الاعتداءات على السوريين في تركيا.. من المستفيد؟
تاريخ النشر: 7th, July 2024 GMT
ربما لم تكن هي المرة الأولى التي تشهد بعض المناطق التركية، اعتداءات يتعرض لها السوريون ذات صبغة عنصرية.
لكن الهجمات الأخيرة التي شهدتها ولاية قيصري، وسط الأناضول بشكل أساسي، وبعض الولايات الأخرى، كانت هي الأوسع والأشد تأثيرا إنسانيا وإستراتيجيا واقتصاديا.
إذ تكفلت إشاعة معتادة بشأن اعتداء جنسي من صبي سوري على طفلة تركية (اتضح لاحقا أنها سورية أيضا) بانطلاق المئات لتكسير وحرق ممتلكات السوريين المقيمين في الولاية، ثم ما لبثت أن امتدت إلى ولايات أخرى وإن بحجم أقل.
لكن قبل الحديث عن التداعيات، لابد من تسجيل بعض الملاحظات، التي قد تضئ المشهد أكثر أمام القارئ
ملاحظات مهمة أولاً: هذه الاعتداءات وقعت في مدينة في قلب الأناضول حيث قوة وتمركز المحافظين الأتراك، كما شملت مدنا أخرى مثل قونيا وغازي عنتاب، وكلها مدن تعد خزانات انتخابية لحزب العدالة والتنمية الحاكم. ثانيا: لم تكن هذه الاعتداءات عفوية، حتى وإن بدت كذلك، فالتخطيط لها لا تخطؤه العين، سواء بمتابعة الفيديوهات المنشورة، أو الشرائح الأساسية التي اشتركت في الهجمات، والتي كان أغلبها من الفئات العمرية الأقل من 18 سنة، حيث تم الدفع بهم إلى واجهة الأحداث لضمان عدم المساءلة القانونية. ثالثا: مما يقوي الفرضية السابقة، ما كشفه بيان وزارة الداخلية ، عن دور المسجلين جنائيا، في هذا الاعتداءات، حيث لعبوا دورا بارزا في تجنيد وشحن الأفراد إلى أماكن وجود السوريين. رابعا: حرص المحرضون على بث مقاطع مصورة، على مواقع التواصل الاجتماعي، لاعتداءات مماثلة من ولايات مختلفة، نفذتها مجموعات صغيرة من الصبية، لخلق شعورعام بوجود حالة من الفوضى في البلاد خارجة عن سيطرة السلطات. خامساً: سجل معظم المثقفين والصحفيين الأتراك، على اختلاف توجهاتهم السياسية والإيديولوجية، موقفا إنسانيا مشرفا، بإدانة ورفض الهجمات، حتى وإن اختلف بعضهم مع سياسة الدولة تجاه ملف اللاجئين. تحديات إنسانية خلفتها الهجماتلم يكن اليمين المتطرف خيارا مفضلا للشعب التركي في أي انتخابات خلال الفترة الماضية، رغم تركيز دعايته على ملف اللاجئين.
ففي انتخابات عام 2023 الرئاسية والتشريعية، حصل سنان أوغان، المرشح الرئاسي حزب الظفر، على 5.1% أي حوالي مليوني و800 ألف صوت، من مجموع قرابة 61 مليون ناخب.
أما حزب الظفر فقد حصل على 2.4%، وهذه النسبة لم تمكنه من دخول البرلمان.
ثم واصل الحزب هبوطه، فحصل في الانتخابات البلدية التي جرت في مارس الماضي، على نسبة 1.7% فقط.
هذه الأرقام تؤكد بجلاء أن المزاج العام للشعب التركي ليس منسجما مع الأفكار اليمينية المتطرفة المعادية للأجانب، وذلك في لحظات الاختيار العقلانية.
كما أن التركيبة العرقية للمجتمع (أتراك – أكراد – عرب – ألبان – بوشناق – لاظ ) إضافة إلى التنوع الديني وإن بنسبة قليلة ( مسلمون – مسيحيون – يهود)، والتنوع المذهبي (سنة – علويون)، كلها أمور رسخت فيه قبول التنوع، والتسامح مع الآخر المختلف عرقيا أو دينيا أو مذهبيا، شريطة أن يترك المجتمع دون تأثيرات سلبية من السياسيين والإعلام.
لكن وبالرغم من ذلك فإن الذاكرة الجمعية للمجتمع التركي، لا زالت تحتفظ بحوادث مماثلة، تركت ندوبا في الضمير العام للمجتمع حتى الآن.
نذكر منها على سبيل المثال، الاعتداء على الأتراك من أصول يونانية في إسطنبول في سبتمبر/أيلول عام 1955، عقب نشر الصحف أنباء تفيد باستهداف منزل مؤسس الجمهورية، مصطفى كمال أتاتورك، في مدينة سالونيك باليونان.
تلك الشائعة قادت إلى استهداف الأحياء التي يقطنها ذوو الأصول اليونانية، ما أدى إلى سقوط قتلى وجرحى، وتدمير ممتلكات خاصة، وصولا إلى هجرة شبه جماعية خارج تركيا.
من هنا فإن التحدي الماثل أمام العيان، والذي يحذر منه كتَّاب ومثقفون، ألا تتدحرج الأحداث، لتعيد إنتاج ما حدث في 1955 مرة أخرى.
خاصة وأن المجتمع التركي يعيش حالة من الاحتقان نتيجة الأزمة الاقتصادية، التي أثرت سلبيا على المزاج العام.
فالسنوات الأولى للثورة السورية شهدت ترحيبا واسعا بالسوريين، وانتشر مفهوم "المهاجرون والأنصار" على نطاق واسع، لكن حالة من التبدل والتغير لا يمكن إنكارها، يأتي المتغير الاقتصادي في قمة أسبابها.
بالطبع فثمة أسباب أخرى لا يمكن إنكارها، منها تزايد أعداد المهاجرين، وطول أمد الثورة السورية مع عدم وجود حل في المدى القريب، إضافة إلى عدم التصدي للدعايات السوداء بحق اللاجئين، والكثير منها يدخل في إطار الشائعات الممنهجة، وللأسف فإن الذي يتولى كبر نشرها بعض الساسة والإعلاميين المعروفين!
كل هذه العوامل قادت إلى الاعتداءات الأخيرة، والتي ستخصم دونما شك من الصورة الحقيقية لتركيا باعتبارها دولة لا تزال حتى الآن تستضيف ملايين المهاجرين على أراضيها، وتوفر لهم الرعاية والخدمات المختلفة.
لذا فإن مؤسسات الدولة الرسمية والأهلية عليها أن تكثف جهدها لمعالجة هذه التداعيات الإنسانية، خاصة وأن شهادات المواطنين الأتراك بشأن ما حدث ليلة الاعتداءات التي طالت جيرانهم السوريين مروعة ومفزعة
التداعيات الأمنية والإستراتيجيةأعلنت وزارة الداخلية التركية، اعتقال أكثر من ألف شخص على خلفية تلك الاعتداءات، فيما صدرت أوامر الرقابة القضائية بحق العشرات.
هذه الإجراءات رغم أهميتها، إلا أنها ليست كافية، إذ يجب الوصول إلى العقل المدبر والمخطط لها.
فإذا كان هناك منفذون يتحركون على الأرض لدوافع عنصرية، فإن ثمة عقل سياسي يختبئ خلفهم، يخطط جيدا لاستخدام ورقة اللاجئين لتحقيق مآرب سياسية.
فخلال الفترة الماضية تعالت أصوات في المعارضة تطالب بإجراء انتخابات مبكرة، وحيث أن المعارضة لا تملك العدد الكافي برلمانيا لتمرير هذا القرار، فثمة مسلك أخير وهو دفع البلاد إلى الفوضى، أملا في أن يقود ذلك إلى التعجيل بخيار الانتخابات المبكرة.
فالذاكرة الوطنية التركية لا تزال تذكر كيف قاد اقتتال الشوارع بين اليمين واليسار إلى انقلاب 12 سبتمبر 1980 بقيادة الجنرال كنعان إيفرين.
والتداعيات لن تتوقف على الداخل، بل امتدت خارجيا إلى سوريا وخاصة مناطق الشمال، والتي تمثل عمقا إستراتيجيا وأمنيا مهما لتركيا، وقد تابعنا حجم التوتر الأمني الذي ساد تلك المناطق في اليوم التالي مباشرة لهجمات قيصري، ما ولد انطباعا أوليا بوجود تنسيق بين الحدث الأصلي وتوابعه!
في الشمال السوري يمثل الحاضنة الشعبية للمناطق التي تشهد عمليات الجيش التركي ضد تنظيم حزب العمال وفروعه في سوريا مثل وحدات الحماية الكردية.
ومن مصلحة أنقرة إبقاء العلاقة بينها وبين سكان تلك المناطق على استقامتها. في ظل وجود جماعات وتنظيمات مثل تنظيم الدولة "داعش"، وحزب العمال "PKK" من مصلحتها تفخيخ هذه العلاقة.
كما أن الجيش التركي الذي يستعد لعملية عسكرية كبيرة في شمال العراق، وربما الشمال السوري أيضا، ليس في حاجة إلى مثل هذه الأزمات التي قد تشتت تركيزه ومجهوده العسكري الأساسي.
أيضا التداعيات لم تتوقف عند ذلك، بل امتدت إلى الاقتصاد، وخاصة مجالات السياحة والاستثمار والصناعة.
فالهجمات العنصرية في مدينة قيصري الصناعية، حالت دون خروج حوالي 30 ألف عامل سوري من منازلهم، والالتحاق بالمصانع التي يعملون فيها.
من هنا فإن المعالجة المرتقبة للأزمة، يجب أن تشمل حزمة من الإجراءات الناجزة والفاعلة، على جميع المستويات القانونية والأمنية والحقوقية والإنسانية.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات
إقرأ أيضاً:
حرب المعلومات في بولندا.. من المستفيد من نشر الدعاية المعادية لأوكرانيا؟
رغم دعم بولندا الرسمي لأوكرانيا، فإن الخطاب المعادي لها يزداد انتشارًا في البلاد، خصوصًا على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث تنتشر المعلومات المضللة بشكل ملحوظ قبل الاستحقاق الانتخابي، ما قد يؤثر على نتائجها.
ووفقًا لتقرير صادر عن أكاديمية "ديماغوج" المتخصصة في تدقيق الحقائق، فإن الدعاية التي تستهدف تشويه صورة الأوكرانيين في بولندا شهدت تصاعدًا كبيرًا، خصوصًا مع اقتراب الانتخابات الرئاسية لعام 2025.
وتشير البيانات إلى أنه في العام 2024، نُشر ما يقرب من 327,000 منشور وتعليق معادٍ للأوكرانيين في بولندا، معظمها على منصة "إكس"، وبلغت نسبتها 85% من إجمالي المحتوى المعادي لأوكرانيا.
يُعد حزب "الاتحاد" اليميني المتطرف أحد أبرز الفاعلين في نشر الروايات المناهضة لأوكرانيا، إذ عارض سياسيون من الحزب تقديم المساعدات للاجئين الأوكرانيين منذ الأيام الأولى للحرب الروسية الأوكرانية.
ويبني الحزب حملته على منشورات إلكترونية تستند إلى قضايا تاريخية واقتصادية مثيرة للجدل، مثل مذبحة فولين عام 1943، التي ارتكبتها ميليشيات أوكرانية ضد البولنديين، والتي يجري استغلالها لتعزيز المشاعر المعادية للأوكرانيين الذين لجأوا إلى بولندا.
Relatedحصري: واشنطن تسعى إلى إبعاد أوروبا عن صفقة التمويل مع أوكرانيا"عواقب وخيمة".. كيف يؤثر وقف المساعدات الأمريكية على مرضى الإيدز في أوكرانيا؟مظاهرات حاشدة في أوكرانيا تطالب بالإفراج عن أسرى الحرب المحتجزين لدى روسياوتؤثر الحملات ضد الأوكرانيين بشكل مباشر على المشهد السياسي البولندي، حيث أظهرت استطلاعات رأي حديثة، أجرتها صحيفة "وبروست" البولندية، أن سلاومير منتزن، المرشح الرئاسي عن حزب الاتحاد من أجل الديمقراطية والتقدم الاجتماعي والمعروف بخطابه المعادي لأوكرانيا، يحتل المركز الثاني في الترتيب الانتخابي. ومع تنامي الدعم الشعبي للأحزاب اليمينية المتطرفة، أصبح التضليل الإعلامي أحد أقوى أدواتها لتعزيز الحضور السياسي.
التضليل الإعلامي وتأثيره على الرأي العامأثبت تقرير "ديماغوج" أن جزءًا من الحملات المعادية لأوكرانيا يتم إطلاقه عبر شبكات آلية (روبوتات) بهدف خلق توجهات محددة على وسائل التواصل الاجتماعي خلال فترة زمنية قصيرة. كما أشار التقرير إلى أن بعض هذه الروبوتات تتبع شبكات دعائية روسية.
وتعتمد المعلومات المضللة على استغلال المشاعر القومية والقلق الاجتماعي، عبر نشر مزاعم مثل "الأمهات الأوكرانيات يستغلن الرعاية الاجتماعية البولندية"، أو "انتشار الأمراض المعدية القادمة من الشرق"، في إشارة إلى اللاجئين الأوكرانيين.
كما جرى تداول ادعاءات غير صحيحة حول تسمية أحد شوارع وارسو باسم ستيبان بانديرا، وهو زعيم أوكراني مثير للجدل، رغم أن هذه المعلومات غير صحيحة.
دور روسيا في توجيه التضليل الإعلامييؤكد مختبر EUvsDisinfo Lab والمنتدى الاقتصادي العالمي أن بولندا من بين الدول الست التي صنّفت التضليل الإعلامي كأحد أخطر التهديدات خلال العقد المقبل. وغالبًا ما تأخذ هذه الحملات شكل عمليات منظمة تهدف إلى زعزعة الثقة بالمؤسسات وتقسيم المجتمع.
وأحد أبرز الأمثلة على هذه العمليات كان مشروع Doppelgänger، وهو حملة تضليل روسية استهدفت دولًا أوروبية مثل فرنسا وألمانيا وبولندا، بالإضافة إلى الولايات المتحدة، بهدف التأثير على نتائج الانتخابات وتقويض الدعم الموجه لأوكرانيا.
Relatedما هي الدول الأوروبية التي ستشارك في "تحالف الراغبين" من أجل أوكرانيا؟أوكرانيا تجدد رفضها دخول مفتشي الطاقة الذرية إلى زابوروجيا عبر الأراضي المحتلةكيف تتطور التجارة بين الاتحاد الأوروبي وأوكرانيا؟واعتمدت العملية على إنشاء مواقع إلكترونية زائفة تنتحل هوية وسائل إعلام مرموقة مثل "لوموند" و"دير شبيغل" و"فوكس نيوز" لنشر أخبار مفبركة تهدف إلى ضرب مصداقية الاتحاد الأوروبي والحد من دعم كييف.
من يقف وراء حملات التضليل؟تتعدد الأطراف المسؤولة عن نشر المعلومات المضللة، فقد تكون جهات سياسية تسعى إلى استغلال الانقسامات المجتمعية لتحقيق مكاسب انتخابية، أو قوى معادية تحاول التأثير على نتائج الانتخابات. ومع ذلك، فإن تتبع المسؤولين عن هذه الحملات يظل أمرًا بالغ الصعوبة.
يقول أليكسي شيمكيفيتش من أكاديمية "ديماغوج": "طالما لا نملك دليلًا قاطعًا، لا يمكننا تصنيف كل عملية على أنها تضليل إعلامي أو حملة منسقة. لكن في حالة Doppelgänger، تمكنّا من إثبات ذلك بوضوح، حيث أظهرنا في تقريرنا روابط مباشرة مع روسيا.
ويُضيف: "مثال آخر هو انتشار نظريات المؤامرة حول برنامج HAARP وتأثيره المزعوم على تغير المناخ. في هذه الحالة، كشف تقرير لحلف الناتو عن صلات بين هذه الحملة والصين، كما أشار إلى كيفية استغلال روسيا لهذا المحتوى".
Go to accessibility shortcutsشارك هذا المقالمحادثة مواضيع إضافية كوستا: المجر تعزل نفسها داخل الاتحاد الأوروبي بعد اعتراضها على بيان دعم أوكرانيا زعماء أوروبا يسابقون الزمن لمناقشة مستقبل أوكرانيا قبل أن يباغتهم ترامب بعقد اتفاق سلام مع روسيا "لن نغفر أبدًا"… أرامل أوكرانيا يحوّلن الحزن إلى فن الكرملينأوكرانيابولنداتضليل ـ تضليل إعلاميخطاب الكراهيةإنترنت