abdullahaliabdullah1424@gmail.com
عبدالله مكاوي
بسم الله الرحمن الرحيم
اثبتت هذه الحرب الوحشية التي فاقت كل تصور، خاصة من جانب مليشيا الجنجويد الهمجية، مدي جهلنا بهشاشة بلادنا ومجتمعاتنا المحلية، وحقيقة الدول الاقليمية والمجتمع الدولي. وكذلك تناقضاتنا وعجزنا وبوارنا وهواننا علي الناس. وكيف ظلمنا انفسنا كثيرا عندما استسلمنا لوهم ان هنالك امكانية لتعايش شعوب علي هذه الدرجة من الاختلاف والتنافر، وترسب نزعات الاستعلاء والاحقاد كمورد للسلطة والتمرد عليها؟ وكيف ان بلاد بهذا الاتساع والتنوع (اقرب للقارة/شدة التباين، من الدولة/قوة الانسجام) تحتاج لامكانات مادية وادارية وقدرات بشرية ومنظومة حكم ديمقراطية، لم تتوفر يوما وليست في وارد التوافر مستقبلا، بعد ان اصبحت الدولة برمتها في مهب الريح؟ وهذا ناهيك عن ثرواتها ومواردها المهولة التي تجلب الاطماع والتدخلات الخارجية، الشئ الذي يجعل من استقرار هكذا بلاد/قارة في حكم الامنيات الطفولية.
فهذه الحرب اثبت كذلك ضعف الانتماء لكيان/دولة لم يتجسد إلا في الخيال، رغم اصرار الاحتلالان التركي والانجليزي علي اضفاء نوع من التنظيم الاداري عليها، وبما يتفق مع مصالحهما. لياتي من بعدهما الاحتلال العسكري لينتهج ذات نهجهما، ولكن بطريقة اكثر عنف وتخلف وفساد. وبالطبع لا يعني ذلك الاتفاق مع سردية دولة 56 الي تتخذها المليشيا وداعميها كمتكأ، لاعادة اسوأ انواع الاحتلال (الاستنزاف السافر) عبر آليات التسلط والارهاب والنهب والسلب، او الفوضي كقانون حاكم للمجتمع.
وصحيح ان ما تركه الانجليز بخبراتهم الادارية من مقومات بناء دولة حديثة، شكل خميرة قابلة للتطور، لولا ضعف نخبة الاستقلال وسقوطها في فخ صراع السلطة، عوض عن اكمال مشروع بناء الدولة والنهوض بالمجتمع. ومع دخول العسكر علي خط صراع السلطة، تم الانحراف والتشوه الكامل للحياة، بعد تكريس حكم الاستبداد بثقافته الهادمة لكرامة البشر، والقامعة للتطور السياسي والتقارب الاجتماعي والعدالة الاقتصادية. وبتعبير آخر بدل ان تتحول السلطة الي آلية تنفيذ برامج اختيارية، ووسيلة مشاركة لكافة المواطنين وشراكة في الثروات وتقاسم الخيرات، تحولت الي اداة امتيازات لها سحرها وجاذبيتها، للجيش والمكونات السياسية والاجتماعية والمهنية والمناطقية، التي تؤمن بالتفاوت والتراتبية لانغامسها في الثقافة التقليدية مع تمسكها بقشور التحديث.
والحال كذلك، سوء ادارة السلطة، انتج اسوأ انواع السلطات واردأ المتسلطين، ليُحكم علي الشعب السوداني بحكومات منشغلة بتدبير بقاءها والحفاظ علي مكاسبها. وبطبيعة الحال تديرها شلليات بقيادة رب الجهل والتهور وبلادة الحس الاجتماعي والغباء السياسي من كبار قادة الجيش. والمحصلة تدهور مطرد في كافة مناحي الحياة وسبل كسب العيش. وبدخول عامل الحروبات الاهلية زاد الطين بلة، مع ازدياد وتيرة التراجع باهدار الموارد في التلسيح وطغيان نفوذ العسكر، وبالطبع زيادة الشقة بين المكونات الاجتماعية وما يستتبعه من ضعف اواصر الرابطة الوطنية.
وكما ظللنا نكرر باستمرار، ان ظهور الاسلامويين في المشهد السياسي وتسلقهم سدة السلطة عبر انقلاب غادر، شكل علامة فارقة في تاريخ البلاد. لتنقلها من دولة ضعيفة قابلة للتطور، لفوضي شاملة تتغلغل في مفاصل الدولة، والتي قادت بدورها الي ما نشهده الآن من حرب قذرة تستهدف بقاء الدولة، بعد استباحة حياة المواطنين بطريقة انتقامية. وكيف ان النصب والاحتيال والاستهتار بالمسؤولية والطغيان بالسلطة والحرص علي حمايتها بكافة الاساليب، وبما فيها اكثرها قذارة مثل الاستعانة بمليشيا اجرامية، بنيتها ارتزاقية، وديدنها النهب والانتهاكات، يمكن ان يقود ليس لفقدانهم السلطة ولكن البلاد برمتها، وبما فيها ما راكموه من ثروات وامتيازات بطرق غير مشروعة (ولا يحيك المكر السيئ إلا باهله)؟!
وكذلك اثبتت هذه الحرب، الي اي درجة من الشر والسفالة والتفاهة يمكن ان ينحط البشر، عندما يتجردوا من الانسانية والمروءة والرحمة، ويحتكموا علي اسلحة فتاكة يستخدمونها بكل صفاقة ضد ابرياء عُزل! وعندما يشردون اسر كاملة من ديارها من غير ذنب اقترفوه! وعندما يسطون علي بيوت وممتلكات خاصة انفق اصحابها عمرهم في كسبها! وعندما تتساقط علي رؤوسهم البراميل المتفجرة والقذائف الصاروخية والدانات! وعندما يستهدفون المستشفيات ومحطات المياه والكهرباء ومصافي النفط والجسور، وينهبون مخازن الغلال والاغاثات وذلك عندما لا يمنعون مرورها! وغيرها وغيرها مما لا يمكن تخيله ان يحدث حتي للاعداء، ناهيك ان يحدث ممن يدعون الانتماء لهذه البلاد واهلها، وباسلحة كانت سلفا خصما علي تنميتهم وعافيتهم وسلمهم المجتمعي. وكل ذلك من اجل طموحات جنرالات غادرين وفاشلين وجبناء، ومشروع خارجي لا يستنكف تنزيله علي الارض حرق البلاد وابادة شعبها، عبر الاستعانة بمليشا ارتزاقية، تستعين بدورها بحثالة البشر، من القلتة والمجرمين واللصوص، من داخل السودان والدول المجاورة.
وكيف ان الضعفاء والابرياء والمدنيين ليس في وسعهم الحصول علي الامان والتنمية والكرامة، إلا في ظل انظمة ديمقراطية ودولة مؤسسات وحزمة حقوق محصنة بالدستور ومبادئ عامة تعلو ولا يُعلي عليها. وهو ما يبدو انها جميعا ممتنعة، في ظل التواجد في غابة مسلحين من كل شكل ولون (مليشيات اجرامية، حركات مسلحة، كتائب اسلاميين ومجاهدين ومتطرفين، وانتشار السلاح من غير ضابط بين افراد القبائل)؟! ويبدو ان مرد ذلك تجذر ثقافة عسكرة (سيادة) طاغية، ومتغلغلة في تلافيف وعي ومفاصل الجيش وجهاز الامن والشرطة (مجرد الانتماء يجيز لصاحبه التحول لسيد مطاع، تُجيَّر له كل موارد البلاد، وبما فيها طاعة المواطنين لسيادته والخضوع لمشيئته). وفي هذا السياق يبدو ان العنف المهول والوحشي والاستعراضي الذي تمارسه مليشيا الجنجويد ضد المدنين، والذي يجد مباركة ممن يسمي مستشارون، ورعاية من الاماراتيين (واجهة الاسرائليين) وصمت من المجتمع الدولي واحيانا ادانات خجولة لزوم حفظ ماء الوجه، كما ظلت تُعامل جرائم اسرائيل! وبالطبع الانتماء لهذه الجوقة ممن يخاصم الاسلاميين، ولكن بطريقة مرواغة وساذجة من جهة، ومن جهة بتناقض وتنكر لما ظلوا يتظاهرون به من التزام شعارات الحرية والمبادئ الحقوقية، وكسبوا من وراءها الكثير من الاحترام غير المستحق! وذلك ببساطة لان المقصود من هذا العنف المفرط والانتهاكات الفظيعة ضد الابرياء، سواء في السودان او غزة، هو اغلاق باب الحقوق والسياسة نهائيا (إلا كمظاهر شكلية)، والوصول بمن تبقي من المواطنين المرعوبين لمرحلة قبول كل شئ، لمجرد البقاء علي قيد الحياة! ومن يشكك في ذلك عليه مراجعة ما يحدث في الفاشر ومقارنته بما يحدث في غزة، من استهداف للمساجد والاسواق والمستشفيات المكتظة بالمدنيين و(ليس العسكريين) من قبل الجنجويد، دون خشية عقاب او مجرد ادانة جادة.
وصحيح ان خيار ايقاف الحرب هو الخيار الاصح، ليس لانه يوقف جنون هذه الحرب القذرة وسيل الدماء ودمار البنية التحتية وتهديد بقاء الدولة نفسها، ولكن لانه المقدمة المنطقية التي تسبق حل المشكلات التي يتقاتلون عليها، والارضية التي تتاسس عليها التسويات الاقل كلفة، وبما فيها اطماع المتقاتلين! ولذلك مصدر قذارة هذه الحرب ان استمرارها جزء من غايتها لحاجة في نفس يعقوب! وعليه، ليس هنالك اسوأ واكثر تضليل من عقد المقارنات سواء بين الاسلامويين والجنجويد او الجيش والدعم السريع. ولكن ذلك لا يمنع الاقرار بحقائق علي الارض لا تخفيها إلا الطموحات غير المشروعة وشهوة الانتقام، وهي ان الجنجويد يمارسون الانتهاكات بطريقة بقدر ما هي ممنهجة بقدر ما هي همجية. وان المواطنين رغم فقدان ثقتهم في الجيش بسبب اداءه المخزي وانسحابته التي تجعلهم مكشوفين امام استباحة المليشيات، إلا انه ليس لهم سوي هذا الجيش ليفصل بينهم و بين انتهاكات الجنجويد. بدلالة الهروب لمحل سيطرة الجيش كلما اقترب الجنجويد من مكان او سيطرتهم عليه! بل المفارقة حتي ما يسمي مستشارون ومناصرون للجنجويد، اذا ما خيروهم بين اماكن سيطرة الجيش وسيطرة الجنجويد للاقامة، لاختاروا مكان سيطرة الجيش، خوفا من الفوضي والانتهاكات التي تحل حيث ما حل هؤلاء الاوباش! ولكن ذلك لا يمنع ايضا ان من يناصرون الجيش ويبغضون تقدم، يزايدون بامكانية القضاء علي الجنجويد، ويتوهمون اقتراب حسم المعركة، او ان هنالك انتصارات للجيش تبرر استمرار هذه المحرقة، إلا اذا كانت من شاكلة الانتصارات غير المرئية التي يتبجح بها البرهان، ويقلل بها من اهمية سقوط المدن والانسحاب من الحاميات! وهي بدورها تضاف للاشتراطات التعجيزية التي يطرحها قادة الجيش من غير قدرة علي فرضها عسكريا! مما يؤكد عدم المسؤولية التي يتحلي بها هؤلاء القادة الفاشلون، والذين للاسف وسوء المآل، اصبح مصير البلاد والعباد بين ايديهم. والاسوأ من ذلك الثمن الفادح الذي يدفعه المواطنون والبلاد، من جراء هذا البرود وتلك البلادة التي يتصرف بها هؤلاء القادة الانذال. لكل ذلك كشفت هذه الحرب الكارثية كم طفولة النخب السياسية وانصارها، وهم يقعون في مستنقع حسم الخلافات السياسية، من دون مراعاة حقيقية وجادة لما يكابده الابرياء من معاناة هذه الحرب اللعينة.
وعموما يبدو ان الخروج من هذه المحنة المكلفة امر بالغ التعقيد، خصوصا اذا ما ظللنا نتعامل بذات الطريقة والاساليب القديمة المبنية علي تصديق شعارت صالحة لكل زمان ومكان، رغم انها غير مضمونة وباهظة التكلفة (الثورة المستمرة كعلاج جذري) وترديد اكليشهات (الهامش والمركز ودولة 56) وغيرها من اطروحات مستهلكة (التغيير الديمقراطية الدولة المدنية العدالة الاجتماعية...الخ)! وهي غير انها لم تؤصل معرفيا بما فيه الكفاية، وتاليا معرفة مدي ملاءمتها للواقع، او حجم الجرعات المطلوبة في كل مرحلة من المراحل، إلا اننا نجدها تقدم كوصفات سحرية لعلاج كافة المشاكل ضربة لازب! او ان هنالك امكانية لتطبيقها فوريا، وكانه ليس امامها عقبات دونها خرط القتاد! او ليس هنالك امكانية لمقاربتها بوسائل مختلفة واقل كلفة! وغالبا يرجع ذلك لعدم تقييم قدرة الخصوم (منظومة الاستبداد من عسكر وعقائدين)، والي اي مدي يمكن ان يذهبوا في الدفاع عن مصالحهم! ولزيادة منسوب نزعة الاستحواذ والسيطرة علي كل شئ، بدل الخضوع لخيار التسويات الجادة والتنازلات المتبادلة، وتحجيم امتيازات السلطة وبالاحري سلطة الامتيازات سواء في السلطة او الوظيفة او المكانة الاجتماعية في كل ضروب الانشطة المجتمعية. وكذلك الاستعجال لجني المكاسب الآنية علي حساب العمل للاجيال المستقبلية. ولتوهمهم ان المجتمع عجينة طيعة بمقدورهم تشكيلها كما يرغبون، وليس مجموعة تناقضات ومصالح متضاربة تتفلت باستمرار علي كافة المعالجات، مما يتطلب المواكبة للمستجدات.
وفي هذا الاطار ليس هنالك اكثر تفاهة من سؤال من بدأ الحرب؟ في ظل ثبات كل المؤشرات علي جود مشروع لمليشيا الدعم السريع سابق علي الثورة، ومستند عليها لتسريع خطوات عمله! وهذا المشروع لا يجد مساندة اقليمية ودولية فحسب، ولكن يبدو انه يجد دعم من قيادات الجيش، وهذا سبب غموض هذه الحرب واداء الجيش المرتبك المتهالك! ولكن ما هو الشئ المؤلم في هذا الاحتمال اذا ما صدق؟ هو اننا فقدنا دولتنا بشكلها السابق بعد تفريط الكيزان بسبب عنظزتهم وطمعهم! وهذا بدوره يبدو انه يحتاج لانقلاب في طريقة التفكير وترتيب الاولويات، وعلي راسها ان ايقاف الحرب هو اولوية عاجلة، اما الثمن فهو نزع ملكيتنا علي بلادنا ومواردها. اي هذا العالم بعد ازاحة كثير من اقنعته الناعمة، هو ملك للاقوياء ورهن مخططاتهم الشريرة. وعليه، مشروع النضال السلمي ما زال طويلا لتحسين شروط الحياة للغالبية الضعفاء. وليس هنالك اخطر علي هكذا مشروع من الركون للحلول الناجزة، وتبدل احوال ومراكز الاقوياء، مع بقاء ذات الثقافة وما يستتبعها من سلوكيات.
واخيرا
لون بشرتنا السوداء كالقدر وغالبيتنا المسلمين ومواردنا الهاملة، هو ما يجعل عذاباتنا ليس لها وجيع ودمائنا ليس لها ثمن. تبا لك من مجتمع دولي يتكسب من مأساتنا. ودمتم في رعاية الله.
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: هذه الحرب لیس هنالک یبدو ان
إقرأ أيضاً:
حين يصبح الماضي سلاحًا: تفكيك التراث بين السلطة والذاكرة
ليس التراث مجرد بقايا محفوظة في الكتب والمتاحف، ولا هو الامتداد الرمزي الذي يربط الأجيال ببعضها البعض، بل هو بناء ثقافي متحوّل، يتم تشكيله وإعادة تشكيله وفقًا لحاجات السلطة وأطر المعرفة السائدة.
في كل مرة ننظر فيها إلى التراث، فإننا لا ننظر إلى “الماضي” كما كان، بل إلى صورة تمت إعادة إنتاجها وترتيبها وفقًا لرغبات الحاضر.
بهذا المعنى، لا ينبغي أن نراه ككيان متجانس يحمل حقائق ثابتة، بل كنسيج متشابك من الصراعات والتلاعبات والانتقائية التي جعلته يبدو كما هو اليوم.
لكن، إذا كان التراث يتغير باستمرار، فكيف نعيد قراءته دون أن نقع في فخ التقديس الأعمى أو الرفض المطلق؟ وما الذي يجب أن نبقيه منه، وما الذي ينبغي تفكيكه وتجاوزه؟ وهل يمكن فصل التراث عن السلطة، أم أنه لا يوجد إلا داخل علاقات القوة التي تحدد وجوده ومضمونه؟
إن ما وصلنا من التراث ليس إلا ما سمحت به البُنى السلطوية عبر التاريخ. فقد خضعت الذاكرة الجمعية، كما يؤكد ميشيل فوكو، لعمليات انتقاء وتصفية، حيث تم إقصاء بعض الأصوات وإبراز أخرى بما يخدم هيمنة معينة. وعليه، فإن الاحتفاء بالتراث ليس مشروعًا بريئًا، بل هو في جوهره اختيار محكوم بتصورات سياسية واجتماعية.
كارل ماركس، في تحليله للتاريخ، يشير إلى أن “أفكار الطبقة الحاكمة في كل عصر هي الأفكار الحاكمة”، مما يعني أن التراث، كما نعرفه اليوم، ليس مجرد سجلٍّ محايد، بل هو منتج ثقافي صُمِّم للحفاظ على استمرار البنية السلطوية وإعادة إنتاجها.
لكن، هل يمكن فهم التراث خارج هذا الفهم الكلاسيكي للسلطة؟ فوكو يرى أن السلطة ليست كيانًا جامدًا، بل شبكة متداخلة من العلاقات، تتغلغل في كل مستويات الخطاب والمعرفة. وعليه، فإن “التراث” ليس مجرد مجموعة من الأفكار التي فرضتها سلطة عليا، بل هو ميدانٌ للصراع والتفاوض، حيث تتقاطع قوى متباينة، كلٌّ منها يسعى لإعادة إنتاجه بطريقة تخدم أهدافه.
لذا، لا يمكن التعامل مع التراث بوصفه “نصًا نهائيًا”، بل كحقل نصي مفتوح، يخضع لعمليات تأويل لا نهائية، حيث يتم استعادته وإعادة تشكيله وفق متطلبات كل لحظة تاريخية جديدة. لكن المشكلة أن معظم المجتمعات تتعامل مع تراثها بواحدة من مقاربتين متطرفتين: إما الجمود والتقديس، أو القطيعة والرفض.
فمن ناحية، نجد نزعة تقديسية تتعامل مع التراث بوصفه جوهرًا نقيًا يجب الحفاظ عليه كما هو، مما ينتج مجتمعًا متخشبًا، تتحول فيه القيم والممارسات القديمة إلى أدوات تقييد أكثر من كونها فضاءً للإبداع والتطور. ومن ناحية أخرى، نجد نزعة مفرطة في الحداثوية ترفض التراث جملةً وتفصيلًا بوصفه امتدادًا للتخلف، متناسية أن الهويات والثقافات لا يمكن أن تنشأ في الفراغ، وأن الهدم المطلق لا يؤدي بالضرورة إلى بناء جديد، بل قد يكون مجرد إعادة إنتاج لهيمنة أخرى في ثوب جديد.
لكن، هل يمكن تفكيك هذه الثنائية نفسها؟ جاك دريدا، في تحليله لفكرة “الأصل”، يشير إلى أن البحث عن “جوهر نقي” لأي شيء هو محض وهم، لأن كل ما نعتبره “أصيلًا” هو في الواقع نتيجة عمليات تكرار وتحريف مستمرة. بهذا المعنى، فإن التراث ليس “شيئًا” يمكن أن يكون أصيلًا أو مزيفًا، بل هو لعبة لا نهائية من الإحالات والتأويلات.
والتر بنيامين، من جانبه، يذهب أبعد من ذلك حين يقول: “حتى الموتى لن يكونوا في أمان إذا انتصر العدو”، مشيرًا إلى أن الماضي ذاته ليس محصنًا من التشويه، بل هو ساحة معركة مستمرة، يُعاد تشكيلها وفقًا لمصالح القوى المنتصرة.
إذا كان التراث جزءًا من الهيمنة الثقافية، كما يرى أنطونيو غرامشي، فإن إعادة قراءته لا تعني فقط استعادة “القيم الأصيلة”، بل تعني الكشف عن آليات السلطة التي جعلت بعض الأفكار تُعتبر “تراثًا”، بينما تم دفن أفكار أخرى في النسيان. فالتراث ليس قائمة جاهزة من القيم التي يجب الحفاظ عليها أو رفضها، بل هو بنية ديناميكية يجب أن تخضع للتفكيك المستمر، لا بهدف رفضها أو القبول بها، بل بهدف الكشف عن المنطق الذي يحكم تشكيلها وإعادة إنتاجها.
لهذا، لا يكون الاحتفاء بالتراث طقسًا استهلاكيًا أو إعادة إنتاج للمقولات السائدة، بل يجب أن يكون فعلًا ديناميكيًا يتحدى القوالب الجاهزة، ويفتح المجال لقراءات متعددة لا تهاب المواجهة مع الماضي، ولا تُسقط عليه رغبات الحاضر.
في عصر “المحاكاة”، كما يصفه جان بودريار، لم يعد التراث حتى مجرد “بقايا الماضي”، بل هو صورة تمت إعادة إنتاجها في الحاضر، وأُعيد تقديمها كشيء حقيقي، رغم أنها ليست سوى محاكاة لصورة متخيلة عنه. من هنا، يصبح السؤال ليس فقط: “ما هو التراث؟”، بل: “من الذي يصنع التراث اليوم؟ وما الأغراض التي يخدمها؟”.
إن التعامل مع التراث لا يمكن أن يكون عملية محايدة، بل هو اختيار أيديولوجي بامتياز. ما يستحق الاحتفاء ليس مجرد الطقوس والمرويات التي تراكمت عبر الزمن، بل القيم التي تحمل بُعدًا تحرريًا، والتي يمكن أن تشكّل أساسًا لنقد الحاضر وبناء مستقبل أكثر عدالة.
لكن حتى هذا الاختيار يجب أن يُفهم على أنه عملية غير نهائية، إذ لا توجد قراءة “أخيرة” للتراث، بل فقط محاولات مستمرة لإعادة تأويله وفق المعطيات التاريخية والمعرفية المتغيرة.
لهذا، لا يجب أن يكون الاحتفاء بالتراث مجرد استعادةٍ للقديم، بل يجب أن يكون مشروعًا مستمرًا لإعادة إنتاجه بطرق جديدة، تكشف تناقضاته، وتعيد توظيفه خارج الإطار الذي حُبس فيه.
فالتراث ليس صنمًا يُعبد، ولا هو وثيقة جامدة يجب حفظها، بل هو فضاء للعب والتفكير، يمكننا أن نعيد تشكيله بطرق تتجاوز السلطة، لا أن نرسخها من خلاله.
إن إعادة النظر في التراث ليست مجرد ممارسة أكاديمية أو ترف فكري، بل هي ضرورة ملحة في مجتمعات تعاني من اختلال علاقتها بالماضي. فإما أن يكون التراث أداة للتنوير والتحرر، أو يصبح قيدًا يكرس الاستبداد ويعيد إنتاج علاقات القوة نفسها التي صاغته منذ البداية.
في النهاية، إن قراءة التراث من جديد ليست فعلًا فرديًا منعزلًا، بل هي جزء من صراع أكبر حول الحقيقة، والمعرفة، والسلطة. وما نختاره من التراث، وما نقصيه منه، يحدد ليس فقط كيف نفهم الماضي، بل كيف نبني المستقبل أيضًا.
zoolsaay@yahoo.com