تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

منذ اندلاع الأزمة السودانية في أبريل 2023، سخرت مصر كافة مؤسساتها المعنية لاحتواءها في محاولة لحقن دماء الشعب السوداني، في إطار السياسة الخارجية المصرية وثوابتها المتمثلة في استقرار ووحدة السودان وعدم التدخل في شئونه الداخلية، وهذا ما نقدمه دائما للشعب السوداني الشقيق. 

ولكن انتشرت دعوات وتم تدشين مجموعات على الفيسبوك والواتس اب وظيفتهم فقط مهاجمة استقبال مصر للاجئين السودانيين، كأنه دور جديد على مصر أو كأن السودانيين كانت لديهم رفاهية الاختيار ما بين الحرب والسلام.

ولكن كان هناك عدد من الجوانب الهامة لهذا الأمر وهو التأكيد على الروابط التاريخية بين مصر والسودان في السلم والحرب، وطرح هام هل هناك ضغط على  الخدمات والمرافق العامة بعد استقبال ما يزيد 9 مليون لاجيء؟ وكيف تتفادى مصر تلك المعضلة؟.

من نحو 133 دولة

في مؤتمر عقده مصطفى مدبولي للتدقيق في أعداد اللاجئين بمصر،  استعرض الدكتور خالد عبدالغفار، وزير الصحة والسكان، الخدمات الصحية التي تقدمها الدولة للمهاجرين واللاجئين في قطاع الصحة، مشيرًا إلى أن هناك حوالي 9 ملايين مهاجر ولاجئ يعيشون في مصر من نحو 133 دولة، بنسبة 50.4% ذكور، و49.6% إناث، وبمتوسط عمري يصل إلى 35 سنة، يمثلون 8.7% من حجم سكان مصر، لافتا إلى أن 56% منهم يقيمون في 5 محافظات: القاهرة، والجيزة، والإسكندرية، والدقهلية، ودمياط، كما أن هناك 60% من المهاجرين يعيشون في مصر منذ حوالي 10 سنوات، و6% يعيشون باندماج داخل المجتمع المصري منذ نحو 15 عامًا أو أكثر، بالإضافة إلى أن هناك 37% منهم يعملون في وظائف ثابتة وشركات مستقرة.

مؤتمر "معًا لوقف الحرب"

عقد مؤتمر تحت شعار "معًا لوقف الحرب"، اليوم الأحد، بحضور وفدا سودانيا استقبله الرئيس عبد الفتاح السيسي، بحضور الدكتور بدر عبد العاطي وزير الخارجية والهجرة وشئون المصريين في الخارج، واللواء عباس كامل رئيس المخابرات العامة، بالإضافة إلى عدد من ممثلي الأطراف الإقليمية والدولية، من بينهم وزير خارجية تشاد، وكبار مسئولي دول الإمارات وقطر وجنوب السودان وألمانيا، فضلًا عن ممثلي الاتحاد الأفريقي وجامعة الدول العربية والأمم المتحدة، وسفراء فرنسا والمملكة المتحدة والنرويج والاتحاد الأوروبي والسعودية بالقاهرة.

وأوضح المتحدث الرسمي باسم رئاسة الجمهورية أن الرئيس أعرب، خلال اللقاء، عن تقديره لاستجابة المشاركين للدعوة المصرية لعقد هذا المؤتمر المهم، في ظل اللحظة التاريخية الفارقة التي يمر بها السودان الشقيق، والتي تتطلب تهيئة المناخ المناسب، لتوحيد رؤى السودانيين تجاه كيفية وقف الحرب، مشددًا على أن مصر لن تألو جهدًا، ولن تدخر أية محاولة، في سبيل رأب الصدع بين مختلف الأطراف السودانية، ووقف الحرب، وضمان عودة الأمن والاستقرار، والحفاظ على مقدرات الشعب السوداني، مؤكدًا ضرورة تكاتف المساعي للتوصل لحل سياسي شامل، يحقق تطلعات شعب السودان، وينهي الأزمة العميقة متعددة الأبعاد التي يعيشها السودان، بما تحمله من تداعيات كارثية على مختلف الأصعدة، السياسية والاجتماعية والإنسانية.

وأضاف المتحدث الرسمي أن المتحدثين من رموز القوى السياسية والمدنية السودانية، أعربوا من جانبهم عن تقديرهم وتثمنيهم البالغ للجهود المصرية المخلصة لدعم السودان منذ بدء الأزمة الراهنة، ما يجسد عمق الأواصر التي تجمع شعبي البلدين ووحدة التاريخ والمصير بينهما، مؤكدين ترحيبهم بمساعي القيادة المصرية لتقريب وجهات نظر الأطراف السودانية للخروج من الأزمة الحالية، فضلًا عن الدعم الذي تقدمه مصر لشعب السودان، سواء عبر سعيها الدؤوب لمعالجة الوضع الإنساني الكارثي الذي تعيشه مناطق واسعة في السودان، أو من خلال استضافتها الكريمة والطيبة، شعبًا وحكومة، لأبناء الشعب السوداني في وطنهم الثاني مصر، بما يعكس العلاقات الأخوية الأزلية التي تربط البلدين والشعبين الشقيقين.

سياق اللاجئين في مصر

في تقرير نشرته منظمة الأمومة والطفولة "اليونيسيف" بعنوان "سياق اللاجئين في مصر"، أكدت على أن اللاجئين وطالبي اللجوء يعيشون في بيئة حضرية في مصر، ويتركزون إلى حد كبير في القاهرة الكبرى والإسكندرية ودمياط وعدة مدن في الساحل الشمالي ومدن القنال. ووتابعت "اليونيسيف" مع ذلك، في السنوات الأخيرة، زادت الظروف الاقتصادية الصعبة في مصر بشكل كبير من احتياج اللاجئين وأفراد المجتمع المُضيف، ومع افتقار العديد من اللاجئين إلى مصدر دخل ثابت إلى جانب زيادة التضخم، تتم بالكاد تلبية الاحتياجات الأساسية.

كما عددت "اليونيسيف" التحديات الأخرى التي تحيط أزمة اللاجئين منها محدودية الحصول على فرص كسب رزق فضلا عن حاجز اللغة الذي يواجه اللاجئين غير الناطقين باللغة العربية، كما يفتقر البعض إلى التعليم الرسمي المستدام الذي يمكن أن يدعم تطورهم. وبالإضافة إلى ذلك، يعتمد عدد كبير من اللاجئين وطالبي اللجوء على المساعدات الإنسانية لتلبية احتياجاتهم الأساسية والحصول على الدعم الطبي أو النفسي – الاجتماعي.

كتاب "مصر والسودان"

في عام 2019 أعلنت الهيئة العامة للإستعلامات عن إصدارها كتاب "مصر والسودان" لتوضيح أن علاقات مصر والسودان أزلية وشاملة.

ووذكر الكتاب أنه في عام 1820، قام محمد علي باشا بدخول الأراضي السودانية وتمكن في الفترة من 1820 ـ 1823م، وعن طريق حملاته العسكرية من القضاء على الممالك القائمة وإدخالها في قيادته، وبدأ من هذا التأريخ تأسيس الوحدة السياسية لوادي النيل في ظل الدولة الحديثة.

 

وأشار الكتاب الى ان الوجود المصري في السودان ساهم في توحيد الكيان السياسي السوداني وربط أقاليمه بمصر برباط الوحدة العضوية والسياسية، الأمر الذي عزّز ورسّخ الأسس الوحدوية لوادي النيل ورسخ علاقات التواصل الديني والنفسي والثقافي والوجداني، إضافة إلى المياه والاقتصاد والتجارة، وقد ظل السودان يشكل جزءًا من مصر خاصةً قبل اتفاقية الحكم الثنائي التي أعقبت الاحتلال البريطاني للسودان1899.

تأثر السودان بثورة 1919م

كما أشار الكتاب إلى تأثر السودان بثورة 1919م فأخذ الوطنيون يجمعون صفوفهم ويتطلعون إلى الاستعانة بأشقائهم في مصر للاستفادة من تجاربهم في الكفاح من أجل الحرية والاستقلال، وفي عام 1936م تم وضع معاهدة قضت بإشراك مصر فعليًا في إدارة السودان، وقد كفل ذلك عودة الجيش المصري للسودان بناءًا علي قرار مجلس الوزراء المصري في 31/3/1937م.

إعلان الملك فاروق ملكًا علي مصر والسودان

واوضح كتاب هيئة الاستعلامات أن حكومة الوفد المصري بادرت في الخامس عشر من أكتوبر 1951م إلي إلغاء معاهدة 1936م، واتفاقية الحكم الثنائي، والتي تنص علي إدارة السودان شراكة بين مصر وبريطانيا، وبعد ذلك جرى تعديل الدستور المصري ليتم بمقتضاه إعلان الملك فاروق ملكًا علي مصر والسودان، وصدر قانون آخر لقيام جمعية تأسيسية مهمتها وضع دستور خاص، تجرى بمقتضاه انتخابات عامة لتكوين برلمان سوداني، ومجلس للوزراء، إلى إن قامت ثورة 23 يوليو 1952في مصر والتي اعترفت بحق السودان في تقرير مصيره وطالبت بانهاء الحكم الإنجليزي المدني والعسكري من السودان، وقد أدت المفاوضات المصرية البريطانية إلى توقيع اتفاقية السودان في 12/2/1953م، وبناءً عليها تأسست أول حكومة وطنية سودانية برئاسة اسماعيل الأزهري في 9/1/1954م، وفي الاول من يناير تم اعلان استقلال السودان.

وقوف السودان بجانب مصر بعد نكسة يونيو 1967

ورصد كتاب الاستعلامات، وقوف السودان بجانب مصر بعد نكسة يونيو 1967 وتلبية احتياجاتها الحربية، ووفر السودان المأوى والملجأ للطائرات المصرية، كما كان السودان المكان الآمن لدفعات من طلبة الكلية الحربية المصرية خلال تلك الفترة حيث تم نقل الكلية من القاهرة الى الخرطوم، وصعدت العلاقات إلى ذروتها بعدما استضافت السودان القمة العربية في الخرطوم المشهورة بلاءاتها الثلاث في مواجهة اسرائيلوالتي تم التأكيد فيها على وحدة الصف العربي وتصفية الخلافات.

حرب أكتوبر

واوضح الكتاب ان علاقات البلدين شهدت تحسنًا كبيرًا في فترة السادات –  جعفر النميري، وقد شارك الجيش السوداني في حرب أكتوبر عام 1973، حيث شاركت القوات السودانية كقوة احتياط بلواء مشاة وكتيبة قوات خاصة وتجنيد المتطوعين للقيام بمهمة إسناد للقوات المصرية لعبور خط بارليف حيث عبر عدد منهم القناة إلى جانب القوات المصرية، كما تم توقيع اتفاق للتكامل الاقتصادي بين البلدين في فبراير 1974وذلك بهدف دفع عجلة التكامل الإقتصادي والسياسي قدما.

اتفاق الحريات الأربع

ومع مطلع الألفية الجديدة بدأت العلاقات المصرية السودانية في التحسن، ففي عام 2004، تم توقيع «اتفاق الحريات الأربع» الذي نص على: حرية التنقل، وحرية الإقامة، وحرية العمل، وحرية التملك بين البلدين. 

واعتبرت أوساط سياسية وإعلامية حينها أن تلك الاتفاقية دشنت عهدًا جديدًا من العلاقات بين البلدين، وطوت معها صفحة الماضي وأزماته.

تغيير سياسات مصر للتعامل مع اللاجئين

يقول مصطفى شحاتة باحث سياسي، في ورقته البحثية التي نشرت مارس الماضي بعنوان "هل تحتاج مصر إلى تغيير سياساتها للتعامل مع اللاجئين؟"، أنه يمكن للحكومة المصرية الاستفادة من التسجيل السابق للمنظمة الدولية لهجرة اللاجئين والمهاجرين بالبحث عن سبل للاستفادة منهم بدمجهم في المجتمع واستغلال الكفاءات، كما تفعل دول مثل: ألمانيا.

وتابع "شحاتة" كما يمكن عمل دراسة للأماكن التي اختاروها للإقامة إذا ما كان يمكن توفير وظائف بعينها تمكنهم من العمل فيها وبالتالي إنتاج ما يفيد الدولة في نهاية المطاف، وتأثير سكنهم في هذه المناطق في الأسعار، خصوصًا الإيجارات والتمليك. 

كما طالب "شحاتة" الإدارة المصرية بضرورة وضع "تشريع يقنن أوضاع اللاجئين" ويضبط تعاملاتهم مع الحكومة وحتى تجمعاتهم في بعض أماكن السكن  ويكون الأساس فيه الحد من عدم المساواة وجعل التمتع بالخدمات الأساسية بين المواطنين والأجانب هدفًا له كما حدث في القانون المغربي.

 

المصدر: البوابة نيوز

كلمات دلالية: الأزمة السودانية مؤتمر معا لوقف الحرب مصر والسودان فی مصر فی عام

إقرأ أيضاً:

على طريق الانعتاق من الهيمنة المصرية (13 – 20)

"لن يستطيعَ أحدٌ أن يركبَ على ظهرِك، ما لم تَكُنْ مُنحنياً"

مارتن لوثر كينج

النور حمد

تلوُّن النظام الإخواني

لقد أجبرت الضغوط الشديدة التي واجهها نظام الترابي/البشير في السودان، منذ بداية التسعينات، على التلون وإلى اكتساب مهاراتٍ للبقاء جعلته يمسك بالسلطة، حتى الآن، لستةٍ وثلاثين عاما. هذه الحقيقة ينبغي، في تقديري المتواضع، أن تكون حاضرةً في ذهن القوى الدولية والإقليمية المنخرطة في محاولة إيجاد نهاية للحرب البشعة الجارية الآن في السودان. كما ينبغي، أيضا، أن تكون حاضرةً في ذهن النظام المصري، الذي اتخذ من بقايا النظام الإخواني حليفًا له. وما من شك أن الأطماع التاريخية في السودان أعمت النظام المصري من أن يرى بوضوحٍ كافٍ خطورة بقايا هذا النظام الإخواني السوداني المتَّسم بالتلوُّن والمكر والغدر. ولا أدرى إلى أي مدىً سوف تصطحب القوى الدولية والإقليمية في تقديراتها هذه الطبيعة المراوغة الماكرة لهذا النظام الإخواني الكليبتوقراطي، وإلى أي مدى سيتذكر النظام المصري، الذي يحاول حاليًا احتكار ملف الأزمة السودانية، تجاربه المريرة مع نظام الترابي/البشير. فهل يا ترى نسي النظام المصري الصراعات الدموية بين الدولة المصرية وتنظيم الإخوان المسلمين وتفرعاته، منذ اغتيال بطرس غالي باشا، وأحمد ماهر باشا، وأحمد الخازندار، ومحمود فهمي النقراشي، ومحمد حسين الذهبي، ويوسف السباعي، وأنور السادات، ورفعت المحجوب، وفرج فودة؟ هذا، إلى جانب العديد من محاولاتوالاغتيال الفاشلة. ومن الهجمات الإرهابية على كنائس المواطنين من الطائفة المسيحية القبطية، والهجمات الإرهابية على أوتوبيسات السياح الأجانب .

لقد استضاف نظام الترابي/البشير، في فترة التسعينات من القرن الماضي، عتاة الإرهابيين الدوليين من عيار أسامة بن لادن والثعلب كارلوس. كما قام بمحاولة اغتيال الرئيس المصري حسني مبارك في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا. إلى جانب ذلك، فتح النظام الباب للمتطرفين الإسلاميين من جميع إنحاء العالم، لدخول السودان، ومنحهم جوازات سفر سودانية. كما كان له دورٌ في التفجير الأول في برج التجارة الدولية في نيويورك، وفي تفجيرات السفارات الأمريكية في شرق أفريقيا، وفي حادثة تفجير المدمرة كول على سواحل اليمن. ومنذ بداية التسعينات، ناصب هذ النظام الإخواني دول الخليج العربية العداء وفتح أبواقه الإعلامية ضدها ودعا إلى الإطاحة بها. وحين غزا صدام حسين الكويت وقف مع الغازي المعتدي، فجرى تصنيفه حينها ضمن ما سُميت "دول الضد". كل تلك الأمور وضعت النظام الإخواني السوداني في قائمة الدول الراعية للإرهاب، وجرى توقيع عقوباتٍ قاسيةٍ عليه. المؤسف أن النظام المصري استثمر في تلك العقوبات فقام بتأييدها، بغرض تعطيل السودان عن النهوض حتى يبقى تحت الهيمنة المصرية المستدامة. ولهذا السبب كَرِهَ النظام المصري حكومة الدكتور حمدوك وعمل على إبعادها من السلطة لأنها نجحت في إخراج السودان من أسر العقوبات، كما أعلنت أنها ستوقف تصدير السودان مواده الخام السودانية قبل أن تجري معالجتها لإضفاء القيمة المضافة عليها.

تمكن النظام الإخواني في السودان من إرخاء القبضة الاقتصادية الخانقة عليه، بالاتجاه إلى كندا، حيث دخلت شركة تاليسمان الكندية إلى السودان. لكنها، سرعان ما باعت أسهمها إلى أحد فروع شركة أويل آند ناتشورال قاس كوربوريشن الهندية، مقابل 720 مليون دولارًا أمريكيا. ويبدو أن ذلك حدث نتيجة لضغوطٍ من الحكومة الكندية، التي رأت أن عائدات النفط في السودان تذهب لإزكاء الحرب. (راجع: موقع قناة CBC على الرابط: https://shorturl.at/r8kmR). عقب ذلك، دخلت، كلٌّ من الصين وماليزيا في صناعة البترول السودانية لينجح النظام الإخواني، رغم المقاطعات، في استخراج البترول، الذي طالما تعثر استخراجه. في نهاية عقد التسعينات أطاح عمر البشير بالدكتور حسن الترابي صاحب فكرة الانقلاب الذي أتى بالبشير إلى السلطة. غير أن النظام الإخواني لم يغيِّر جلده، إذ استمر في حربه الدينية الجهادية في جنوب السودان. بل، وأضاف إليها حربًا أخرى في دارفور اتسمت بالتطهير العرقي والإبادة الجماعية. كما قوَّى النظام صلته بإيران بل وأصبح وسيطًا لإرسال الأسلحة الإيرانية إلى منظمة حماس في غزة عبر بدو صحراء سيناء، الأمر الذي جرَّ إسرائيل إلى تنفيذ غارتين جويتين داخل السودان.

التعاون مع سي آي آيه

تحت وطأة الضغوط الدولية والعقوبات الاقتصادية أخذ النظام الإخواني يخطب ود الغرب مقدمًا استعداده لتقديم ملفات الإرهابيين الذين سبق أن استقطبهم وتعاون معهم. فأرسلت وكالة الاستخبارات الأمريكية (CIA) طائرةً خاصةً إلى مدير الاستخبارات السودانية، صلاح قوش، لكي يأخذ معه كل ملفات الإرهابيين الذين تعامل معهم نظامه. وقد كانت تلك محاولةً من النظام للخروج من قائمة الدول الداعمة للإرهاب، ومن ثم، رفع العقوبات عنه. قدم صلاح قوش ما طلب منه في خيانةٍ قبيحةٍ لجميع من سبق أن استقطبهم واستخدمهم من الإرهابيين. غير أن المخابرات الأمريكية استحلبت منه كل ما تريد، ولم يحصل منها على شيء نظير ما قدمه لها. وقد كشف موقع ويكيليكس عن محضر لقاءٍ جرى بين وفد من أعضاء لجنة العلاقات الخارجية واللجنة الفرعية لأفريقيا في مجلس الشيوخ الأميركي، ورئيس جهاز الأمن والمخابرات السوداني السابق صلاح عبد الله قوش. وقد أشارت البرقية رقم 09KHARTOUM698، المرسلة من السفارة الأميركية في الخرطوم لرئاستها في واشنطن بتاريخ 28/5/2009م، إلى أن صلاح قوش أعرب عن خيبة أمله لدي لقائه بالسناتور الجمهوري من ولاية جورجيا، جوني آزياكسون، والسناتور الجمهوري من ولاية تينسي، بوب كريكر. وبحسب البرقية، أرجع قوش خيبة أمله إلى أنه تعاون مع وكالة المخابرات الأميركية (CIA)، طيلة التسع سنوات الماضيه، قائلاً إن هذا التعاون لم يثمر في رفع السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب. وأردف قائلاً: "خلال التسعة سنوات الماضية نجحنا في إنقاذ حياة أعدادٍ كبيرةٍ من الأميركان في الإقليم وفي الشرق الأوسط، بسبب تعاوننا مع وكالة المخابرات الأميركية". وأكد قوش للوفد الأميركي أن عليهم أن يدركوا أن السودان يدفع "ثمناً باهظاً"، بسبب تعاونه مع المخابرات الأميركية في مكافحة الإرهاب. وأنه شخصيًا يدفع ثمنًا لذلك التعاون. وقال إن أعضاء الحزب الحاكم، المؤتمر الوطني أصبحوا ينعتونه بعميل أميركا. والإسلاميون يسمونه "الكافر" جراء تعاونه مع الأمريكيين. ووصف قوش، وفقًا لتلك البرقية، السياسة الأميركية بقصر النظر، وأنها متأثرةٌ بأجندة مجموعات الضغط مثال، "إنقاذ دارفور". (راجع: موقع ويكيليكس، على الرابط: https://shorturl.at/Y96R7). وفي أغسطس 2019 بلغ سوء معاملة أمريكا لصلاح قوش ورصفائه محمد عطا المولى وطه عثمان الحسين أن وقعت عليهم عقوبات تضمنت منعهم من دخول أمريكا. (راجع: صحيفة سودان تربيون على الرابط: https://shorturl.at/kHcGa).

الفريق، صلاح قوش المطلع بدقة على تعاون النظام الإخواني السوداني مع الجماعات الإرهابية والذي ذهب إلى أمريكا، كما ذكرنا، لكي يقدم لها المعلومات نظير أن ترفع أمريكا العقوبات عن النظام، هو الآن، كما سبق أن ذكرنا، ضيفٌ على مصر وجهاز مخابراتها. وكما سبق أن أشرنا أن هذا واحدًا من أبلغ الأدلة على هزال الدولة السودانية وعلى حالة الضعة والهوان التي أوصلها إليها النظام الإخواني. حيث أصبح لجوء رئيس جهاز المخابرات إلى دولةٍ جارةٍ لها مطامع في الهيمنة عليه وعلى موارده، أمرًا لا يرفع حاجب الدهشة. لقد استخدمت المخابرات المصرية الفريق صلاح قوش في كل المؤامرات التي أدت إلى انقلاب 25 أكتوبر 2023، الذي قوض الفترة الانتقالية وأطاح بحكومة عبد الله حمدوك، وقفل الطريق أمام التحول الديمقراطي. كما استخدمت كل من السعودية والإمارات العربية المتحدة الفريق طه عثمان الحسين، في مرحلةٍ ما، لنفس الغرض.

مناورة طرد الإيرانيين

قبل ثلاثة أعوامٍ فقط من سقوط نظام المشير عمر البشير، خرج وزير الخارجية السوداني إبراهيم غندور، بصورةٍ مفاجئةٍ، على قناة الجزيرة ليؤكد أن السودان قد قطع علاقاته الدبلوماسية مع إيران على خلفية التدخلات الإيرانية في المنطقة على أسسٍ طائفية، وبسبب اعتداءاتها على سفارة وقنصلية السعودية في طهران. وفي وقتٍ سابقٍ لهذا التصريح، كانت وكالة الأنباء السعودية قد أوردت أن مدير عام مكاتب الرئيس السوداني عمر البشير، الفريق طه عثمان الحسين، أبلغ هاتفيًا، وبصورةٍ شخصية، ولي العهد السعودي أن الخرطوم قررت طرد السفير الإيراني، ومعه كامل البعثة الدبلوماسية. وأنها قامت إلى جانب ذلك باستدعاء السفير السوداني من إيران. وأكد طه لولي العهد السعودي إدانة السودان لتدخلات طهران في المنطقة، وإهمالها حماية السفارة والقنصلية السعوديتين في إيران. كما أعرب عن وقوف السودان مع السعودية في مواجهة الإرهاب وتنفيذ كافة الإجراءات الرادعة له، ونسبت "الجزيرة نت" ذلك الخبر إلى وكالة الأنباء السعودية. (راجع: موقع "الجزيرة نت"، على الرابط: https://shorturl.at/jyxQT). وقد جرى طرد إيران من السودان، بعد فترةٍ طويلةٍ من التعاون، كان النظام السوداني قد سمح لها فيها بالدفع للمد الشيعي للتغلغل في السودان. فنشأت الحسينيات والمراكز الثفافية الإيرانية، وانتشرت المطبوعات الشيعية، وغير ذلك مما تفعله إيران عادةً في نشر نسختها من الإسلام السياسي في مختلف الدول. وقد تبع طرد الإيرانيين انخراط النظام السوداني بالجنود في ما سميت "معركة الحزم"، التي شنها التحالف الخليجي على الحوثيين في اليمن. الأمر الذي جعل النظام السوداني منخرطًا عسكريًّا في مواجهة إيران ممثلةً في الحوثيين في اليمن.

لكن، في أثناء هذه الحرب الدائرة الآن، أعاد النظام الإخواني السوداني، الذي يجلس على رأسه حاليًا الفريق عبد الفتاح البرهان محل الرئيس المخلوع عمر البشير، العلاقات الدبلوماسية مع إيران. وأخذت الأسلحة الإيرانية تتدفق على السودان، وعلى رأسها الطائرات المسيرة. (راجع: موقع "سكاي نيوز عربية على الرابط: https://tinyurl.com/3aynrmm5). الشاهد أن كل هذه التقلُّبات تجعل المرء يتساءل: من أين تأتي الثقة في هذا النظام لدى من يتحالفون معه؟ وعلى رأس هولاء في الوقت الراهن النظام المصري. لقد أعلنت مصر أنها خسرت 7 مليارات دولار بسبب اعتداءات الحوثيين على السفن في البحر الأحمر، الأمر الذي خفض حركة النقل عبر قناة السويس. وقد أصبح ميناء بورتسودان في فترة ما مزارًا للسفن الإيرانية، وهو أمرٌ يهدِّد أمن كلٍّ من مصر والسعودية. وتعلم مصر أن نظام الحركة الإسلامية السودانية، سواءً في فترة الرئيس المخلوع عمر البشير، أو الفريق عبد الفتاح البرهان الذي فرض نفسه على السوانيين بالقوة، لا ينفك يدور في الفلك الإيراني.

رغم كل ما سبق ذكره، راهنت مصر على الفريق عبد الفتاح البرهان، فقط لأنها وجدت فيه من الخضوع والانبطاح ما لم تجده في حاكمٍ عسكريٍّ سودانيٍّ قبله، متجاهلةً كل مخاطر الاعتماد على شخصٍ طبيعته الأصلية المكر والغدر وتقلُّب المواقف وتناقضاتها. فالرجل قد عاش لعقودٍ ضمن بنية نظامٍ طبعه التقلُّب والمكر والغدر فانطبع بطابعه، وليس له من ذلك فكاكٌ قط. وينطبق هذا على السعوديين الذين لا ينفكون يتعرضون للدغات النظام الإخواني في السودان، كل حينٍ وآخر. ومن الغريب أن قناة "العربية الحدث" التي تمولها السعودية يسيطر على مكتبها في الخرطوم المنتمون إلى حزب الرئيس المخلوع عمر البشير، المؤتمر الوطني، والتي ما انفكت توظف تقاريرها غير المهنية المرسلة إلى القناة لخدمة أجندة النظام الإخواني في السودان، ثم لا تجد استغرابًا أو مساءلةً من رئاسة القناة. بل، يبدو أنها تجد منها المباركة والتشجيع. باختصارٍ شديد، هذا النظام الذي ترأسه الرئيس المخلوع عمر البشير لثلاثين عامًا وورثه منه الفريق عبد الفتاح البرهان نظامٌ ذئبيٌّ ثعبانيٌّ لا تتغير طبيعته أبدًا، ولسوف يقوم بلدغ حليفه، طال الزمن أم قصر. ولسوف يلدغ الفريق البرهان كلَّا من مصر والسعودية، إن هما سارتا معه بنفس الصورة الجارية معه اليوم. باختصارٍ شديدٍ، من تلوث بدنس الإخوان المسلمين، لن يستطيع تطهير نفسه حتى تواريه ظلمة القبر.

تقسيم السودان في صالح مصر

منذ أن قبلت حكومة الرئيس المخلوع عمر البشير بانفصال الجنوب، بعد خمسة عشر سنة من الحرب مع حركة العقيد جون قرنق، طرح القيادي الإسلاموي، ووزير المالية السابق عبد الرحيم حمدي في عام 2005، فكرة تقسيم السودان. وهي الخطة التي أخذ السودانيون يشيرون إليها بـ "مثلث حمدي". أحسَّت ما تسمى "الحركة الإسلامية" أن عددًا من أقاليم السودان تقف بطبيعتها الثقافية عاملاً معيقًا لإنشاء "دولة إسلامية" تهيمن فيها الثقافة العربية وحدها. فالتنوع العرقي والديني والثقافي هو في نظرهم ما يجعل البلاد غير مستقرة بصورةٍ تمكنهم من أقامة النموذج "الإسلامي" الذي يودونه. لذلك، جاءت فكرة "مثلث حمدي" التي اقترح فيها الوزير الأسبق عبد الرحيم حمدي، فصل عددٍ من أجزاء السودان، تشمل جنوب كردفان، وجنوب النيل الأزرق، ودارفور. وذلك لكي تقوم دولةٌ "إسلاميةٌ" في المثلث الجغرافي المنحصر بين دُنقلا وسِنَّار والأُبَيِّض. وقد برر حمدي الفكرة بعدم الانسجام الثقافي لتلك الأقاليم مع المثلث الذي يرى أنه متجانس ثقافيا. ويرى حمدي، أيضا، أن هذه الأقاليم التي ينبغي التخلص منها تعيق الاستثمار ويصعب مع وجودها حدوث أي تنميةٍ مستدامةٍ، لكونها تتسبب في دوام القلاقل وعدم الاستقرار. وقد نفى حمدي في لقاء صحفي هذه المزاعم، لكن ما جرى في الواقع منذ انفصال الجنوب، وما يجري الآن لا يزال يؤكد هذا المنحى.

فصل الجنوب وغيره من الأقاليم

بعد اتفاقية نيفاشا في عام 2005 ودخول الحركة الشعبية بقيادة جون قرنق شريكًا في الحكم لفترة السنوات الخمس السابقة لاستفتاء تقرير المصير الذي نصت عليه الاتفاقية، عمل نظام عمر البشير بكل سبيلٍ ممكنٍ ليجعل خيار الوحدة بالنسبة للجنوبيين في الاستفتاء القادم خيارًا غير جاذب. وبالفعل، جرى الاستفتاء في نهاية فترة شراكة الحكم بين الطرفين، واختار الجنوبيون بنسبة بلغت 99%، الانفصال عن جمهورية السودان. وقد قام خال الرئيس عمر البشير، المرحوم الطيب مصطفى، مالك صحيفة "الصيحة"، ذات الخط التحريري المتطرف، بذبح ثورٍ أسود احتفاءً بانفصال الجنوب. وأيضًا، ما أن اختار الجنوبيون الانفصال، قال الرئيس المخلوع عمر البشير: إن حقبة تطبيق الشريعة الإسلامية "المدغمسة"، أي الملتبسة وغير الواضحة والصريحة، قد ولَّت وحانت الفرصة لحكومته لتطبيق الشريعة الإسلامية الصريحة. كل ذلك يؤكد أن ما تسمى الحركة الإسلامية السودانية لا تمانع قط من تقليص مساحة السودان لإقامة ما يعتقدون خطأ أنه كيانٌ متجانسٌ ثقافيًا يمكن أن يقوم فيه نموذج مستقر للدولة "الإسلامية" النموذجية، المتوهمة، التي طالما حلمت بها قوى الإسلام السياسي في العالمين العربي والإسلامي.

هذا التصور الإخواني المتمثل في تقليص السودان يصب في النظام المصري لكونه يمكنه من الهيمنة على الجزء الشمالي من السودان، الذي سوف يصبح من جراء الانقسامات، أضعف من أن يحمي نفسه. ولن يجد سندًا إلا من مصر التي ستتقايضه الحماية بالخضوع الكامل لها. وقد أوضحت الفترة التي سيطر فيها الفريق البرهان على مقاليد الأمور في السودان منذ انقلابه على حكومة حمدوك الشرعية في 25 أكتوبر 2021، هذا المنحى. أيضًا، أخذ هذا التصور صيغةً جديدةً، أبدلت المرتكز من الإسلام إلى العنصر. وهي النعرة الجديدة المسماة "دولة النهر والبحر"، التي يدعو لها عبد الرحمن عمسيب. والغريب أن قوى الثورة التي لم توافق على ميثاق نيروبي التأسيسي وعلى تشكيل حكومة في المناطق التي يسيطر عليها الدعم السريع، أخذت تقول إن ميثاق نيروبي التأسيسي وما يتبعه من إعلان حكومة سيقود إلى تقسيم السودان. وفات على هؤلاء أن خطة تقسيم السودان معتمدةٌ أصلاً لدى الحركة الإسلامية منذ عقود، وأن تنفيذها يجري على مراحل وفقًا لمسارات الأمور على أرض الواقع. وعقب هذه الحرب التي يتعذر فيها الحسم العسكري، فإن خيار الانفصالات لدى الإسلامويين سوف يصبح، من الناحية العملية، هو الخيار المُحبَّذ والمُرجَّح لديهم. ولسوف يسقط شمال السودان، من تلقاء نفسه كالثمرة الناضجة، في الفك المصري الفاغر، المتلهف لالتهامه منذ فجر التاريخ.

(يتواصل)

elnourh@gmail.com  

مقالات مشابهة

  • هشام يكن يطالب بإصلاحات عاجلة: الكرة المصرية بحاجة إلى لجان متخصصة
  • باحث سياسي: الجيش اللبناني بحاجة إلى دعم دولي
  • “عافية”.. خطوة من القنصلية السودانية في أسوان لتخفيف معاناة المهجرين
  • كيكل: نحن جزء لا يتجزأ من القوات المسلحة السودانية، وعلى أهبة الاستعداد لترتيبات الدمج والتسريح
  • على طريق الانعتاق من الهيمنة المصرية (14 – 20)
  • رئيس شؤون الضباط في وزارة الدفاع العميد محمد منصور: الجيش العربي السوري كان وسيبقى عماد السيادة الوطنية، واستعادة الكفاءات والخبرات العسكرية التي انشقت وانحازت للشعب في مواجهة نظام الأسد البائد والتي خاضت معارك الدفاع عن الوطن أمرٌ ضروري لتعزيز قدرات جيشن
  • على طريق الانعتاق من الهيمنة المصرية (13 – 20)
  • ستارمر يطالب قادة العالم بضرورة الاستعداد للدفاع عن أي اتفاق سلام في أوكرانيا
  • كيكل: الوحدة التي حدثت بسبب هذه الحرب لن تندثر – فيديو
  • على طريق الانعتاق من الهيمنة المصرية (12 – 20)