وأنا أتابع المآسي الناتجة عن المعارك الدائرة في السودان بين فصيلين سودانيين، والثمنَ الباهظ الذي دفعه السودانيون من جراء ذلك، تذكرتُ تصريحًا للرئيس الأوغندي الراحل عيدي أمين، بطل الملاكمة السابق، عندما عرض على ألدِّ أعدائه الرئيس التنزاني جوليوس نيريري، تسويةَ خلافاتهما في حلبة الملاكمة، بدلًا من إدخال الشعبين التنزاني والأوغندي في متاهات الحروب، التي هما في غنى عنها، وأتصور أنّ هذا الاقتراح هو الأنسب لعبد الفتاح البرهان رئيس المجلس السيادي السوداني، ومحمد حمدان حميدتي قائد قوات الدعم السريع في السودان؛ فعندما يتقابلان على حلبة الملاكمة أو المصارعة، فإنهما بذلك سيحقنان دماء السودانيين الأبرياء، وسيوِّفران الكثير للشعب السوداني الذي يدفع الثمن غاليًا في المنافي الداخلية والخارجية.
بعد مرور أكثر من عام على حرب السودان، تزداد معاناة ملايين السودانيين الفارين من جحيم الأوضاع الكارثية، وهي المعاناة الأسوأ على مدار تاريخ كلّ الحروب التي شهدتها القارة السمراء، ولعل الصديق الصحفي السوداني أحمد قاسم البدوي، كان دقيقًا في وصف حالة هؤلاء، في تقرير عنونه لموقع «تسامح نيوز» بـ«النازحون السودانيون: رحلة الفرار من الموت إلى الموت».
غطت أخبار غزة على ما يجري في السودان، الذي تُرك يواجه مصيره بمفرده، مع بعض التدخلات العربية لطرف على حساب طرف آخر، ولكن هل انتبه العرب إلى أنّ ما يعادل ربع سكان السودان قد فرّوا من مساكنهم، حسب إحصائية جديدة بشأن النازحين واللاجئين في السودان؟! التفاصيل التي نقلتها وكالة «أسوشيتد برس» عن المنظمة الدولية للهجرة التابعة للأمم المتحدة، تشير إلى أنّ حوالي ثمانية ملايين شخص فرّوا من منازلهم جراء الحرب في السودان، وأنّ عدد النازحين داخليًّا وصل إلى أكثر من عشرة ملايين شخص، ولجأ أكثر من مليوني شخص إلى الخارج، معظمهم إلى تشاد وإفريقيا الوسطى وجنوب السودان ومصر وكينيا، والحالة كهذه فإنّ الهجرة والنزوح لا يخلوان من المخاطر، إذ حذرت وكالة الغذاء التابعة للأمم المتحدة الأطراف المتحاربة من وجود خطر جدي من انتشار المجاعة والموت على نطاق واسع في منطقة دارفور الغربية وأماكن أخرى في السودان، إذا لم تسمح بدخول المساعدات الإنسانية، حيث الاحتياجات الإنسانية «ضخمة وحادة وفورية».
في تقريره يرسم أحمد قاسم البدوي صورة قاتمة السواد للاجئين إلى مصر - وهو واحدٌ منهم، بعد أن خاض التجربة مع والدته وبعض أهله - ففي الوقت الذي ترتفع فيه وتيرة النزاع المسلح بين قوات الجيش السوداني وقوات مليشيا الدعم السريع، تحوّلت المدن المأهولة بالسكان إلى مدن أشباح، تفوح منها رائحة الموت والدمار، ويلوذ منها الناجون بأرواحهم فرارًا من مصير مجهول إلى مصير آخر لا يقل سوءا، وعن اختيار السودانيين للجوء شمالًا يذكر البدوي أنه في الوقت الذي يعيش فيه آلاف النازحين السودانيين أوضاعًا مأساوية على تخوم غابات إقليم الأمهرة الأثيوبي، بعد أن احتجزتهم السلطات الأثيوبية هناك، يفضِّل غالبية السودانيين من ضحايا الحرب رحلة الفرار شمالًا إلى مصر، ولكن مع ذلك فإنّ تلك الرحلة لا تخلو من المخاطر بأيِّ شكل كان، ويدلل على ذلك بما أظهرته أرقام الموت المختلفة، خلال أسبوع واحد فقط؛ ومنها وفاة أسرة سودانية كاملة في حادث سير في الطريق إلى أسوان، وغيرها من حوادث الموت عطشًا تحت ضربات الشمس الحارقة في قلب الصحراء.
في ظروف كهذه، تنشط بعض الجماعات التي تستغل الظروف والتي تعمل دون ضمير، للاستفادة من الوضع بإدخال السودانيين إلى مصر بطرق غير مشروعة؛ لذا - كما يقول البدوي - يتعرض العديد من المهاجرين بهذه الطرق إلى حوادث مختلفة، وشهدت مستشفيات مدينة أسوان استقبال العديد من حالات الحوادث، إلى جانب امتلاء مشرحة مستشفيات أسوان بالموتى السودانيين، وكشفت تقارير صحفية أنّ جملة الوفيات في أسبوع واحد بلغت ٢٤ حالة، (لحظة كتابة المقال) هذا فضلا عن حالات أخرى في الطريق إلى مستشفيات أسوان، ممَّا جعل القنصلية السودانية هناك تطلق تحذيرًا لمواطنيها ورعاياها من خطورة الدخول إلى مصر بطرق غير شرعية، لما يعرِّضهم للخطورة والمساءلة القانونية، عدا الحوادث المرورية للمركبات المستعملة في التهريب، والتعرض للنهب والابتزاز من قبل عصابات تهريب البشر، وهو ما يعرّضهم أيضًا لمخالفة القانون المصري. وما لم يذكره القنصل هو أنّ هؤلاء كانوا أمام خيارين أحلاهما مُر، فلا أمان في السودان وقد شهدت عمليات القتل والنهب والانتقام، وليس أمامهم إلا الهروب.
وإذا كان البدوي قد تناول تجربته ومشاهداته عن اللاجئين السودانيين إلى مصر، فماذا إذا قرأنا عن مأساة المهاجرين إلى الداخل وإلى ليبيا وتشاد وإفريقيا الوسطى وأثيوبيا؟ بالتأكيد هي ليست أقل مأساوية؛ فالإنسان يعيش دائمًا على أمل، لذا نجده يهرب من الموت إلى موت قد يكون أشدَّ إيلامًا، رغم أنّ طعم الموت واحد.
وبعيدًا عن المآسي الإنسانية، فإنّ الكاتب والصحفي السوداني عزمي عبد الرازق، يرسم - في مقال نشره في موقع «الجزيرة نت» - صورة قلمية محزنة عن حال العاصمة السودانية الخرطوم، التي لم تعد كما كانت؛ فلا شيء مما تبقّى فيها يدلّ على أنها هي الخرطوم، عروس النيلَين، بعبقها وأصالتها، فيتعذّر التعرُّف عليها، بعد تدمير الكثير مِن معالمها الأثرية النادرة أو محوها بالكامل، حيث أصاب الدمار متحف الخرطوم الطبيعي، الذي نفقت فيه كلُّ الحيوانات والطيور نفوقًا بطيئًا، بسبب العطش والجوع، ولا توجد منه عيّنات أخرى في السودان.
عندما يفقد الوطن - أيّ وطن - الأمن والسلام، لا بد أن يحنّ للأيام الخوالي، التي كان الناس يعيشون فيها في أمان، والمثير للانتباه أنّ هذا ما حدث في العراق وليبيا وسوريا واليمن، ممّا يؤكد أنّ البديل كان أسوأ ولهذا السبب ثار الناس.
إنّ الأوضاع اللا إنسانية التي يحياها ملايين السودانيين جراء الحرب بين فصيلين أو شخصين، تنذر بمزيد من المآسي والدمار وتشتيت الشعب السوداني في المنافي الداخلية والخارجية. ويتساءل الكثيرون عن نهايات الحرب، و«الكثيرون» المقصودون هنا هم «السودانيون»، لأنّ العرب - على ما يبدو - لا يأبهون بما يحصل في السودان ولا في غزة، ولا في غيرهما من البلدان العربية؛ ولكن - رغم تفاؤلي الدائم - فإني لا أرى ضوءا في النفق، لأنّ هناك من يغلب مصلحته الشخصية على مصلحة الوطن، والنتيجة هي أنّ البلد الواحد يصبح أكثر من بلد، ويصبح لكلِّ إقليم أو ولاية أو محافظة قطعة قماش ترفرف في الهواء تُسمى «عَلَمًا»، وهذا ما حدث في أكثر من بلد عربي، وأستذكر هنا ما قاله السلطان قابوس -طيب الله ثراه-: «إنّ وجود نظام قوي في أيِّ بلد، أفضل من وجود نظام ضعيف»، وهذه حقيقة، ولكن كيف إذا كان النظام أصلًا ضعيفًا ولكنه مرتهنٌ بالخارج، ينفذ أجنداته فقط؟ أليس في ذلك دمار للوطن؟!
زاهر المحروقي كاتب عماني مهتم بالشأن العربي ومؤلف كتاب « الطريق إلى القدس»
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فی السودان أکثر من إلى مصر
إقرأ أيضاً:
شاهد الشخص الذي قام باحراق “هايبر شملان” ومصيره بعد اكتشافه وخسائر الهايبر التي تجاوزت المليار
مقالات مشابهة مفاجئ.. ماذا يحدث حول العالم أثناء اكتمال القمر بدراً؟
17 ساعة مضت
مساعي رسمية لإجبار “غوغل” على بيع متصفّحه “كروم” .. ما القصة؟17 ساعة مضت
المغرب يتصدر في صناعة السيارات.. تصدير أكثر من 700 ألف سيارة سنويا تصل إلى 70 دولة17 ساعة مضت
هام.. كيف تكتشف الأخبار الكاذبة والمعلومات المضللة وتتجنب الانخداع بها17 ساعة مضت
اختراع مذهل.. كرات زجاجية تنتج الطاقة من ضوء القمر وتولد ما يعادل 4 أضعاف من الكهرباء التي تنتجها الألواح الشمسية الحاليّة17 ساعة مضت
الإنذار المبكر: انخفاض الرؤية الأفقية وهطول أمطار متفرقة على 13 محافظة خلال الساعات القادمة19 ساعة مضت
شاهد لحظة احراق هايبر شملان ومصير الشخص الذي ظهر في الفيديو وخسائر الهايبر التي تجاوزت المليار.
قالت مصادر إعلامية متطابقة أن شرطة محافظة صنعاء تمكنت من التعرف على هوية المتهم بإشعال الحريق في مركز “هايبر شملان” التجاري الخميس المنصرم وتم إلقاء القبض عليه.
صورة الشخص المتهم باحراق هيبر شملان بعد القبض عليهوبحسب المصادر الإعلامية فقد قدرت الخسائر الناتجة عن الحريق بمليار ونصف المليار ريال يمني ولا تزال الإجراءات مستمرة للتحقيق في الأسباب والدوافع وراء ارتكاب هذه الجريمة.
كاميرا مراقبة توثق الشخص الذي قام باحراق هيبر شملان ومصادر تؤكد القبض عليه pic.twitter.com/LZqXmXCZcD
— اخبار اليمن العاجلة (@newsyemeny) November 23, 2024وكانت مصلحة الدفاع المدني قد أكدت في وقت سابق أن هذا المركز التجاري يفتقر إلى منظومة الأمن والسلامة العامة، كما لا يوجد لديه فريق مدرب على كيفية مواجهة الحريق وطرق إخماده.
وجددت مصلحة الدفاع المدني دعوتها لجميع المراكز والمولات التجارية للمسارعة في توفير منظومات الأمن والسلامة العامة، وتدريب العاملين على التعامل مع الكوارث، حفظاً للأرواح والممتلكات.
ذات صلة السابق مفاجئ.. ماذا يحدث حول العالم أثناء اكتمال القمر بدراً؟اترك تعليقاً إلغاء الرديجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.
آخر الأخبار شاهد الشخص الذي قام باحراق “هايبر شملان” ومصيره بعد اكتشافه وخسائر الهايبر التي تجاوزت المليار 3 دقائق مضت مفاجئ.. ماذا يحدث حول العالم أثناء اكتمال القمر بدراً؟ 17 ساعة مضت مساعي رسمية لإجبار “غوغل” على بيع متصفّحه “كروم” .. ما القصة؟ 17 ساعة مضت المغرب يتصدر في صناعة السيارات.. تصدير أكثر من 700 ألف سيارة سنويا تصل إلى 70 دولة 17 ساعة مضت هام.. كيف تكتشف الأخبار الكاذبة والمعلومات المضللة وتتجنب الانخداع بها 17 ساعة مضت اختراع مذهل.. كرات زجاجية تنتج الطاقة من ضوء القمر وتولد ما يعادل 4 أضعاف من الكهرباء التي تنتجها الألواح الشمسية الحاليّة 17 ساعة مضت الإنذار المبكر: انخفاض الرؤية الأفقية وهطول أمطار متفرقة على 13 محافظة خلال الساعات القادمة 19 ساعة مضت درجات الحرارة المتوقعة خلال ال24ساعة القادمة في جميع مناطق اليمن ليوم الجمعة 22 نوفمبر 2024 يومين مضت تحذيرات هامة للجميع.. السعودية تعلن عن عقوبة مشددة عند عدم إظهار الهوية الوطنية أو هوية مقيم في هذه الأماكن يومين مضت انهيار متسارع في سعر صرف الريال اليمني ومحلات الصرافة تفاجئ الجميع وتكشف سعر الصرف الجديد في صنعاء وعدن يومين مضت لأنهم طالبوا بمرتباتهم.. قائد القوات المشتركة في مدينة عتق يمنع المعلمين المطالبة بصرف مرتباتهم ويثير موجة غضب واسعة وهكذا كانت ردة فعلهم! (فيديو + صور) 3 أيام مضت الذهب يباغت الجميع والأسعار تقفز من جديد.. سعر جرام الذهب الآن 3 أيام مضت © حقوق النشر 2024، جميع الحقوق محفوظة | لموقع الميدان اليمني