خطر التضليل الإعلامي على تماسك المجتمعات
تاريخ النشر: 7th, July 2024 GMT
هذا العصر الذي نعيشه هو عصر المعلومات بامتياز، تتدفق فيه كميات فظيعة في كل جزء من الثانية بشكل منطقي أو غير منطقي، تحمل معها المعرفة كما تحمل معها نقيضها. ومع ظهور ثورة الذكاء الاصطناعي صار توليد المعلومات يحدث بشكل جنوني.. كل فرد في هذا العالم يستطيع أن يولد كميات هائلة من المعلومات ويوجهها في المسار الذي يريده ويصبغ عليها رداء الصدق وهي في الكثير من الأوقات منه براء.
وأمام هذا الجنون المعلوماتي يصبح دور دور وسائل الإعلام في تشكيل الوعي العام أكثر أهمية من أي وقت مضى. لكنّ الأمر لا يبدو بهذه البساطة التي نتوقعها، فتأثير وسائل الإعلام التقليدية والحديثة يأخذ مسارين اثنين، أو يمكن استعارة مقولة «سيف ذو حدين»؛ فمن ناحية، يمكن للصحافة المسؤولة أن تقوم بدور التنوير والتثقيف، والمساهمة في بناء مجتمع مستنير.. ومن ناحية أخرى، يمكن للمعلومات المضللة في وسائل الإعلام، وبشكل خاص الحديثة، أن تشوه الحقائق، وتؤدي إلى تآكل ثقة الجمهور، وتقوض التقدم المجتمعي.. بل وتقوض الوعي الجمعي.
إن أحد أكبر التحديات التي تواجهها الدول في هذا الوقت يتمثل في تحدي المعلومات المضللة التي تنتشر في وسائل التواصل الاجتماعي وبعض وسائل الإعلام، وهذه القضية منتشرة في كل المجتمعات ولها عواقب بعيدة المدى.
قبل عقود من الزمن كانت المعلومات حكرا على فئات قليلة في كل مجتمع، وتتحكم فيها الدول والحكومات، لكنّ العصر الرقمي الذي نعيشه فرض «ديمقراطية» الوصول إلى المعلومات أو أغلبها وصارت متاحة أمام الجميع، ولكن في الوقت نفسه سهّل عملية انتشار التضليل والأكاذيب والتلاعب بالعقول وبناء وعي جمعي مزيف في بعض الأحيان. ومن القصص الإخبارية الملفقة إلى الإحصائيات المضللة، يمكن لسيل جارف من المعلومات المضللة أن يؤثر على استقرار المجتمعات ويثير القلاقل السياسية التي قد تؤدي إلى الذعر في بعض الأحيان وإلى عمليات الاستقطاب في الكثير من المجتمعات، وما حدث خلال جائحة كورونا ليس بعيدا عنا.. وهذا المثال وغيره الكثير يؤكد على الإمكانية التدميرية للمعلومات المضللة وقدرتها على تفكيك الوعي وتسطيحه.
وأمام كل هذه الحقائق التي لم تعد خافية على أحد يبرز الوعي الحقيقي المعتمد على المبادئ العلمية والتفكير النقدي باعتباره الحل الأمثل لهذه المشكلة المتفشية. تستطيع المعرفة العلمية مساعدة الأفراد في تمييز المعلومات الموثوقة من الادعاءات الزائفة، وتقييم صحة أي معلومة تصلهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي بشكل خاص. إن الجميع اليوم في أمس الحاجة إلى تعلم المبادئ البسيطة لعلم المنطق حتى نستطيع جميعا تحليل الحجج وتحديد المغالطات المنطقية، وتقييم مدى موثوقية المصادر، وكل هذه المهارات ضرورية خلال هذه الثورة المعلوماتية التي تزداد ضراوة كل يوم.
إن المجتمعات التي تستطيع إعمال المنطق خلال عملية فرز الكم الهائل المتدفق من المعلومات اليومية تزداد قوة وقدرة على التغلب على التحديات اليومية والأزمات الكبرى. كما يستطيع مثل هذا المجتمع الذي يستند على المنطق أن يصنع قراره بناء على أدلة علمية، وهذا يضمن له سياسات مستنيره وممارسات إدارية أكثر قوة.
وهذا مطلب أساسي لهذه الأجيال التي تلقت تعليما متقدما في أرقى الجامعات ومارست أعمالا لا تستقيم دون التفكير النقدي ودون الاتكاء على المنطق في اتخاذ القرارات. ومن المخيف جدا أن تترك هذه الأجيال المتعلمة هذا النوع من التفكير وتنخدع بالتضليل الإعلامي الذي يأخذ مساحة لا بأس بها في وسائل التواصل الاجتماعي وبعض وسائل الإعلام التقليدي. فالمتعلم الممسك بمهارات التفكير النقدي أكثر استعدادا لتحدي المعلومات الخاطئة والمساهمة في كشفها وحماية المجتمع منها.
تحتاج المعلومات المضللة التي تجتاح مجتمعاتنا إلى استجابة مجتمعية قوية تركز على الثقافة العلمية والتفكير النقدي. ومن خلال إعطاء الأولوية لهذه المهارات، يمكن بناء مجتمعات قوية قادرة على التغلب على تعقيدات العالم الحديث. ومن الضروري أن تدرك المؤسسات التعليمية وصناع السياسات على حد سواء أهمية تعزيز ثقافة الاستقصاء والشك واتخاذ القرارات القائمة على الأدلة.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: وسائل الإعلام
إقرأ أيضاً:
رأي.. أنور قرقاش يكتب: السودان بين التضليل وتفاقم المأساة الإنسانية
هذا المقال بقلم الدكتور أنور بن محمد قرقاش، المستشار الدبلوماسي لرئيس دولة الإمارات العربية المتحدة، والآراء الواردة أدناه تعبر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة CNN.
عامان من القسوة والظروف الإنسانية الكارثية مرّا على الشعب السوداني، عانى خلالهما الأشقاء ويلات الحرب وتبعاتها من قتلٍ ونزوحٍ وندرةٍ في مقومات الحياة الأساسية.
وفي ظل هذه الحالة الإنسانية الحرجة، واللحظة المفصلية التي تستوجب مسارًا جادًا نحو السلام، لا تزال القوات المسلحة السودانية تتهرّب من أيّ مساعٍ لإنهاء الحرب، وتواصل تصعيدها، لقناعاتها بإمكانية الحسم العسكري، دون اعتبار لحجم المعاناة الإنسانية التي تجاوزت كل الحدود، مع الاستمرار في محاولاتها تحميل الآخرين مسؤولية ما اقترفته، ماضية في مسار لن يفضي إلّا إلى تمزيق السودان وتحويله إلى دولة فاشلة.
وفي هذا السياق، يواصل الجيش السوداني حملته الممنهجة ضد دولة الإمارات بحجج مكررة وواهية، في مسعى لصرف الأنظار عن إخفاقاته الداخلية والتهرب من مسؤولياته تجاه الأحداث التي قادت إلى هذه الحرب العبثية، التي جاءت بقرار من الجيش والمليشيات الإخوانية المساندة له، وانقلابه على الحكم المدني الانتقالي في 25 أكتوبر 2021، واختيار الحرب لحسم الخلاف المتفاقم مع قوات الدعم السريع، ثم الرفض المتكرر لوقف إطلاق النار والحل السياسي.
وفي ما يتعلق بدولة الإمارات، كانت ومنذ بداية الأزمة تبذل جهودًا مخلصة للبحث عن حل سياسي كفيل بتجنيب السودان الشقيق المآسي والمعاناة الإنسانية، انطلاقًا من علاقاتها التاريخية مع السودان الشقيق واهتمامها بتطوراته والاستثمار في تنميته، إضافة إلى قناعتنا الراسخة بأن لا حل عسكرياً للصراع، وهي قناعة لا تنفصل عن الإجماع العربي والإفريقي والدولي بل تتفق معه.
وهنا أودّ أن أوضح أنّني ما كنت لأعبّر عن هذا الرأي بهذه الصراحة والوضوح، ولا أن أتناول الشأن السوادني الداخلي، لولا الحملات المضلّلة والكاذبة التي تقودها القوات المسلحة السودانية وحلفاؤها من الإخوان ضد دولة الإمارات.
إن العلاقة التي تربط دولة الإمارات مع السودان تميزت عبر السنوات بالوئام والتعاون وبروابط تاريخية عميقة. وهنا، لا يسعني إلا أن أُشيد بدور الجالية السودانية المقيمة في دولة الإمارات، فقد احتضنت بلادي الأشقاء بكل محبة وتقدير وترحيب، فالعلاقات الشعبية كانت الأساس المتين الذي جمع البلدين، ولن تفرّقه الدعايات المغرضة.
ومع مرور عامين على اندلاع الصراع يتضح جليًا الدور العقيم الذي تمارسه القوات المسلحة السودانية في إنكار مسؤوليتها عن الصراع، ورفضها الانخراط في أية محادثات إقليمية أو دولية تهدف إلى التوصل لحل سلمي، وها هي اليوم تلجأ إلى محكمة العدل الدولية لتقديم شكوى تفتقد للمنطق ضد دولة الإمارات، في خطوة دعائية تهدف إلى صرف الأنظار عن مسؤوليتها في ارتكاب جرائم حرب وثّقتها تقارير متعددة صادرة عن الأمم المتحدة وهيئاتها، فضلاً عن تقارير الإدارة الأمريكية.
وما يُؤسف له أن هذه الحرب، وقبلها الانقلاب على السلطة المدنية، جاءت في أعقاب فترة من التفاؤل والأمل - بعد الإطاحة بنظام البشير في ثورة شعبية - بمسعى لخلق مسار سياسي وتنموي بعد عقود من ارتباط النظام في الخرطوم بمجموعة من الأزمات الداخلية الحادة والعزلة الدولية التي تسبب بها النظام السابق وممارساته.
وبعد أن أصبحت الحرب حقيقة ماثلة، كان موقف دولة الإمارات الإصرار على وقف فوري لإطلاق النار والبدء في مسار سياسي للعودة إلى الانتقال المدني، وضمن هذه المساعي كانت الدولة جزءًا حاضرًا في كافة الجهود الخيّرة من جدة إلى المنامة إلى جنيف.
إن دعوى القوات المسلحة السودانية إلى محكمة العدل لا يعفيها من مسؤوليتها عن الأزمة الكارثية ومن المسؤوليات القانونية والأخلاقية الناجمة عن ممارساتها الإجرامية، حيث قامت سلطات دولية موثوقة، بما فيها الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان وأيضًا الوكالات الإخبارية المعروفة، بتوثيق جرائم الحرب المرتبطة بالقوات المسلحة السودانية والتي شملت القتل الجماعي للمدنيين والهجمات العشوائية على المناطق المكتظة والعنف الجنسي وغيرها.
وتتضح المحاولة الواهية لاستغلال المحكمة والتهرب من الجهود الدولية الرامية إلى تحقيق السلام، فالادعاءات التي قدمها ممثل السودان للمحكمة تفتقر إلى أي أساس، وليست سوى محاولة - ضمن مخطّط بات مكشوفًا - لتشتيت الانتباه عن نتائج الحرب التي تدمي القلوب. ورغم أنّ دولة الإمارات على يقين بأنّ هذه الادعاءات بلا أي سند فإنها واحترامًا للمحكمة، باعتبارها الهيئة القضائية الرئيسية للأمم المتحدة، تعاملت مع هذه الدعوى وفق الأصول المهنية القانونية، ولكن ما نراه من تكرار ممجوج للادعاءات ونقلها بين فترة وأخرى - من نيويورك إلى جنيف إلى لاهاي - يؤكد على أنّ التشويش ممنهج، فمن خلال هذا، تحاول سلطة القوات المسلحة السودانية صرف الانتباه عن دورها في ارتكاب الفظائع واسعة النطاق التي لا تزال تدمر السودان وشعبه عبر استخدام الأسلحة الكيماوية ضد المدنيين، وفق ما نقله تقرير لشبكة "VOA" في 16 يناير/كانون الثاني الماضي عن تصريحات أدلى بها مسؤولون أمريكيون لوسائل إعلام محلية ووفقا لمقال للصحفيين ديكلان وولش وجوليان إي. بارنز في التاريخ نفسه.
إنّ دولة الإمارات وفي سياق دعمها القانون الدولي تتمسك بضرورة المساءلة عن الفظائع التي ارتكبها الطرفان المتحاربان، وهي أيضًا في إطار التزامها الراسخ تؤازر الشعب السوداني الشقيق في الظروف الصعبة - وهو ما يشهد عليه التاريخ والسودانيون سواء على أرض السودان أو في دول الجوار.
ومن هذا المنطلق الإنساني، فإن دولة الإمارات لن تنشغل بهذه الهجمات المضلّلة، وسيبقى تركيزها على هدفها الرئيس والمتمثل في التخفيف من الكارثة الإنسانية عن كاهل أشقائنا، رغم التجاهل الصارخ الذي تمارسه القوات المسلحة السودانية لمعاناة الشعب والإمعان في تخريب البلاد، التي باتت بسبب الفراغ الأمني الحاصل بيئة خصبة لخطر انتشار الإرهاب مع تغلغل فكر جماعة الإخوان المسلمين المتطرف والإرهابي.
وستواصل دولة الإمارات القيام بدور بنّاء للمساعدة في إنهاء هذه الحرب العبثية عبر دعم جهود السلام، والحث على حوار دبلوماسي وعملية سياسية سلمية تعكس إرادة الشعب السوداني وتحقّق تطلعاته باستقرار يدعم جهود التنمية.
وفي الختام، ننصح قادة السودان بالتركيز على كيفية وقف الحرب وحماية المدنيين، بدلًا من تضييع الفرص والاستعراضات المصطنعة. فالشعب السوداني يستحق مستقبلًا يقوم على السلم والكرامة، ويستحق قيادة تضع مصالحه - لا مصالحها - وأولوياته في المقام الأول والأخير.
الإماراتالسودانرأينشر الأربعاء، 09 ابريل / نيسان 2025تابعونا عبرسياسة الخصوصيةشروط الخدمةملفات تعريف الارتباطخيارات الإعلاناتCNN الاقتصاديةمن نحنالأرشيف© 2025 Cable News Network. A Warner Bros. Discovery Company. All Rights Reserved.