عاما) بترجمة صالح أبو أصبع وفاروق منصور، وصدرت الترجمة العربية للكتاب سنة 2014 عن هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة، حيث يخبرنا ستوري بأن مصطلح صناعة الثقافة قد وُلِد في مدرسة فرانكفورت سنة 1944 على يدي ثيودور أدورنو (1903-1969) وماكس هوركهايمر (1895-1973) «للتعبير عن منتجات الثقافة الجماهيرية وعملياتها»، وبما أنها كذلك فإنها «لا تشجع الجماهير على التفكير فيما وراء حدود الحاضر»، بل إن صناعة الثقافة تحاول تسطيح الأدب والفن والذوق عبر التقليل من قيمة الثقافة الرفيعة لأنها تشكّل بُعدا آخر للواقع، وتسعى إلى تحقيق القيمة المالية على حساب الثقافة الأصلية وتحرمها من وظيفتها النقدية، إذ يطغى تسليع الثقافة والمتاجرة بها، كما يقول مؤلف كتاب النظرية الثقافية، وهذا ما يمكن إسقاطه على المسابقات التي تعتمد على العناصر الثقافية في صناعة محتواها ثم يتم تسويق المنتج بواسطة شركات الاتصالات التي يمثل لها التصويت والمنافسة سواء على مستوى المكونات الاجتماعية القبلية، أو عن طريق التنافس بين الدول، كما شاهدنا ذلك في الكثير من المسابقات التي تربح أكثر من الجوائز التي تمنحها للفائز.

إن مسابقة شاعر الهبوت تُعلمنا أن الثقافة منجم لكل صناعة محتوى، ويمكن الاعتماد عليها في ابتكار أساليب حديثة بغية الاهتمام بالعناصر الثقافية ونقلها إلى الأجيال القادمة.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: صناعة الثقافة

إقرأ أيضاً:

محافظ المنوفية يتفقد مكتبة مصر العامة المتنقلة لتقديم الخدمات الثقافية المتنوعة

تفقد اليوم اللواء إبراهيم أبو ليمون محافظ المنوفية المكتبة المتنقلة  التابعة لصندوق مكتبات مصر العامة أمام مقر ديوان عام المحافظة ،  والتي تضم خدمات مكتبية ومعلوماتية وأنشطة ثقافية وأدوات تدريبية ومكتبة إلكترونية ومعارض فنية وغيرها من الأنشطة  تجوب مراكز ومدن المحافظة ،  للارتقاء بالمستوى المعرفي لنشر الوعي وخلق جيل قادر على مواجهة التحديات وتحقيق أهداف المحور الثقافي في ظل بناء الجمهورية الجديدة تنفيذاً لتوجيهات القيادة السياسية .

جاء ذلك بحضور اللواء عبد الله الديب السكرتير العام ، المحاسب خالد النمر السكرتير العام المساعد ، الدكتورة علا الغتمي مدير إدارة التعاون الدولي بالديوان العام ،  أحمد فوزي المشرف العام على مكتبات مصر العامة بالمحافظة.

المنوفية .. إنقلاب سيارة محملة بالبنجر علي الطريق الإقليميلم تنقذها الأم.. مصرع طفلة في حريق شقة بالمنوفيةوالد الشاب ضحية أولوية المرور بالمنوفية: ابني طيب اتغدر بيه .. فيديو وصورمصرع محامي وموكله في حادث تصادم دراجة نارية مع تريلا بالمنوفية


حيث اطلع محافظ المنوفية على مكونات المكتبة المتنقلة ، موجهاً بإعداد جدول تفصيلي لخطة تشغيل المكتبة وضرورة تزويدها بكافة الكتب التي تناسب كافة الأعمار ، مؤكداً أن تلك المكتبات تعد نقلة نوعية متميزة في مسار منظومة العمل الثقافي والتنموي بالمحافظة وقيمة مضافة لتحقيق التنوع في الأنشطة الثقافية والفنية المقدمة وما تتسم به من التزام وتنظيم وحرص على تطوير العمل بما يخدم مسار التنمية الثقافية بربوع الوطن.
ومن جانبه ثمن محافظ المنوفية الدور الرائد لصندوق  مكتبات مصر العامة وما يقوم به من مجهودات للمساهمة في إقامة صروح ثقافية و تعليمية و فكرية عملاقة لتحقيق تنمية شاملة على أرض المنوفية ودفع عجلة البناء والتنمية في شتى القطاعات ، مشيراً إلى إستمرار التنسيق التام وتقديم كافة أوجه الدعم لمشروعات صندوق مكتبة مصر العامة والتوسع في إنشائها بنطاق المحافظة لخدمة المواطنين.

طباعة شارك محافظة المنوفية المنوفية اخبار محافظة المنوفية مكتبة مكتبات مصر

مقالات مشابهة

  • الفاتيكان: بدء التصويت لانتخاب البابا الجديد في 7 مايو
  • نائب محافظ بورسعيد يشهد مؤتمر أدباء القناة وسيناء في دورته الخامسة والعشرين
  • القمة الثقافية في أبوظبي تناقش تبدلات توزيع القوى والأقطاب العالمية
  • ندوة عن المكتبات والمراكز الثقافية والمخطوطات في محافظة شمال الشرقية
  • مؤتمر "البيجيدي" يشرع في التصويت على الأمين العام الجديد وسط تقدم لافت لابن كيران ومنافسة الأزمي
  • محافظ المنوفية يتفقد مكتبة مصر العامة المتنقلة لتقديم الخدمات الثقافية المتنوعة
  • القمة الثقافية أبوظبي تنطلق بمشاركة قادة عالميين
  • البدور تضيء سماء الثقافة في ليلة أكاديمية فنسفة الثقافية في اليوم العالمي للفن
  • لمواجهة البطالة.. الوظيفة أم كسب العيش؟!
  • أبوظبي الدولي للكتاب 2025 ينظم برنامجًا مهنيًا يناقش آفاق صناعة النشر