لم تقتصر تبعات الحرب الكارثية التي شنها الاحتلال على غزة على جوانبها العسكرية القتالية التي سجلت إخفاقات بدأت ولما تنته بعد، بل إنها امتدت إلى مستوياتها الاقتصادية والتجارية التي تمثلت في الكساد الاقتصادي وتراجع النمو بصورة كبيرة وغياب الازدهار.

 

يهودا أرييه مودي الخبير المالي والمصرفي أكد أن "معظم القطاعات الاقتصادية لن تقفز فور انتهاء الحرب كي تتعافى، لأنه من الواضح أنه بعد الدمار الكبير في مستوطنات غلاف غزة والشمال، سيتعين على دولة الاحتلال استثمار جزء كبير من ميزانيتها من أجل ترميم كل الدمار الذي حدث في الشمال والجنوب، سواء من خلال زيادة الضرائب، أو الاستمرار في أخذ القروض، حيث ستتدفق كل هذه الأموال للشركات الهندسية لتصميم وبناء الطرق والمباني العامة والأحياء الجديدة بدلاً من تلك التي تم تدميرها".

 

وأضاف في مقال نشره موقع زمن إسرائيل، أنه "بما أن فائض الضرائب لا يفيض نحو خزينة الدولة، فإنني أكثر قناعة بأننا أمام موسم من الجفاف الضريبي والاقتراض والتضخم، وستكون العلامات الإرشادية أكثر سلبية من الإيجابية، بعيدا عن الانغماس في النبوءات المبتذلة والأفكار الهلامية، التي تتحدث عن ارتفاع النمو بعد الحرب، حيث إنه لا أساس لها من الصحة، ولأن أرقام الناتج المحلي الإجمالي للفرد بعد كل حرب تعكس سوء الوضع الاقتصادي، وكل الرسوم البيانية التي تتضمن مؤشرات الحروب الكبرى التي خاضها الاحتلال تؤكد أنه لا يوجد اتفاق على وجود نموّ منظم بعد الحرب الحالية في غزة".

 

واستدرك بالقول إن "الاستثناء الوحيد يتعلق بحرب يونيو 1967 التي شهدت الدولة بعدها نمواً مرتفعاً للغاية، ورغم أن الأرقام صغيرة، لكن القفزة بدت لافتة، مع أننا أمام حرب غير عادية وقصيرة جدًا، توسع بعدها الاحتلال أبعد من حدوده السابقة، واستفاد من العمالة الرخيصة التي "سقطت" فجأة بين يديه، ومن موجات ضخمة من المتطوعين اليهود الذين أتوا من جميع أنحاء العالم، أما حرب أكتوبر 1973 فهي قصة مختلفة تمامًا، حيث لم تنته الحرب ونتائجها المباشرة حتى نهاية العام، وفي 1974 حدثت قفزة كبيرة عكست نفقات الحكومة لتغطية نفقات الحرب، واستعادة القدرة العسكرية للجيش".

 

وأشار إلى أنه "في عامي 1974-1975 حصل انخفاض في نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، وتعتبر السنوات التي تلت تلك الحرب بداية السنوات السيئة في الاقتصاد الإسرائيلي، وسميت "سنوات التضخم وفقدان السيطرة والأزمات التي أثرت على كل مجالات الدولة"، مع العلم أن نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي يشمل استثمارات الدولة في العام التالي للحرب، لأنه عندما تشتري قنابل جديدة، وتصلح الطرق، يزيد الإنفاق، دون وجود رفاهية".

 

وأوضح أن "حرب لبنان الأولى بين يونيو وسبتمبر 1982، حتى الانسحاب من جنوب لبنان في مايو 2000، تعتبر من بين أطول الحروب في تاريخ الاحتلال، فقد شكلت مثالا على الانهيار الاقتصادي في السنوات التي تلتها، وبالتأكيد ليس للنموّ، حيث نما الناتج المحلي الإجمالي للدولة فعليًا في العام التالي للحرب بسبب استثمارات الحكومة في استعادة البنية التحتية".

 

وختم بالقول إنه "في عامي 1984-1985 حصل انخفاض حاد في الناتج المحلي الإجمالي لما دون سنة الأساس في 1982، ولذلك فقد شكلت تلك الحرب أحد الأسباب الرئيسية للدوامة التضخمية في 1985، وقادت الدولة إلى أسوأ أزمة اقتصادية في تاريخها، وبين عامي 2004 و2021، قفز اقتصاد الاحتلال في الناتج المحلي الإجمالي من 20 إلى 50 ألف دولار".

 

تكشف هذه المعطيات الإحصائية أن حرب الاحتلال على غزة شكلت بشرى سيئة لاقتصاده الذي يعاني، ما سيجعل إسناد معان "تفاؤلية" خاصة لهذه الحرب الحالية في غزة خطيئة كبرى، في ضوء الخسائر التي تكبدها الاحتلال في الأرواح والأموال، ولعل حرب غزة الجارية تشبه سمات حرب لبنان الأولى من حيث طولها الزمني، والجهد الاقتصادي الذي تنطوي عليه، لذلك، فليس هناك أمل كبير في حدوث ازدهار اقتصادي كما يعتقد كثير من الإسرائيليين الذين يخلطون بين أمنياتهم المبالغ فيها، والوقائع المظلمة القائمة فعلياً.


المصدر: الموقع بوست

كلمات دلالية: الناتج المحلی الإجمالی

إقرأ أيضاً:

الربيع الذي انتهى والربيع الذي سيأتي

إحدى أهم الزوايا التي تُتابع من خلالها العديد من الأطراف مجريات الحرب على غزة ونتائجها هي ارتداداتها على المحيط والمنطقة، وتحديدا على الوضع الداخلي لبعض الدول.

ذلك أن مركزية القضية الفلسطينية وتاريخيتها من جهة، واستثنائية المعركة واختلافها عن كل ما سبقها من جهة ثانية، وارتباط قضايا المنطقة وتطوراتها ببعضها البعض من جهة ثالثة، يجعل من المرجّح أن يكون لهذه الحرب تبعاتها وانعكاساتها الخارجية، إن على مستوى المنطقة أو العالم.

ومما يعزز هذا الاعتقاد لدى الكثيرين أن له نموذجا سابقا، هو الثورات التي سميت بالربيع العربي نهاية 2010 وبداية 2011. فقد قامت الثورات في عدد من الدول العربية لأسباب داخلية في معظمها مثل الفساد والأزمات الاقتصادية والمعيشية، ولكن أيضا لأسباب تتعلق بالسياسة الخارجية مثل التبعية وضعف الدور والموقف من القضية الفلسطينية.

مركزية القضية الفلسطينية وتاريخيتها من جهة، واستثنائية المعركة واختلافها عن كل ما سبقها من جهة ثانية، وارتباط قضايا المنطقة وتطوراتها ببعضها البعض من جهة ثالثة، يجعل من المرجّح أن يكون لهذه الحرب تبعاتها وانعكاساتها الخارجية، إن على مستوى المنطقة أو العالم
وقد كان العدوان "الإسرائيلي" على غزة في 2008-2009 حاضرا في أذهان الشباب الذين ملأوا الميادين في تلك الاحتجاجات، من جهة بسبب دروس الحرب من صمود الفلسطينيين وأداء مقاومتهم رغم الحصار وقلة الإمكانات، ومن جهة أخرى بسبب ضعف الموقف الرسمي العربي المتراوح بين العجز والفشل. وهكذا سمعنا من شباب ميدان التحرير وأشقائه أن الاحتجاجات كانت تستلهم من غزة فكرة الإمكان رغم ضعف الإمكانات، وتحتج على أنظمتها التي خذلت غزة.

طويت صفحة "الربيع العربي" في موجة 2011 منذ سنوات، ولعل المصالحة الخليجية أولا ثم مسار المصالحة بين تركيا وبعض الدول العربية التي ناصبتها العداء لعقد كامل ثانيا؛ بمثابة إعلان غير رسمي بأن كافة دول المنطقة ومن الجانبين قد وضعت ملف الثورات وراء ظهرها بشكل كامل ونهائي، وربما يكون حديث أنقرة عن لقاء محتمل بين أردوغان والأسد آخر فصول هذا الإعلان، لكن هذا لا يعني أن هذا الحدث انتهى بلا رجعة.

في تفسير التاريخ وتوصيفه نظريات عديدة، بعضها ينظر للمسار التاريخي على أنه خط مستقيم لا يعود للخلف، وبعضها الآخر يراه ضمن موجات مد وجزر، وبعضها الآخر ينظّر للمسار "الدوري" أو "الدوراني"، وأخرى تتحدث عن "نهر التاريخ"، لكن معظم هذه القراءات تقر بإمكانية تكرر بعض الأحداث أو تشابهها، لا سيما إذا ما توفرت لها ظروف وسياقات ودوافع متقاربة. ولعل أكثر الظواهر السياسية- الاجتماعية القابلة للتكرر هي الاحتجاجات والثورات، ولذلك لطالما قُيّمت ضمن "موجات" أو مراحل ثورية متتالية.

استمرار المجازر البشعة بحق المدنيين من نساء وأطفال حتى وهم في مخيمات النازحين التي أنشئت في المناطق المعلنة "آمنة" من قبل الاحتلال؛ لم يدفع إلى موقف حقيقي تجاه الاحتلال من النظام الرسمي العربي، لا فعلا ولا تلويحا ولا حتى تلميحا
يتحدث العديد من الباحثين عن أن الأسباب التي دفعت الناس للانفجار في نهاية 2010 في عدد من الدول العربية ما زالت قائمة، ويكاد يكون أي منها لم يُحلَّ أو يُخفف، بل تفاقم بعضها أضعافا مضاعفة، ولا سيما ما يتعلق بمعاناة المواطن اليومية من الأوضاع الاقتصادية الخانقة من جهة والانسداد السياسي والفساد والمظالم من جهة أخرى.

في المقابل، فإن النظر إلى حرب الإبادة التي يشنها الاحتلال على غزة بأهلها ومقاومتها يدفع للقول بأن مشاعر الشارع العربي اليوم بخصوص موقف بعض الأنظمة تجاه الإبادة في غزة؛ تتخطى بمراحل ما شعر به في 2008 وما تلاها من حروب وعدوانات. إن موقف بعض الأنظمة العربية يُتعذر معه التفسير بالعجز (الإخفاق بدون محاولة) والفشل (الإخفاق بعد المحاولة) في دعم الفلسطينيين إلى مستويات التواطؤ (السكوت والرضا)، بل والانخراط المباشر وغير المباشر في المعركة إلى جانب الاحتلال.

ذلك أن استمرار المجازر البشعة بحق المدنيين من نساء وأطفال حتى وهم في مخيمات النازحين التي أنشئت في المناطق المعلنة "آمنة" من قبل الاحتلال؛ لم يدفع إلى موقف حقيقي تجاه الاحتلال من النظام الرسمي العربي، لا فعلا ولا تلويحا ولا حتى تلميحا. أكثر من ذلك، فقد أظهرت بعض الأنظمة رضا ضمنيا واستمرت بعلاقاتها مع الاحتلال، بما في ذلك التعاون وكأن شيئا لم يكن.

رغم الإبادة بل خلالها، لم توقف أي دولة عربية علاقاتها التطبيعية مع الاحتلال، ولا حتى هددت بذلك، ولم تسحب سفيرها ولم تطرد سفير الاحتلال، وبقيت العلاقات التجارية والاقتصادية، وجلس سفير الإمارات على مائدة الرئيس "الإسرائيلي" في بيت الأخير، وشارك صحافي سعودي في مؤتمر هرتسيليا الأمني- العسكري في دولة الاحتلال، ويستمر "الجسر البري" الذي تنقذ من خلاله عدة دول عربية اقتصاد الحرب في دولة الاحتلال وتعوضها ما تخسره من عمليات "أنصار الله" في اليمن، وشاركت بعض الدول العربية في حماية دولة الاحتلال من صواريخ إيران ومسيّراتها، فضلا عن الاجتماع الذي عقد بين قيادات عسكرية عربية رفيعة وقائد أركان جيش الاحتلال في المنامة برعاية أمريكية.

اتخاذ المواقف الصحيحة من الحرب على غزة والوقوف في الجهة الصحيحة من التاريخ كما يقال؛ ليس فقط موقفا أخلاقيا مبدئيا صحيحا، ولا يخدم الأمن القومي العربي من باب أن الكيان الصهيوني عدو للجميع ويستهدف الكل وحسب، وإنما يمكن أن يساهم في نزع فتيل انفجار كبير قادم على المنطقة
يقرأ الشارع العربي هذا الموقف، ولا يصدق -في غالبيته الساحقة- الكلام الدعائي للأنظمة بدعم الفلسطينيين وشجب للعدوان والعمل على وقفه.

ومن جهة أخرى، فإن القوى الحية التي انخرطت في الاحتجاجات الواسعة وسعت للتغيير في بلادها ثم دفعت ثمن فشل الثورات وتحكّم الثورات المضادة؛ بقيت خاملة لسنوات طويلة لأنها افتقدت للشعور بالجدوى بشكل أساسي، بينما يرى شبابها اليوم في غزة -مقاومة وشعبا- نموذجا يُقتدى في العمل والإنجاز رغم ندرة الإمكانات وبالتالي جدوى العمل بل ضرورته.

ولذلك، فليس من باب المبالغة القول إن الحرب الحالية على غزة تعزز فكرة تكرر الانفجار الاجتماعي- السياسي في العالم العربي، ولعلها تقرّب من موعده. فإذا كان ثمة من يخشى من هذه الموجة القادمة فعليه أن يسعى لعلاج أسبابها وتخفيف السياقات التي تدفع باتجاهها.

من هذه الزاوية، فإن اتخاذ المواقف الصحيحة من الحرب على غزة والوقوف في الجهة الصحيحة من التاريخ كما يقال؛ ليس فقط موقفا أخلاقيا مبدئيا صحيحا، ولا يخدم الأمن القومي العربي من باب أن الكيان الصهيوني عدو للجميع ويستهدف الكل وحسب، وإنما يمكن أن يساهم في نزع فتيل انفجار كبير قادم على المنطقة وخصوصا بعض دولها؛ لن يستطيع أحد التنبؤ بتوقيته ولا التحكم بمساره ونتائجه وتداعياته.

هذا، وإلا فعلى الجميع الاستعداد لذلك اليوم الآتي، وكلُّ آتٍ قريب.

x.com/saidelhaj

مقالات مشابهة

  • ارتفاع الناتج المحلي الإجمالي لسلطنة عُمان بنسبة 1.7%
  • إهتمام سوري مستجد بالملف اللبناني ومراوحة متوقعة بعد استبعاد الحرب الواسعة والتسوية
  • حرب العقول بين المقاومة والاحتلال
  • الربيع الذي انتهى والربيع الذي سيأتي
  • وزير الاتصالات: 5.8% نسبة مساهمة القطاع في الناتج المحلي الإجمالي خلال العام 2023/ 2024
  • تباطؤ اقتصاد الصين في الربع الثاني نتيجة ضعف الطلب الاستهلاكي
  • 80 شهيدا بمجازر جديدة للاحتلال والمقاومة تكبده خسائر
  • ارتفاع إجمالي الناتج المحلي للصين بنسبة 5% في النصف الأول من 2024
  • وزير المالية الكويتي: نستهدف الوصول لـ10% إيرادات غير نفطية من الناتج المحلي 2030
  • الرئيس الروسي يوقع قانونا يدخل تعديلات على ميزانية البلاد