الأبحاث ما بعد الكولونيالية وتأثيراتها على المجتمعات المستعمرة.. كتاب جديد (2من2)
تاريخ النشر: 8th, July 2024 GMT
الكتاب: "إفريقيا أفقًا للفكر في مساءلة الكونية وما بعد الكونية"
الكاتب: سليمان بشير دياني وجان لو أمسيل
ترجمة: فريد الزاهي
الناشر: دار معنى للنشر و التوزيع، الطبعة الأولى 2021
(عدد الصفحات 222من القطع الكبير).
ظهور براديغم ما بعد الكولونيالية
يملكُ مفهوم براديغم مَا بَعْدَ الْكُولُونْيَالِيَةِ دلالتين اثنتين؛ إِنَّهُ ظاَهِرَةٌ برزتْ بعد الاستعمار،وهو ظاهرةٌ تعارضُ الاستعمار وتبعاتهِ في العالم المعاصر في الجنوبِ كما في الشمالِ.
عقب نهاية الحرب العالمية الثانية في عام 1945، برزت على المسرح العالمي القوتان الكبريان المنتصرتان في الحرب أي الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، وعرفتْ التعارض التام في مسألة الهيمنة، بحيث أنَّهما،على الرغم من اختلاف أيديولوجيتيهما السياسية (الرأسمالية الليبرالية للأولى، والاشتراكية للثانية)، كانتا تشتركان في معارضة الاستعمارالأوروبي بأشكاله القديمة كما كانت أوروبا قَدْ أَرْسَتْهُ منذ بداية القرن السادس عشر. إِنَّهَا الفترةَ التي أخذتْ فيها الولايات المتحدة، بالأخصِّ، مكانَ أوروبَا في الهيمنةِ على بقيةِ المعمورةِ.
لقد تأسَّسَ النظام الرأسمالي العالمي منذ ما يقاربُ خمسة قرونٍ،وفي كل حقبةٍ تاريخيةٍ معينةٍ كانت تَقُودُهُ إمبراطوريةٌ مُحدِّدَةٌ: في الأول كانت الإمبراطورية الآيبيرية بعد عام 1494، والإمبراطورية الهولندية في القرن السابع عشر. وفيما بعد تمّ تشكيل النظام العالمي البريطاني لاحقاً نتيجة مؤتمر فيينا عام 1815، والذي كان من شأنه إعادة تقسيم أوروبا بعد هزيمة نابليون، وبعد مؤتمر برلين عام 1885، الذي قسّم القارة الأفريقية بين القوى الأوروبية على أساسِ تفوّقها العنصري المفترض لكونها محتضرة مقارنة بالأجناس الإفريقية المتخلفة بالفطرة، وتأكيد تجارة الرقيق ومبدأ الحرِّية في الداخل والعبودية في الخارج.
يُمْكِنُنَا أنْ نعتبرَ أنَّ التاريخَ الحقَّ لما بَعْدَ الْكُولُونْيَالِيَةِ يبدأُ مع مؤتمر باندونغ، أو"المؤتمر الآسيوي الأفريقي"، وجمع تسعة وعشرين بلدًا أفريقيًا وآسيويًا، وهو أول اجتماع لدول العالم الثالث، التي كانت قد استقلتْ حديثًا في منتصف القرن العشرين، عُقد في الفترة من 18 إلى 24 أبريل/نيسان عام 1955 في باندونغ بإندونيسيا.ومع انهيار العصر الإمبراطوري البريطاني بعد حربين عالميتين، بدأت الولايات المتحدة الأمريكية منذ عام 1945،تشكّل النظام العالمي الرأسمالي الليبرالي الأمريكي، من خلال مؤتمرينِ رئيسيينِ، عُقد الأول في برايتُن وودز في مقاطعة نوه امشِر البريطانية عام 1944، حين أنشأتْ 44 دولة حليفة تمويلاً دولياً للنظام الذي يجسّده البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي. وبعد عام اعتمدت 50 دولة ميثاق الأمم المتحدة في مؤتمر مدينة سان فرانسِسكو.
كان على الحلّ الرسمي لتناقضات "حرية الداخل وعبودية الخارج" أن ينتظر حتى عام 1945، عندما قادت واشنطن دول العالم لصياغة مشروع ميثاق الأمم المتحدة ووعدت الشعوب بحرِّية تكوين دولها وفي الموافقة على إعلان آخر بعد ثلاثِ سنواتٍ، حين أكّدت حقوق الإنسان العالمية، وبوضوح فإنّ قيامَ النظامِ الدوليِّ الحاليِّ المكوّن من 193 دولة ذات سيادة وعلى قدمِ المساواةِ في الأمم المتحدة يمثّل تقدّماً هائلاً بعد العصور الإمبراطورية حين حكمت العشرات منها ثلث البشرية. ومع ذلك وفي سعيها وراء القوة العالمية، سرعان ما بدأتْ واشنطن في تحدّي الاتفاقيات الأممية التي حدّدتْ نظامها العالمي الخاصّ، مخالفة السيادة الوطنية من خلال التدخّلات السِرِّيَةِ لوكالة المخابرات المركزية والحروبِ الوحشيةِ في جميع أنحاء العالم وانتهاكِ حقوقِ الإنسانِ وممارسةِ التعذيبِ.
يُمْكِنُنَا أنْ نعتبرَ أنَّ التاريخَ الحقَّ لما بَعْدَ الْكُولُونْيَالِيَةِ يبدأُ مع مؤتمر باندونغ، أو "المؤتمر الآسيوي الأفريقي"، وجمع تسعة وعشرين بلدًا أفريقيًا وآسيويًا، وهو أول اجتماع لدول العالم الثالث، التي كانت قد استقلتْ حديثًا في منتصف القرن العشرين، عُقد في الفترة من 18 إلى 24 أبريل/ نيسان عام 1955 في باندونغ بإندونيسيا.
فقد جمع مؤتمر باندوينغ ، والذي يُعتبرُ تاريخَ دخولِ البلدانِ المستقلةِ في كل من أفريقيا وآسيا التي تسمى بلدان العالم الثالث للساحة الدولية،وتضمنَ القرار الأخير لهذا المؤتمر الدولي إدانةً للاستعمارِ والإمبرياليةِ و الصهيونيةِ عُمُومًا، ولا سيما نظام الأبارتهايد بجنوب أفريقيا، وفرنسا التي كانت حينها إحدى القوتين الاستعماريتين العظميين بأفريقيا تنضافُ إلى ذلك إرادةِ البلدانِ المشاركةِ في أنْ تعتبر نفسها بلدانًا تلتزمُ بِعدمِ الإانْحِيَازِ لِإحْدَى الكتلتين العظميين، أي الكتلة السوفييتية والكتلة الغربية، وهي الإرادة التي كانت تعلنُ ربَّمَا أيضًا عن إرادة التخلص من الإيديولوجيات التي تهيمن في تينك المجموعتين، إضافة إلى تعزيز التعاون الاقتصادي والثقافي بين البلدان الأفريقية والآسيوية، وإنهاء الاستعمار.
خلال فِتْرَةِ الْحَرْبِ الْبَارِدَةِ كان العالم مقسمًا إلى معسكرين: شرقي بزعامة الاتحاد السوفييتي، وغربي بزعامة أمريكا، وكانتْ أغْلَبُ دولِ العالمِ مُنْحَازَةً إلى أحد المعسكرين، في هذا الوقت بدأت مجموعة من الدول على مستوى آسيا وأفريقيا، خاصة التي خرجتْ للتو من شَرْنَقةِ الاستعمارِ، التفكير في إنشاءِ تًكَّتُلٍ يجعلها خارج تصنيف "شرق غرب" ويُبْقِيهَا على مسافةِ الحيادِ من المعسكرينِ.
لذلك، تضمنتْ نتائج مؤتمر باندونغ إدانة جميع أشكال الإمبريالية والدعوة إلى التعاون الاقتصادي بين المشاركين لإنهاءِ الاعتمادِ المتزايدِ على الولايات المتحدة الأمريكية أو اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية، مع الأملِ في مزيدٍ من التعاونِ والتآزرِ بين هذه الدول لتعزيزِ أنظمةٍ اقتصاديةٍ وسياسيةٍ واجتماعيةٍ بديلةٍ لحالة الانقسام بين الرأسمالية الليبرالية الأمريكية والشيوعية السوفياتية خلال فترةِ الحربِ الباردةِ.
بعد سِتِ سنواتٍ من مؤتمر باندونغ، أُنْشِئَتْ حَرَكَةُ عدمِ الْانْحِيَازِ، التي ضمَّتْ بلدانًا أخرى خارج آسيا وأفريقيا، مثل يوغوسلافيا، وذلك حينما قادت مبادرة الرئيس اليوغوسلافي جوزيب براز تيتو إلى تنظيم المؤتمر الأول لرؤساء دول عدم الانحياز الذي عقد في سبتمبر/ أيلول عام 1961 بالعاصمة اليوغوسلافية بلغراد.
كانت المبادئُ الأساسيةُ لحركةِ عدمِ الانحيازِ هي ذاتها المبادئ التي وضعتها بلدان العالم الثالث في مؤتمر باندونغ مثل ضمان استقلال الدول المستعمرة والسيادة والسلامة الإقليمية والأمن لدول عدم الانحياز في كفاحها ضد الإمبريالية والاستعمار الجديد والعنصرية وجميع أشكال العدوان والاحتلال والسيطرة والتدخل الأجنبي.
وكان من أبرز مخرجات مؤتمر باندونغ، أنَّه جَمَعَ عددًا من القادةِ الذين انْضَمُّوا في النهاية إلى حركةِ عدمِ الانحيازِ، بما في ذلك نهرو وعبد الناصر، اللَّذَانِ كانَا إلى جانب تيتو رئيس يوغوسلافيا، من الْمُؤَيِّدِينَ المهمين لحركة "عدم الانحياز"، التي وصل عددُ الدولِ المنضمين إليها 120 دولة حتى نهاية عام 2022، وهي بذلك تُعَدُّ أكبرَ تجمعٍ للدول في جميعِ أنحاءِ العالم بعد الأممِ المتحدةِ.
عقب نهاية الحرب الباردة، انهارَ النظامُ ثُنَائِيُ القطبِ، بعد (انهيار أحد القطبين انهار الاتحاد السوفييتي في عام 1991). ما يطلق عليه اسم "النظام الدولي الجديد"، هو النظام الأمريكي القائم بالْفِعْلِ، حيث أعلنتْ الولايات المتحدة في عام 1990 أنَّها حققتْ الانتصار بقولها: "بأنَّ الحربَ الباردةَ قد انتهتْ.. لقد فُزْنَا فِيهَا". وهذا النظام الدولي ذو القطب الواحد بزعامة الولايات المتحدة، والذي يعكسُ جوهريًا أزمةَ العولمةِ الرأسماليةِ الجديدةِ، يقومُ على الثورةِ التكنولوجيةِ الهائلةِ التي تَعْتَمِدُ على المعرفةِ الْمُكَثِّفَةِ، وتُشَكِّلُ المراكزُ الرأسماليةُ الغربيةُ قاعدتَها الأساسيةِ، والتي سوف يكون لها إسقاطاتها الفكرية والاجتماعية والسياسية في تغيير الوجه المادي للعالم.
فكر ما بعد الاستعمار يهتم بتفكيك الظاهرة الاستعمارية ويسعى إلى مناهضة المركزية الغربية ودحض نظرياتها الفكرية وتصوراتها الاستعلائية في محاولة لتغيير مفاهيمها الخاطئة التي تروج لفكرة تدني الأعراق والأجناس غير الأوروبيةوارتباطاً بما سبق نستنتج أن فكر ما بعد الاستعمار يهتم بتفكيك الظاهرة الاستعمارية ويسعى إلى مناهضة المركزية الغربية ودحض نظرياتها الفكرية وتصوراتها الاستعلائية في محاولة لتغيير مفاهيمها الخاطئة التي تروج لفكرة تدني الأعراق والأجناس غير الأوروبية، وقد اختلفت افكار أهم رواده حول معالجة الظاهرة الاستعمارية، في حين اعتمد فانون على مفهوم العنف للتخلص من الاستعمار، دعا أدوارد سعيد إلى فكرة التنوع الثقافي والتعايش السلمي كمشترك إنساني.
إن اللهجة التحريضية التي اتسم بها كتاب (معذبو الأرض) عند فانون بسبب الاضطهاد النفسي الذي مارسه الاستعمار، نجد ما يوازيها عند نكروما وكابرال وأنتا ديوب ومالك بن نبي، إذ يعتبر أن الجنس الأبيض أوقع ظلما غير مبرر بالجنس الأسود، وسيظل ماثلاً في ذهن الإنسان الأسود حتى يشعر أنه قد رد اعتباره، فإن محو الاستعمار؛ كما يذهب جان بول سارتر (1905م ـ 1980م) في تقديمه لكتاب فانون يستهدف تقييم نظام العالم وقلب النظم قلباً مطلقاً؛ لذلك نجد فانون في خاتمته لكتابه (معذبو الأرض) يقول: "إذا أردنا أن نحيل إفريقيا إلى أوروبا جديدة وأن نحيل أمريكا إلى أوروبا جديدة كان علينا أن نعهد بمصائر بلادنا إلى أوروبيين.. فمن أجل أوروبا، ومن أجل أنفسنا ومن أجل الإنسانية، يجب علينا يا رفاق، أن نلبس جلداً جديداً، أن ننشيء فكراً جديداً، أن نحاول خلق إنسان جديد".. إن فانون يريد أن يقول: إن الماركسية ليست حلاً شاملاً؛ كما أن البنيان التحتي الاقتصادي في المستعمرات، هو بنيان فوقي؛ فالمرء غني لأنه أبيض وأبيض؛ لأنه غني، حاثاً العالم الثالث لأن يقف بمنأى عن الصراع بين الاشتراكية، والرأسمالية؛ فهو يرى ان هناك اعتقاداً سائداً لدى الناس عامة أن على العالم والعالم الثالث خاصة أن يختار بين النظام الرأسمالي، والنظام الاشتراكي؛ لكن هذه البلاد يجب أن ترفض الانصياع لهذا التنافس، وأن لا يكون قائماً على أمر مسبق.
لكن بعد الإمبراطوريات الاستعمارية ثم سقوط حائط برلين، وبعد وضعية ما بعد الحرب الباردة، أخذت المواجهات العمودية، حسب جان لو أمسيل، وبشكل سريع، شكلاً جديداً من خلال التخلي عن البراديغم التاريخاني والماركسي لصراع الطبقات، الذي كان مع ذلك وليد حرب الأعراق، لبث روح جديدة في هذا الأخير بالمجاوزة الأكيدة للروابط الجانبية أو الصراعات الأفقية. ومما تبقى من العلاقات الاستعمارية فضلت لنا هويات عمودية وعرقية أضحت تقوم بعمليات القطع والتشذير والعزل للأجسام أو الحقول الاجتماعية والفكرية والأدبية والفنية وتقسيمها إلى قطع وحزات عمودية. إننا نشهد اليوم عودة قوية للعرق، وإضفاء متزايداً للطابع الإثني على العلاقات الثقافية كما برهن على ذلك الأنثربولوجي بشكل مستفيض (أثننة فرنسا، 2011؛ الحفر السفر الجدد، 2014).
اقرأ أيضا: الأبحاث ما بعد الكولونيالية وتأثيراتها على المجتمعات المستعمرة.. كتاب جديد (1من2)
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير كتب الكتاب الاستعمار أوروبا العالم الثالث أوروبا كتاب استعمار عرض عالم ثالث كتب كتب كتب كتب كتب كتب أفكار أفكار أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الولایات المتحدة العالم الثالث التی کانت بلدان ا ما بعد التی ت
إقرأ أيضاً:
تركيا وموجة الربيع القادم
ما يحدث اليوم في سوريا من تمكين للجماعات المسلحة ومن احتلال لأجزاء كبيرة في الجولان لا يخرج عن فكرة الشرق الجديد وسبق لنا تناول هذه الفكرة في مقالات متعددة، ويبدو أن موجة الربيع الثالثة التي تعلن عن نفسها من سوريا لن تبرح فكرة التقسيم على أسس عرقية وطائفية وسوف تتجلى صورتها في قابل الأيام فالمؤشرات على الأرض اليوم دالة عليها.
ومشروع التفكيك للنسيج العربي – أي فكرة الشرق الجديد – تعود جذورها إلى عام 1983م وظلت تراوح مكانها إلى أن ظهرت في بداية الألفية بالتمهيد لها بأحداث 11سبتمير، وكانت تلك الأحداث مع موجات التفجير التي اجتاحت العالم يومئذ هي المحرك الأساسي لها، إذ اشتغلت أمريكا منذ 2004م على فكرة الشرق الجديد وهي الفكرة التي ولدت بعد سقوط بغداد عام 2003م تحت ذرائع قال الواقع بعدم صدقها، وقد تمخض عن ذلك السقوط فكرة الشرق الجديد، وكان من نتائجها حرب تموز 2006م بلبنان، وهي الحرب التي لم تكن نتائجها مرضية للمنظومة الصهيونية العالمية، وللسيطرة على مقاليد الزمن وحركة التاريخ سارعوا إلى تبني استراتيجية راند لعام 2007م بهدف إنشاء شبكة إسلام معتدل، وهي الرؤية الاستراتيجية التي نجحت إلى حد ما في بلوغ أهدافها في التحكم بمصائر الشعوب، وفي الاحتلال، وتدمير الثقافة الدينية وتطبيقاتها الاجتماعية، عن طريق موجة الربيع العربي وتداعياتها التي لن تقف عند حد التدمير فقط بل إلى أبعد من ذلك وهو مرحلة اللا الدولة.
مشروع “شبكة الإسلام المعتدل” تقوده تركيا منذ تبدل المعادلة في حرب تموز 2006م وهي تخوض غمار المعركة من موقعها، بعد أن تغير مصطلح الشرق الأوسط الجديد ليصبح أكثر قبولا من الجمهور السني وهو فكرة الخلافة الجديدة، ولعل حركة التبدل في النظام التركي من النظام البرلماني إلى الرئاسي وحركة القضاء على رموز النظام التركي القديم في لعبة الانقلاب المزعومة التي شرعنت حركة الإقصاء التي تجاوزت الحد المعقول، وقد صاحبها صمت دولي مريع من المنظمات الحقوقية والمواقف السياسية، وكأن الأمر سيناريو مرسوم سلفا تمت عملية إعداده وتنفيذه بعناية فائقة.
مارست تركيا دورا مزدوجا ظاهره الانتصار لقضايا العرب والمسلمين وباطنه التطبيع وتنفيذ الاستراتيجيات، فالمواقف التي يعلنها رجب طيب أردوغان هدفها لفت الأنظار إليه، وهو يمتص من خلالها الحالات الانفعالية في الشارع الإسلامي في حين ما تزال مواقفه ثابتة وعلاقاته مطبعة مع الكيان الصهيوني، وهو يسير في ذات المنهج للإدارة الأمريكية.
تركيا اليوم تكاد تسيطر على الوجدان العربي والإسلامي من خلال الدراما التي تحتل المرتبة الأولى من حيث المشاهدة والتأثير في ظل تراجع دور الدراما المصرية وغياب السورية، وكل الذي تنتجه ليس عفويا ولن يكون ولكنه يرتبط ارتباطا كليا أو جزئيا بحركة السياسة والاقتصاد والسوق وهو موجه بشكل منهجي واضح لإدارة الوجدان العربي، فالقضية لم تعد واقعا أفرزه نشاط عسكري وعملياتي عام 2006م، بل تجاوز الفكرة ليصبح حركة تدير الانقسامات وتعمل على تفكيك المجتمعات العربية للوصول إلى مرحلة ما قبل الدولة الوطنية أي مرحلة التشظي والانقسامات والحروب.
اليوم الصورة أكثر وضوحا من ذي قبل فتركيا تدخل سوريا، وتذهب إلى ليبيا وتتدخل في العراق ومثل ذلك النشاط قد أفصح عن نفسه وقال للمكابر عن حقيقة الدور الذي تلعبه تركيا في تفاصيل اللحظة السياسية العربية وهو دور مشبوه ولا ينم عن نوايا حسنة لتركيا مهما تظاهرت وعملت على فكرة التضليل.
مسلسل “آرطغرل ” هو الأكثر تأثيرا ومشاهدة في عموم العالم وهو يروج لفكرة عودة الخلافة العثمانية وهي فكرة تخامر النظام التركي وقد اجتمع التنظيم الدولي للإخوان في تركيا وخرج للعلن إعلانهم رجب طيب أردوغان خليفة للمسلمين.
تواجدت تركيا في قطر بقواعد عسكرية بسبب الفراغ الذي تركته أزمة العلاقة مع محيطها ومع السعودية على وجه الخصوص، وتواجدها في جزيرة سواكن بالبحر الأحمر بعقد استئجار لمدة 99عاما ليس ترفا البتة، ولكنه تواجد واع يسير وفق خطى واستراتيجيات مرسومة سلفا بدليل الاشتغال المكثف في تفكيك المجتمعات وتغير مساحة الوعي الجمعي.
في مقابل كل هذا النشاط السياسي والعسكري هناك حركة استقطاب للكوادر الثقافية وإغراءات وتنظيم خلايا في شبكات التواصل الاجتماعي للترويج والدفاع والتفكيك منظمة وفق مقتضيات برامج التنمية البشرية الذي أفلح فيه الإخوان والنظام التركي في سنوات الربيع العربي وما قبله.
كل الاستراتيجيات التي تستهدف العرب والمسلمين غايتها إطالة أمد الحروب الطائفية – وفق أحدث الدراسات الاستراتيجية طبعا – وبحيث تكون أبدية أملا في الوصول إلى حالة التدمير الشامل للعرب والمسلمين وبحيث تتحول هذه الأمة بنظر العالم إلى محاربين لا يحبون السلام والاستقرار، تحركهم أحقاد وثارات لا تنسجم مع حالة العالم ومصالحه وبذلك ينشأ توافق عالمي علي أن القضاء علي الإسلام هو الحل الوحيد لإنقاذ العالم من شروره .
تركيا اليوم تستغل الفراغات وتقود موجة الربيع الثالثة وتحاول أن تملأ تلك الفراغات بما يحقق طموحاتها المستقبلية ويبدو الواقع اكثر استجابة لها اليوم كما تبين ذلك في سوريا التي دخلتها بغطاء النظام والاعتدال ثم تسربت أخبار عن حالات بطش وتعذيب وذبح قالوا أنها تصرفات فردية مخالفة للتوجيهات وخارجة عن الإرادة .
يقول مستشار البيت الأبيض برنارد لويس :
“إن العرب والمسلمين قوم فاسدون مفسدون فوضويون، لا يمكن تحضرهم، وإذا تُرِكوا لأنفسهم فسوف يفاجئون العالم المتحضر بموجات بشرية إرهابية تدمِّر الحضارات، وتقوِّض المجتمعات، والحلَّ السليم للتعامل معهم هو إعادة احتلالهم واستعمارهم، وتدمير ثقافتهم الدينية وتطبيقاتها الاجتماعية» …..