يوم الجمعة الموافق 16 فبراير/شباط 2024، كانت مراسم "جاهة" في الأردن تمر بشكل طبيعي مثلها مثل كل الجاهات التي تجري كل يوم في البلاد. ذهب الشاب ليطلب يد فتاة من أهلها مصطحبًا أهله وعزوته. وبينما كان الحاضرون يتناقشون ويتعارفون استعدادًا لقراءة الفاتحة واستكمال مراسم الخطبة، توقف أحد الحاضرين ليقول بصوت عال "لا صوت يعلو فوق صوت أبي عبيدة"، إذ وصل خبر أن الناطق الرسمي باسم كتائب القسام قد بدأ في بث خطابه.

التُقطت المقاطع المصورة لرجال الجاهة وهم جالسون وقد توقفوا عن كل شيء لينصتوا لكلمة الملثم.

حينها، كان قد مر 33 يومًا على آخر خطاب لأبي عبيدة، للدرجة التي دفعت المتابعين للتعبير عن خشيتهم من أن يكون قد استشهد، وقد كان هذا الخطاب بعد مرور 133 يوم على ما يصفه عدد من الخبراء والمراقبين بحرب الإبادة، التي شنها وما يزال جيش الاحتلال الإسرائيلي على غزة. لقد طل أبي عبيدة بطريقته المعتادة الحاسمة، وقد كان لحديثه نفس الأثر الذي اعتاد أن يتركه في مستمعيه منذ بداية الحرب. أما اليوم، في السابع من يوليو/تموز، لم يتغير حجم الترقب والاهتمام بكلماته، إذ وفور إعلان الجزيرة عن بث كلمة مصورة قد حصلت عليها، حتى وطّن المتابعون أنفسهم لمتابعة ما استجد، مترقّبين أقواله وتصريحاته وإعلاناته. أما السؤال القديم المتجدد، هو كيف استطاعت أيقونة أبي عبيدة أن تظل راسخة وقادرة على التأثير إلى هذا الحد حتى بعد كل هذا الدمار الذي تسببت فيه آلة الإبادة الصهيونية؟

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2الشيطان في المتاهة.. لماذا تتساقط روبوتات إسرائيل في أنفاق غزة؟list 2 of 2احتكار القتل في فلسطين.. هل يمتلك أحد الحق في قتلنا؟end of list

 

وهذا الأثر

قبل أكثر من 66 عاما، في السابع من أكتوبر/تشرين الثاني عام 1957، كانت القوات المظلية للاحتلال الفرنسي في الجزائر، التي اشتهرت بقسوتها المفرطة، قد اكتشفت أخيرا مخبأ بطل الثورة الجزائرية المقاوم "علي لابوانت" الذي دوَّخ الاستعمار. مباشرةً، وفي اليوم التالي، توجَّهت القوات الفرنسية نحو المنزل الذي كان يختبئ فيه رفقة مقاومين آخرين، وطلبت منه الاستسلام مقابل حياته. علي، الذي كان قد خطَّ وشما على جسده يقول "تقدَّم أو مُت"، رفض نداء جنود الاستعمار وفضَّل الموت مقاوما على الاستسلام، فنسفت القوات الفرنسية المنزل بأكمله وأردته شهيدا مع رفاقه. استشهد علي وهو مُصنَّف آنذاك "إرهابيا" من قبل الفرنسيين، وانضم إلى ركب أكثر من مليون ونصف مليون شهيد قدَّمتهم الجزائر على مدار أكثر من مئة عام في مقاومة الاستعمار الفرنسي.

لم يكن علي يعرف حين فضَّل الموت على الاستسلام أنه بعد عام واحد من استشهاده، سترضخ فرنسا وسيعلن زعيمها آنذاك شارل ديغول في يونيو/حزيران 1958 عن رغبة فرنسا في المصالحة مع الشعب الجزائري والتفاوض مع المقاومين. ولم يكن علي ليتخيل أنه بعد أقل من 10 سنوات سيختار المخرج الفرنسي جيلو بونتيكورفو أن يحكي قصة الثورة الجزائرية من خلال قصة حياته، في واحد من أشهر الأفلام عالميا "معركة الجزائر"، وأنه في كل مرة ستخرج فيها المظاهرات في الجزائر على مدار العقود اللاحقة ستُرفَع صورة علي لابوانت هاتفة بأنها تريد الجزائر التي حلم بها علي وضحى لها شهيدا. هكذا هُم المقاومون من أجل قضايا التحرر الوطني العادلة، كلما أُمطِروا بالرصاص؛ علا ذكرهم بين الناس.

اليوم، نرى مشهدا مماثلا، فبينما تُصنف الدول الكبرى حركات المقاومة الفلسطينية باعتبارها منظمات إرهابية، وبينما تستعِر حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة، نرى أفئدة الناس تهوي إلى فلسطين، ليكتب الناس عربا وعجما على صفحاتهم الشخصية في وسائل التواصل الاجتماعي عن حبهم للمقاومة وتقديرهم لرجالها. كان الحب والشوق يفيضان من الشارع في انتظار معرفة أول مقاوم كي يصب عليه الناس كل هذا التقدير. وبينما جلست الجماهير تنتظر "رسول المقاومة"، جاء أبو عبيدة، المتحدث العسكري باسم كتائب الشهيد عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، ناقلا أخبار صمود المقاومة وانتصاراتها، فتحوَّل من متحدث إعلامي باسم حركة مسلحة، إلى رمز لكل مقاوم؛ إذ نجد صورته في مواقع الأخبار وعلى حسابات التواصل الاجتماعي وفي الغرافيتي في الشوارع وحتى في ساحات "أرقى جامعات العالم".

قبل السابع من أكتوبر/تشرين الثاني 2023 كانت القضية الفلسطينية قد تأخرت على سلم أولويات العالم، إذ كانت اتفاقات التطبيع تجري على قدم وساق مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، وكانت الولايات المتحدة الأمريكية قد بدأت تأخذ خطوات في السنوات الأخيرة لإتمام صفقة تقضي على حقوق الفلسطينيين، بعد أن تراجعت حتى عن موقفها التاريخي بخصوص مدينة القدس ونقلت سفارتها من تل أبيب إلى القدس، اعترافًا منها بأحقية دولة الاحتلال بالمدينة.

وفي عصر يلهث فيه الجميع وراء الشهرة، جاءت النجومية الكاملة إلى ذلك الرجل المُلثَّم، الذي أصبحت شعبيته مع بداية الحرب -من دون منافس- بطول العالم العربي كله، رغم أن حدا لا يعرف وجهه الحقيقي وربما لن يعرفه أبدا، باستثناء أفراد قليلين من قادة المقاومة في غزة. فالرجل الذي يمشي بين الناس في القطاع بوجهه من دون أن يتعرف عليه أحد، يبدو في نظر الكثيرين مثل "الأبطال الخارقين" الذين يعيشون حياة عادية في الصباح، قبل أن يرتدوا أقنعة تخفي هوياتهم في المساء ليحاربوا "أشرار المدينة"، دون أن يرى الناس وجوههم الحقيقية، لكنهم يرون آثارهم فقط.

قناع أبي عبيدة والجهل بهويته يُصعِّب على الإعلام الغربي ما يقوم به عادة، إذ اعتاد أن يُقدِّم قادة المقاومة على أنهم يعيشون في الخارج بينما يموت الناس في غزة
(الجزيرة)

رأت الشعوب العربية مع اندلاع الحرب في أبي عبيدة ناطقا باسمها هي أيضا، إذ صعد نجم الرجل حتى صار انتظار خطاباته طقسا أساسيا في البلاد العربية، مع ارتباط عاطفي واضح به، تحوَّل معه إلى الأيقونة الأشهر للحرب منذ بدايتها. ففي مصر كُتِبَت لأبي عبيدة أغان شعبية، وفي الأردن توقف الشباب في الصالات الرياضية عن أداء التمارين لمتابعة خطاباته وأذاعت المساجد خطاباته بمكبرات الصوت، وفي لبنان أُضيف اسمه إلى أسئلة الامتحانات في المدارس، كما انتشرت صوره في شوارع بيروت وقد كُتب عليها "الناطق باسم الأمة"، وتنافس الأطفال في الجزائر على تأدية دوره في مسرحياتهم وألعابهم. وفي تركيا صار تقليد أبي عبيدة لعبة مفضلة للأطفال فضلا عن تعليق صوره في المقاهي. وقد انتشرت الصور على مواقع التواصل الاجتماعي لأطفال من مختلف البلدان العربية وهم يتابعون خطاباته أو يقلدونه، وكذلك صور أخرى لمسنّين يقفون بإجلال رغم مرضهم وهم يُشاهدون خطابه احترامًا له.

أصبح أبو عبيدة أيقونة عربية، ومع ذلك تجاهل الإعلام الغربي ظاهرته عن عمد، فليس من الممكن أن تفوِّت الصحافة الأمريكية والأوروبية مناقشة ظاهرة شديدة الحضور مثل أبي عبيدة. وربما كان هذا تعلُّمًا من خطأ المؤسسات الإعلامية الكبير في تحويل الأيقونة الثورية اليسارية تشي جيفارا إلى رمز يغزو الثقافة الغربية في كل أرجائها، ويُستحضَر عند أي غضب أو انتقاد للرأسمالية والعولمة. ويشرح أستاذ القانون في جامعة ولاية أريزونا خالد بيضون، أن العالم في ظل الهيمنة الأميركية قد تم تكييفه على أساس التطبيع مع موت المسلمين، بينما يُنظر فيه إلى أي معاناة تلحق بالبيض بوصفها وضعا شاذا وغير مقبول، ومن ثم فحتى أعمال المقاومة والتحرر الوطني والبطولة، وإن اتسمت بكل الشرعية الأخلاقية، دائما ما يُنظَر إليها بريبة وخوف إذا قام بها مسلمون.

ويُذكِّرنا بيضون بما قاله رموز حركة النضال المدني في الولايات المتحدة مثل جيمس بالدوين ومالكوم إكس من أن العنف والبطولة يترادفان في اللاوعي الأميركي، إلا عندما يتعلق الأمر بالسود. فالعنف يُبرَّر باعتباره عملا بطوليا عندما تمارسه أجساد بيضاء (جدير بالذكر هنا مثلا المقاومة الأوكرانية)، بينما تُحرَّم "البطولة" على الأجساد السوداء والمسلمة حتى حين يسعون لتحقيق أهداف عادلة. ولذا فإن التعريف المفاهيمي الغربي في حالة المسلمين لا يكون بالفعل وإنما بالذات التي صاغها الغرب من خلال قوالبه مسبقا، فالمُلوَّن ليس بطلا مهما كانت عدالة قضيته، والمسلم ليس له بريق مهما كانت كاريزميته. ومن ثَمّ يكون الصمت الإعلامي الغربي عن ظاهرة أبي عبيدة مفهوما. فماذا سيقولون عنه للجماهير؟ هل سيقولون إنه شخص مجهول اكتسب شعبية جارفة في العالم العربي لأنه يتحدث باسم المقاومة المسلحة ضد احتلال بلاده؟

تهيأت الظروف لتجعل التواصل الإعلامي من خلال أبي عبيدة الأنجح على الإطلاق في تاريخ تواصل الجيوش مع شعوبها في العالم العربي (الفرنسية)

لاحظ هنا أن قناع أبي عبيدة والجهل بهويته يُصعِّب على الإعلام الغربي ما يقوم به عادة، إذ اعتاد أن يُقدِّم قادة المقاومة على أنهم يعيشون في الخارج بينما يموت الناس في غزة، لكنه لا يذكر أبدا أن أبناءهم يموتون في القطاع مثل بقية سكانه، كما يتجاهل الإعلام الغربي أيضا ذكر الأسباب الموضوعية لوجود هؤلاء القادة في الخارج. ولكن في حالة أبي عبيدة سيكون من الصعب استغلال أنصاف معلومات لبناء سردية مضادة تَحُول بين المشاهد أو القارئ وبين فهم الطبيعة العميقة للصراع، ومن ثَمّ فمن السهل أن يتحوَّل الملثم، الذي يجهل الناس هويته أصلا، إلى رمز للبطولة في وجه الإمبريالية.

لنعُد هنا إلى الحديث عن صمود رمز أبي عبيدة طوال تلك الشهور بما فيها من آلام وليالٍ حالكة. بعد 10 أيام فقط من حرب الإبادة الجماعية التي شنتها دولة الاحتلال على سكان غزة، كان حجم ما ألقته من متفجرات على القطاع يوازي ربع قنبلة نووية، وبحلول نهاية أبريل/نيسان، كان عدد ضحايا حرب الإبادة قد تعدى 35 ألفا. ولتوضيح الأمر لنا أن نعرف أن اليابان في الحرب العالمية الثانية، التي تزيد مساحتها على مساحة غزة بنحو ألف ضعف، استسلم نظامها الشرس بعد إلقاء قنبلتيْن نوويتيْن، أما المقاومة الشعبية في بلد محروم من السيادة الحقيقية، وفي جيب جغرافيّ صغير مُحاصر، فلا تزال صامدة رافضة للاستسلام ومدافعة عن الحق التاريخي لشعبها لا عن نظام حُكم.

لقد كان منطقيا أن يكتسب أبو عبيدة كل هذا الزخم في الشارع العربي في بداية طوفان الأقصى، فالنجاح الذي تحقق في العملية جعل القلوب ترتبط بالمقاومة، لكن الغريب أن أبا عبيدة لا يزال رمزا حتى اللحظة بعد كل التضحيات التي قدَّمها الفلسطينيون. فلا يزال بكلمة "الأردن منا ونحن منه" قادرا على تحريك الشارع في الأردن وإعطاء زخم مختلف للمشهد السياسي، بل وقد التقطت صور في العاصمة الأردنية لحفل خطوبة توقف فيه الأهل والضيوف عن الاحتفال ليستمعوا إلى كلمة لأبي عبيدة عبر مكبرات الصوت. وفي العاصمة العُمانية مسقط التُقطت صور لشباب تجمعوا قرب مسجد السلطان قابوس ليستمعوا إلى الخطاب، فضلا عن مشاركات لا حصر لها على وسائل التواصل الاجتماعي في العالم العربي.

أصبح واضحا أن أبا عبيدة صار رمزا معبرا عن صوت المقاومة لم تكسره قوة تفجيرية تجاوزت ثلاث قنابل نووية، ولا يزال قادرا حتى بعد كل تلك التضحيات والليالي الحالكة على حشد اهتمام العالم العربي. لقد تهيأت الظروف لتجعل التواصل الإعلامي من خلال أبي عبيدة الأنجح على الإطلاق في تاريخ تواصل الجيوش مع شعوبها في العالم العربي، حتى وصل الأمر إلى تحوُّل الناطق العسكري لأيقونة في حد ذاته تمثل قيم المقاومة والكرامة والاستقلال.

مشاهدة جماعية لخطاب #أبو_عبيدة في أحد باصات الطلبة في جامعة آل البيت بمدينة المفرق في #الأردن#الأردن_منا_ونحن_منه pic.twitter.com/Y6NmMZInzn

— رضا ياسين Reda Yasen (@RedaYasen2021) April 23, 2024

النجاح الإعلامي للمقاومة

لقد كانت البداية الحقيقية لقصة أبي عبيدة مع الشارع العربي في يونيو/حزيران 2006، حين أعلن عن نجاح المقاومة في تنفيذ عملية "الوهم المتبدد"، التي أدت إلى قتل جنديين من جيش الاحتلال، وجرح اثنين آخرين، وأسر الجندي جلعاد شاليط. وقد جاء خطاب أبي عبيدة بعد أيام من المقطع المُصوَّر الذي أبكى العَرَب للطفلة هدى التي أخذت تجري بين جثث عائلتها تنادي "يا بابا يا بابا" على إثر المجزرة التي ارتكبتها دولة الاحتلال في شاطئ منطقة بيت لاهيا، واستشهد جرّاءها الأب "عيسى غالية" وزوجته "رئيسة" وأبناؤهم الخمسة.

أتى صوت أبو عبيدة الحازم مُعلِنا عن نجاح عملية المقاومة أشبه بعناق مواساة للأمة العربية والإسلامية وإعلان صريح عن أن الكرامة لم تمت، وكأن خطابه يقول: "للبيت رب وللطفل أب"، وتتابعت الأحداث حتى وصلنا إلى حرب السابع من أكتوبر/تشرين الثاني 2023 التي تحوَّل معها إلى بطل الجماهير العربية، التي شعرت بأن هذا زعيمها الملهم الحقيقي الذي أرادته ولم تجده منذ سنوات بعيدة. بمعنى آخر، فإن رمزية أبي عبيدة لا تكمن في أنه متحدث بارع يمتلك ناصية التواصل الإعلامي بقدر ما تكمن في أنه كان تجسيدا في العقل العربي للمقاومين على الأرض ولسانا فصيحا لهم. إن ما جعل أبا عبيدة يكسب كل تلك الشعبية التي لم تكتسبها بالقدر نفسه بعض الكوادر السياسية للمقاومة، هو أن الشعب العربي استشعر في خطابه أنه ليس سياسيا بقدر ما رأى فيه شاعرا يعبر بموسيقى الكلمات عن الملحمة التي يخطها المقاومون في المعارك.

وربما تظهر هنا البراعة الإدارية للمقاومة، فسرعان ما تفهمت المقاومة أن أبا عبيدة قد تحوّل إلى رمز بحد ذاته وليس ناطقا عسكريا فحسب، وقد ارتبطت به الشعوب العربية كما لم ترتبط بأحد من قبل. ولذا احترمت المقاومة هذه المشاعر العربية فأجادت التعامل مع أيقونة أبي عبيدة، إذ حرصت من جهة على حياته حرصا كبيرا، ومن جهة أخرى حرصت على ألا يتم استهلاكه تماما حتى لا يفقد حضوره معناه، فأصبحت المقاومة تتخير اللحظة المناسبة لظهوره، بحيث يكون ظهوره نادرا فتزيد فاعليته، خاصة أن الكثير من العرب أصبحوا يعتبرونه دواءً قادرا على إشعال الأمل مهما بدت الليالي حالكة.

أصبح أبو عبيدة رمزا مؤثرا إلى حد أبعد بكثير من مجرد كونه الناطق العسكري. فهو أحد أهم المطلوبين في قوائم الاغتيالات لدى دولة الاحتلال، ورغم أن إعلان وزارة الخزانة الأمريكية أثناء هذه الحرب عن إصدار عقوبات بحقه قد أثار سخرية واسعة لأن العقوبات تكون متعلقة عادة بمصادرة وحظر ممتلكات الشخص أو مصالحه داخل الولايات المتحدة، وأبو عبيدة في النهاية رجل اختار أن يعيش وسط الحرب والتضحيات؛ فإن اهتمام واشنطن بإدراجه في قائمة العقوبات يعني انتباهها لأهميته.

جدير بالذكر أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تهتم على الإطلاق بإدراج محمد سعيد الصحاف، على سبيل المثال، الذي أدار الحرب من ناحية نظام صدام حسين على المستوى الإعلامي وقت الغزو الأمريكي للعراق، في قائمة المطلوبين لديها ولم تهتم به كشخص ينبغي الانتقام منه أو تعقبه، ووفق روايته الشخصية فقد سلم نفسه للجيش الأمريكي ثم سُمح له بالمغادرة. لكن يبدو أن الأمر مع أبو عبيدة مختلفًا فهو أكثر من مجرد ناطق باسم نظام أو فصيل، وإنما بات رمزا شعبيا للمقاومة.

لا يعرف أحد معلومات وافرة دقيقة عن شخصية أبي عبيدة، فحتى القائد العام لكتائب القسام "محمد ضيف"، المطلوب الأول لدولة الاحتلال، نعرف بعض تاريخه، ويعرفه الاحتلال الذي اعتقله، وله صور قديمة نادرة. أما أبو عبيدة، فلا تتوفر حتى صور قديمة موثوقة للرجل في بداية حياته. فحين ظهر في البداية وبدأت شعبيته تتسع، تجاهلته إسرائيل، لكنه أصبح مع مرور السنوات من أهم المواضيع التي تتناولها البرامج التلفزيونية الإسرائيلية، وصارت كل خطاباته تُترجَم سريعا في وسائل إعلام الاحتلال. ومع تزايد اهتمام دولة الاحتلال بشخصية أبي عبيدة واعتباره أحد أهم المطلوبين في قوائم الاغتيالات لديها بسبب الحرب الإعلامية والنفسية التي يقودها، بدأت تل أبيب تنسج روايتها عنه وادَّعت أنها تعرف اسمه وصورته، كما زعمت أكثر من مرة في أعوام 2008 و2012 و2014 إنها قَصَفت منزله.

تذكر الرواية الإسرائيلية أيضا أن أبا عبيدة ينحدر من قرية "نعليا" التي احتلها الصهاينة عام 1948، وأن أسرته نزحت بعد النكبة إلى منطقة جباليا شمال شرقي غزة. وقالت الصحافة العبرية عام 2014 إن الرجل إلى جانب عمله القيادي في القسام يستكمل دراساته الأكاديمية في جامعة غزة، إذ يكتب رسالة الدكتوراه بعد أن ناقش رسالة الماجستير في كلية أصول الدين بالجامعة الإسلامية تحت عنوان "الأرض المقدسة بين اليهودية والمسيحية والإسلام"، وهي كلها تفاصيل لم تثبت صحتها من أي جهة فلسطينية موثوق بها، وربما تكون جانبا من محاولة إعلام دولة الاحتلال نسج روايات لقدرتها النافذة على الوصول إلى معلومات عن رجال المقاومة، من دون أن يكون ذلك صحيحا فعلا. وسواء صحت المعلومات المتناثرة عن أبي عبيدة أو لا، فلن يتغير تعلُّق الجماهير به، النابع من كونه صوت المقاومة الذي امتزج بوجدانهم وأحيا آمالهم في الحرية والكرامة.

 

كيف أبدع أبو عبيدة في مهمته؟ إن أبا عبيدة يأخذ في الاعتبار دائما كيفية التعامل النفسي بكلماته مع المستمعين العرب، مازجا بين الشحنة العاطفية واللغة الرصينة، بل والفكاهة والسخرية في بعض الأحيان. (شترستوك)

"وقد عوَّدناكم عبر تاريخنا أننا الأكثر مصداقية ووضوحا من حكوماتكم".

أبو عبيدة مخاطبا الإسرائيليين.

 

أولت المقاومة الفلسطينية منذ عام 2005 أهمية متزايدة للدور الإعلامي. وقد اهتمت كتائب القسام منذ وقت مبكر بإنشاء دائرة الإعلام العسكري وقطعت أشواطا كبيرة في هذا الصدد، سواء بتطوير المحتوى وصياغته، أو بالتطوير التقني وتصوير العمليات العسكرية وغير ذلك. فقد خصصت القسام ميزانيات للإعلام، وقامت بتدريب كوادر إعلامية في معاهد تدريب محلية ودولية، كما شدَّدت على أهمية الإعلام في ميثاقها التأسيسي، وقالت إن الإعلام والفن أداتان شديدتا الأهمية للتوعية بالقضية الفلسطينية. وقد اختار إعلام القسام العسكري منذ بداية طوفان الأقصى أن تكون سمته هي الدقة والمباشرة والإيجاز، وهذا ما جعل ظهور الناطق العسكري أبي عبيدة أمرا منتظرا، لأن ظهوره يعني أن الحاجة قد اقتضت ذلك.

ولعل من الأسباب التي منحت أبا عبيدة كل هذه الشعبية، أنه لم يظهر بصفة سياسية على الإطلاق، وكان هذا خيارا ذكيا من المقاومة. فبينما تُجبِر الضرورة القادة السياسيين أحيانا على إعطاء رسائل متضاربة، أو حتى تغيير نبرات أصواتهم، اختارت المقاومة أن يكون أبو عبيدة دائما صوتا عسكريا فقط، لا يذكر ما قد يُفرِّق صفوف الشعب أو الأمة، بحيث يكون حديثه دائما حماسيا مرجعيته الإسلام والعروبة والكرامة الإنسانية، بلا خضوع أو تغيير. ولا يمثل أبو عبيدة في حديثه مصالح سياسية تتغير، وإنما يمثل صوتا أقرب إلى البندقية، صوت المقاومين الفلسطينيين منذ عام 1948 وحتى الآن.

رغم صعوبة الموقف تحت نيران الاحتلال، فإن أبا عبيدة يأخذ في الاعتبار دائما كيفية التعامل النفسي بكلماته مع المستمعين العرب، مازجا بين الشحنة العاطفية واللغة الرصينة، بل والفكاهة والسخرية في بعض الأحيان. ولعل ذلك أحد المفاتيح المهمة لفهم العلاقة الاستثنائية التي تشكلت بين الملثم والشارع، إنه الاحترام المكوَّن من شِقيْن، أولهما الحرص على المشاعر، وثانيهما الصدق.

لطالما اعتاد العرب في العقود الماضية خطابات الزعماء المطولة، التي لا تخلو من دعاية لا تدعمها الحقائق. أما أبو عبيدة، فله طريقة أخرى: فهو واقعي تماما في حديثه ولا يميل إلى المبالغة. على سبيل المثال، تحدث أبو عبيدة في حوار له عام 2012 بوضوح عن ضعف قدرات المقاومة العسكرية مقارنة بقدرات جيش الاحتلال، وتحدث كذلك عن الصعوبة الكبيرة التي تفرضها طبيعة البيئة الجغرافية لغزة على المقاومة، فهي بيئة غير مساعدة على الدفاع العسكري. ومن جهة أخرى إضافة إلى الحرص على المصداقية والإنصاف في المعلومات، فإن خطابات أبي عبيدة موجزة ولا تتعدَّى في الغالب 15 دقيقة.

عادة ما تشتمل خطابات الرجل، الذي يُوصف بأنه رأس حربة الحرب النفسية على دولة الاحتلال، على تثقيف موضوعي بمجريات المعركة، ورسائل بلاغية دقيقة الصياغة للأطراف المختلفة، ولا تخلو كلماته أيضا من الرسائل ذات الطابع الساخر، وأشهرها حين قال: "إلى زعماء وحكام أمتنا العربية، نقول لكم من قلب المعركة التي تشاهدون ولا شك تفاصيلها عبر شاشاتكم، إننا لا نطالبكم بالتحرُّك لتدافعوا عن أطفال العروبة والإسلام في غزة من خلال تحريك جيوشكم ودباباتكم لا سمح الله". وقد انتشرت لفظة "لا سمح الله" حينها بطول العالم العربي وعرضه مضربًا للمثل في سياقات التخاذل على مواقع التواصل.

لا يكذب أبو عبيدة على المواطن العربي كما اعتاد في خطابات زعمائه طوال عقود، فعلى مدار مسيرته في التحدُّث باسم القسام قبل "طوفان الأقصى"، نادرا ما ذكر أبو عبيدة معلومة تفتقر للدقة. واستطاع "الملثم" أن يصبح وسيط العالم لمعرفة مواقف المقاومة في غزة ومجريات المعركة، سواء في إسرائيل أو العالم العربي، عبر خطاباته المتلفزة التي تُنشر عادة على قناة الأقصى، أو عبر قناته على تطبيق تلغرام، كما أن خطاباته لا تلبث أن تُبَث سريعا على القنوات الفضائية المختلفة فور نشرها.

وقد بدت الرغبة في الحفاظ على المصداقية سمة جلية في أبي عبيدة منذ بداية ظهوره حين عُيِّن المتحدث باسم كتائب القسام في أعقاب الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة عام 2005. فقد ظهر أبو عبيدة حينها في فيلم قديم صوَّرته قناة الجزيرة في العام نفسه بعنوان "في ضيافة البندقية"، فأطلَّ بقناعه وهو في بداية مسيرته قبل أن يصبح علما معروفا لكل الجماهير العربية. وحين سأله صحفي الجزيرة عن عدد الذين شاركوا في عمليات بناء الأنفاق، توقف أبو عبيدة للحظات ثم قال "دعني لا أحصي عددا"، وحين أعاد الصحفي التساؤل عما إن كانوا عشرات أم مئات، أجاب أبو عبيدة بأنهم "عشرات"، مُفضلا الدقة على المبالغة في تضخيم عدد المشاركين.

لقد كان التدقيق واحترام المشاهد العربي مفتاح تواصل أبي عبيدة مع الجماهير العربية منذ البداية، فحرصه على احترام الجمهور وتقديم المعلومات الدقيقة الموجزة قدر الإمكان، أصبح له بالغ الأثر في بناء المصداقية بينه وبين الشارع العربي، وقد وصل هذا الأمر إلى ذروته في الحرب الأخيرة. وقد اتخذت حماس في هذه المعركة بشكل عام خطا إعلاميا ذكيا يمزج بين المصداقية وعدم الانخراط في الدعاية، وفي الوقت ذاته الحفاظ على الروح المعنوية للجبهة الداخلية. ومن ثم فإن خطابها الإعلامي عبر أبي عبيدة يتمتع بالمصداقية حتى وإن آثر ألا يتحدث عن خسائر شعبه وقواته يوميا، إذ ليس مطلوبا من المقاومة أن تقدم لعدوها معلومات عن خسائرها في حرب ضد أحد أقوى الكيانات العسكرية في العالم.

وقد جاء في تقرير لجريدة الأهرام أونلاين المصرية باللغة الإنجليزية في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي: "بينما يستخف أبو عبيدة بالعدو ويقوضه، فإن كلماته مدعومة بلقطات وأدلة موثقة من الأرض. وفي حين لم يكن لدى إسرائيل أي صور أو لقطات فيديو لتبثها عن الانتصارات العسكرية ضد حماس وجناحها المسلح، فإن كتائب القسام تبث المحتوى مباشرة من ساحة المعركة لهجماتها على القوات الإسرائيلية في غزة".

 

عسكري لا يحتقر المثقفين

"إن عائلات أسرى الاحتلال ستدرك، ولكن ربما بعد فوات الأوان، أن حكومتهم الفاشية قد ارتكبت بحقهم كارثة سيعانون هم منها كعائلات بعد أن يكون نتنياهو قد أنهى مناوراته السياسية، فالكُرة في ملعب من يعنيه الأمر من جمهور العدو".

أبو عبيدة مخاطبا الإسرائيليين.

أخيرا، وليس آخرا، تمتع الملثم بميزة في خطابه قرَّبته من الجماهير العربية، خاصة طبقاتها الوسطى المُتعلِّمة. فعلى عكس ما اعتدناه لدى معظم العسكريين في العالم العربي، يُظهِر الرجل الكثير من الاحترام للثقافة والمثقفين، ويتجلَّى ذلك في استشهاده بأبيات شعر قديمة وحديثة، والاحتفاظ بلغة عربية رائقة تخلو من أي لحن أو خلل. ويظهر ذلك أيضا في إشارته إلى أفكار نظرية طوَّرها مفكرون كبار في العالم العربي، مثل المفكر المصري الراحل الدكتور عبد الوهاب المسيري، الذي كرَّس جزءا كبيرا من حياته لدراسة اليهودية والصهيونية، فضلا عن متابعته أولا بأول لما يُنشَر من كتابات وترجمات حول العدو ليستخدمها في خطاباته.

يعطي هذا صورة جديدة لعسكري لا يحتقر المثقفين، بل يحرص على التواصل معهم بلغتهم. ولعل المفارقة التي تجعل أبا عبيدة تجربة فريدة في التواصل الجماهيري هي أنه في الوقت نفسه الذي يتحدث فيه بالأساس إلى جمهوره العربي بطريقة تمتلئ بالشحنات المعنوية، يستطيع أن يرسل رسائل خاصة إلى دولة الاحتلال وشعبها على نحو يجعله يسير على حبل اللغة والتواصل ببراعة مع الصديق والعدو في آن واحد، دون أن يفقد اتزانه.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات أبعاد التواصل الاجتماعی الولایات المتحدة الجماهیر العربیة فی العالم العربی الإعلام الغربی دولة الاحتلال تشرین الثانی کتائب القسام أبو عبیدة فی حرب الإبادة على الإطلاق السابع من أبی عبیدة بینما ت إلى رمز من خلال بینما ی أن یکون عبیدة م أکثر من الذی ی دون أن فی غزة التی ت

إقرأ أيضاً:

الترجمة مدخل لفهم العالم العربي ونصرة فلسطين.. ميشيل هارتمان: الأدب المكان الذي يمكننا أن نجد فيه المزيد من التقارب

في حديث لها عن الترجمة، تقول الأكاديمية والمترجمة الكندية ميشيل هارتمان: «الخيط هو هذا الشغف والشدة في السرد الذي أتعلق به كقارئ. هذا ما أحاول إعادة إنتاجه كمترجمة/ وملحنة/ وكاتبة. ورغم أن الكتب مختلفة، والمؤلفين مختلفون للغاية، إلا أنني أعتقد أن هذا هو الخيط المشترك. هناك شيء أجد أنه مقنع بشكل لا يمكن تخيّله، ويجذبني إلى التفكير في كيفية نقله باللغة الإنجليزية»، وتقول: «أعتقد أنه يجب علينا فتح المزيد من محادثات الترجمة عبر اللغات».

وفي كتابها «ماذا تركت الحرب خلفها؟» تقول: «إذا كانت الحروب هي الأسوأ، فماذا يعني للناس عندما تُترك أجزاء منها داخلك وتصبح جزءًا منك؟ وماذا تترك الحرب وراءها داخل هؤلاء الناس؟».

وعن فلسطين تكتب: «إنّ تاريخَنا الكولونياليّ ذاتَه - وهو ليس مسألةً من الماضي بل عمليّةٌ متواصلةٌ أيضًا- يتطلّب منّا أن ندعم نضالَ زملائنا ورفاقنا وإخوتنا وأخواتنا في فلسطين».

قد تشكّل هذه العبارات هوية ميشيل هارتمان، فهي إذ تشتغل على الترجمة كفعل يعرّف الغرب على الإنتاجات الأدبية العربية ويسير على خطى التقارب الثقافي والإنساني، فإنها أيضًا تشتغل على التوثيق الشفوي لتراجيديا الإنسان الواقع تحت الاستعمار، وتقف أيضًا في الأمكنة التي يمكن النضال من خلالها في كل مكان على الأرض خصوصًا في فلسطين.

وميشيل هارتمان هي أستاذة أكاديمية في جامعة ماكجيل بمدينة مونتريال في مقاطعة كيبيك (كندا)، حصلت على الدكتوراة في الأدب العربي من جامعة أكسفورد في لندن، وقد ترجمت أكثر من اثني عشر عملًا في الرواية والقصة القصيرة من العربية للإنجليزية، منها «الرحلة» لرضوى عاشور، «كل النساء بداخلي» و«طابق 99» لجنى الحسن، «التوت البري» و«خمسون غرامًا من الجنة» لإيمان حميدان، «دومًا كوكا كولا» و«علي وأمه الروسية» لألكسندرا شريتح، و«صيف مع العدو» و«سماء قريبة» لشهلا العجيلي.

ومن إصداراتها باللغة الإنجليزية: «ما خلّفته الحرب: قصص النساء عن المقاومة والنضال في لبنان» (2024) و«قصص نساء الحرب: الحرب الأهلية اللبنانية، عمل النساء والفنون الإبداعية» (2022) بالاشتراك مع المؤرخ والأكاديمي مالك أبي صعب، «كسر اللغة الإنجليزية المكسورة: التضامن الأدبي بين السود والعرب وسياسات اللغة» (2020) الذي فاز بجائزة رابطة اللغات الجامعية للمنح الدراسية الإبداعية في عام 2020، و«اللغة الأم، حديث الغريب» (2014).

عن ترجماتها وأعمالها ومواقفها الإنسانية كان لنا معها هذا الحوار.

***************************************************************************************

أنت أستاذة محاضرة في الأدب العربي بجامعة ماكجيل، كيف جئت إلى اللغة العربية؟ وما الذي استهواك للدخول في هذا المجال؟ ومن هم الأدباء العرب الذين تركوا أثرًا فيك، من أدباء التراث العربي، أو المعاصرين؟

بدأ ذلك خلال دراستي في نيويورك للأدب الفرنسي، وكان يُدرّس في الجامعة نفسها اختصاص لغة عربية، فقررت أن أدرسها، وكنا فقط ستة أو سبعة طلاب في الصف، الأساتذة في الجامعة في ذلك الوقت كانوا يشجعوننا على تعلّم العربية، وهذا ما حفّزني لدراستها ثم أحببتها كثيرًا. بعد التخرّج، ذهبت إلى دمشق كمستمعة في جامعة دمشق لعام كامل في قسم الأدب العربي، وهذا ما أغناني كثيرًا حيث كانت المحاضرات من شتى المجالات في الأدب واللغة العربية. بعد ذلك، أكملت تخصصي في الدكتوراة في جامعة أكسفورد بلندن، وكانت أطروحتي عن الأدب النسائي اللبناني المكتوب بالعربية والفرنسية، وتناول هذا الأدب لموضوعات الدين والطائفية والانتماء العرقي، من وجهة نظر النساء.

بالنسبة للأدباء العرب الذين تأثرت بهم، هذا سؤال صعب؛ لأني قرأت كثيرًا، وأحببت فعلًا كل ما قرأت، وخصوصًا تجارب النساء في العالم العربي، لا أستطيع أن أحدّد اسمًا معينًا، لأني كل يوم أحب كتابًا جديدًا ومختلفًا.

***************************************************************************************

كان للترجمة عن الغرب أثرها الكبير على التحوّلات الأدبية والفكرية في عالمنا العربي. كفعل معاكس، نقرأ عن تأثير كتاب «ألف ليلة وليلة» على نشأة القصة والرواية في الغرب، هل تلمسين ذلك؟ وماذا عن أي أثر للأدب العربي المعاصر في الغرب؟

«ألف ليلة وليلة» كتاب أثّر على تاريخ الأدب الإنجليزي والفرنسي. في هذا الكتاب نجد فكرة الشرق وأسس الكتابة، ونلاحظ كيف غيّرت أسس هذا الكتاب بعد ترجمته للفرنسية والإنجليزية الكتابة في الغرب كثيرًا. هذا رأي منتشر في الغرب، والباحثون هنا يتداولون هذه الفكرة بشكل واسع. هذا بخصوص تاريخ الأدب، أما اليوم فقد نجد آثار الأدب العربي المعاصر في الغرب، ولكن أعتقد أن مسألة العلاقة بين الآداب العربية والغربية أصبحت متقدمة وأخذت أبعادًا. قد نعتقد لأول وهلة أن هناك فروقات كبيرة، ولكن الحقيقة أيضًا أن هناك روابط أكثر مما ندرك أنه قد يكون. العلاقة تتوسع تدريجيًا عبر الزمن، والآداب العربية والغربية تؤثر ببعضها البعض. لذلك أعتقد أن هناك فروقات ولكنها ليست منفصلة عن بعضها بل متشابكة.

اليوم نعيش في عالم لم نعد نفرّق ونقول: أدب عربي أو أدب عالمي. لقد أصبحت الآداب كلها كأنها آداب واحدة. شبكة الإنترنت قرّبت العالم من بعضه البعض ونستطيع أن نقرأ كل شيء بكل اللغات. الأمور تختلف عن الماضي، لم تكن الأمور تسير بهذا التقارب. لم يكن بإمكاننا أن نشتري الكتاب العربي بسهولة، لم يكن الإنترنت موجودًا لنطلبه أونلاين، ولم تكن الكتب العربية متوفرة في المكتبات الغربية بسهولة. كان علينا أن نسأل ونفتش كثيرًا ونراسل وقد نوكّل شخصًا يقيم في المكان حيث يمكن أن نجد الكتاب من أجل الحصول عليه. كانت مهمة طويلة وشاقة. اليوم يمكن الحصول على الكتب حتى بصيغة pdf وخلال دقائق نحصل عليها. الناس يقرأون الكتب بكل يسر من حول العالم. يمكن أن نرى آثار الآداب الأخرى في أكثر من منتج أدبي بلغة أخرى. الكتّاب أنفسهم يتحدثون على نطاق واسع عن مدى تأثير كتب معينة من لغات أخرى منها العربية على كتاباتهم، وهم على وعي ودراية بما يُنتج عالميًا.

***************************************************************************************

قمت بترجمة العديد من الروايات العربية للإنجليزية، كيف تجدين تلقي الأعمال العربية المترجمة في المجتمعات والدول الناطقة بالإنجليزية؟

يوجد اهتمام بالآداب العربية أفضل من قبل. بدأتُ أعمل في الترجمة عام 2000، وبعد هذه الـ25 سنة أستطيع أن أقول: إن الأمور تغيرت وصار هناك اهتمام أكبر بالإنتاجات الأدبية العربية. حركة الترجمة للإنجليزية من العربية في تزايد. ولكن هل هذه الترجمة كافية؟ ربما لا. بشكل عام، الترجمة من لغات العالم للإنجليزية قليلة، أقل من النقل للفرنسية أو الإسبانية، وخصوصًا من العالم العربي أو الشرق آسيوي. إذًا، لا يوجد حركة ترجمة واسعة، ولكنها أفضل من الماضي. ونرى أيضًا أن هناك تقديرًا للكتب العربية من خلال الجوائز الأدبية التي تُمنح. فدائمًا هناك كتب عربية مترجمة حاضرة في القوائم القصيرة للجوائز في الغرب. مؤخرًا، اختارت جائزة بوكر الدولية في لندن رواية «سفر الاختفاء» لابتسام عازم ضمن اللائحة الطويلة، وكذلك فازت جوخة الحارثي بجائزة مان بوكر في لندن عام 2019 عن روايتها «سيدات القمر».

منذ أن فاز نجيب محفوظ في العام 1988 بجائزة نوبل، من النادر أن يفوز كاتب عربي بجائزة غربية، ولكن اليوم الوضع مختلف، الأدباء العرب باتوا معروفين في الغرب، ويتم الاعتراف بهم على نطاق واسع.

***************************************************************************************

هل برأيك تستطيع الترجمة أن تقدّم شيئًا في طريق حوار الثقافات؟

هذا سؤال كبير. نحن المشتغلين بالأدب يجب أن نؤمن ونثق بقدرة الأدب على إحداث تغيير. ولكن كم وكيف، لا أستطيع أن أقول. تتم ترجمة عدد من الروايات، ولكن فجأة إيلون ماسك وترامب يفجران كل شيء، إذًا الأمور لا تسير كما نريد. التغيير يسير بشكل بطيء جدًا. إنها عملية بطيئة للغاية، إنها عملية تعليم، لذا فهي جزء صغير من التعليم الأكبر الذي يتعيّن علينا القيام به، والعمل على إيجاد تشارك وتقارب بين اللغات والثقافات. الأدب هو المكان الذي يمكننا أن نجد فيه المزيد من التقارب بين الشعوب. الأدب هو سياسة ولكنه سياسة مختلفة، إنه يُظهر عالمًا مختلفًا، عالمًا إنسانيًا، بطريقة قد لا نراها إذا كنا نعيش في إنجلترا أو فرنسا، فنحن لا نرى هذا العالم، وعلينا أن نبحث عنه. لذا كلما تمكنا من دفع الأشخاص الحقيقيين المبدعين والأدب والشعر والفنون والتصوير الفوتوغرافي والأفلام ليكونوا سويًا، كلما استطاع العالم أن يُدرك ذلك، ونحن نلاحظ أن التقارب يسير ببطء.

***************************************************************************************

هل هناك حركة ترجمة نشطة في كندا على غرار فرنسا أو بريطانيا أو أمريكا؟ وهل ترين أن هناك كتبًا يجب أن تترجم وأن تقوم بمهمتها جهة رسمية، بمعنى أن هناك تقصيرًا ما؟

كندا ليست كبيرة من ناحية الأدب في السوق العالمي. عندما نفكر في ترجمة الآداب، وفي عملية البيع، لن تكون كندا في المشهد، فالنشر هنا قليل. من يريد أن يُترجم من العربية للإنجليزية ويريد توزيع أعماله، قد يكون الأمر صعبًا مع دور النشر الكندية الصغيرة. أنا مثلًا أنشر في أمريكا في Syracuse University Press، صحيح أنها دار نشر صغيرة، وهي مملوكة من فلسطيني، ولكن لديها توزيع على نطاق واسع في كندا وفي أمريكا. هذا لا يعني أن هناك استحالة للنشر هنا، ولكن أقصد أن عملية التوزيع من قبل دور النشر في أمريكا أوسع بكثير من كندا. يوجد هنا مترجمون في كندا، من أصول عربية، ولكن السوق هنا أقل من بريطانيا وأمريكا.

***************************************************************************************

كيف تجدين تدريس اللغة العربية في الجامعات الكندية والأمريكية اليوم، هل هناك حضور جيد في هذا المجال، من قبل غير العرب؟

نعم يوجد إقبال على دراسة الأدب العربي، من قبل طلاب من أصول عربية ولكنهم لا يعرفون العربية ويرغبون بإتقانها وتعلم التراث العربي، وكذلك من طلاب مسلمين غير عرب. وكذلك هناك طلاب من أصول غير عربية وهم من مختلف الإثنيات الموجودة في كندا وأمريكا، ولديهم أسباب كثيرة سياسية وثقافية لتعلّم العربية. ربما السياسة الموجهة ضد المسلمين في مكان ما تكون دافعًا لبعض الطلاب لدراسة العربية. وكذلك الأحداث في فلسطين، كانت دافعًا للكثيرين للتوجه لتعلّم العربية. نحن نشعر بأنهم يريدون أن يتعلموا ويفهموا أكثر ماذا يحصل، وهؤلاء الطلاب كان لديهم دافع قوي لوقف حرب الإبادة على غزة. إنه أمر مؤثر للغاية أن نرى هذا العدد من الطلاب متصلين بفلسطين ويرغبون بتعلم ولو قليل من اللغة العربية من أجلها. أنا أعلّم هنا وأراهم، وأرى هذا التغيير نحو اللغة العربية حتى في صفوف التعليم العالي في المدارس.

***************************************************************************************

هل تعتقدين أن الإسلاموفوبيا تؤثر في مكان ما على رغبة غير العرب بدراستها؟

في أمريكا وكندا، تشكل الإسلاموفوبيا قلقًا كبيرًا في المجتمع، هي مشكلة كبيرة نواجهها، وهي وجه آخر للعنصرية الموجودة في مجتمعنا. العنصرية متأسسة في مجتمعنا. إنها مبنية على ثقافة الاستعمار الاستيطاني في كندا، بدأت ضد السكان الأصليين ثم امتدت هذه الفكرة إلى أناس آخرين، السود والآن نحو المسلمين. كان المسلمون موجودين من قبل وكانت الأمور تسير بشكل طبيعي، ولكن العنصرية ضد المسلمين أصبحت مؤخرًا أكثر بروزًا وصخبًا. كما نعلم، عمل الحكومات، القوانين، وكراهية الإسلام تتم بشكل منهجي. إنها في كل مكان في سياستنا في كندا بشكل عام، ولكن بشكل خاص في كيبيك، نرى كراهية الإسلام بطرق مختلفة في السياسة. لذلك نرى العديد من الشباب، العرب والمسلمين وغيرهم، يريدون محاربة ذلك لأنهم يعرفون أن العنصرية خطأ كبير. وكان لهذا تأثير على الإقبال المتزايد على تعلّم العربية. ولكن في الوقت نفسه، لدينا الجامعات التي خفّضت برامج تعلّم الآداب العربية وخفضت المنح المالية لدراسة اللغة العربية. لذا يوجد جانبان. ومن المؤكد أن تعليم وتعلّم اللغة العربية يواجه صراعًا في الجامعات الكندية.

***************************************************************************************

أصدرتِ عددًا من الكتب مع الباحث والأكاديمي في جامعة ماكجيل مالك أبي صعب عن تجارب لبنانيات في الحرب الأهلية وكذلك تجارب أسيرات لبنانيات مع الاحتلال الإسرائيلي، حدّثينا عن هذا المشروع وتجربتك مع نساء الحرب في لبنان.

أنا ومالك بدأنا بهذا المشروع الكبير بين عامي 2015 و2016 وكان الهدف أن نكتب التاريخ الشفوي عن تجارب النساء في الحرب الأهلية في لبنان، وكانت هذه الفكرة موجودة لديه كونه مؤرخًا. تناقشنا كثيرًا، وذهبنا إلى لبنان وأجرينا مقابلات مع أكثر من 50 امرأة عن تجارب في الحرب، وكانت المقابلات مفتوحة، ومن هذه المقابلات وضعنا هذه الكتب. كان علينا أن نختار من بين عشرات المقابلات المذهلة، وفي النهاية اخترنا عددًا من القصص لنساء تحدثن عن تجاربهن في المقاومة. كن ببساطة يعشن في بلد فيه احتلال، هذه النسوة لديهن خلفيات دينية وثقافية مختلفة عن بعضها البعض، ويعشن في أماكن مختلفة، بعضهن كن سجينات، وبعضهن ناشطات. تحدثن عن أنشطتهن والاجتياح الإسرائيلي عام 1982 كما تحدثن عن عائلاتهن. خلال إجراء هذه المقابلات، تأثرنا بقصة المناضلة نوال بيضون وكانت قد كتبت مذكراتها، لذلك خصصنا لمذكراتها كتابًا منفصلًا. هي تجارب مذهلة وقد كان مشروعًا كبيرًا ورائعًا واستمر على مدى عشر سنوات. لا يزال هناك الكثير من الحكايات التي لم نكتبها وتلك التي لم تُقل، لدى الناس الكثير ليقولونه هناك. تعلمت الكثير من خلال تجارب هذه النساء، تأثرت كثيرًا وصرتُ أقرب.

***************************************************************************************

إذًا كان لعملك على هذه الكتب أثر شخصي عليك، من حيث احتكاكك بمعاناة الناس تحت الاحتلال الإسرائيلي؟

نعم كثيرًا.. في حياتي وفي عملي كنت دائمًا متضامنة مع المقاومة الفلسطينية منذ سنوات طويلة. ولكن مع كل تجربة نعيشها وكل شخص نلتقي به سنتعلم أشياء جديدة ومختلفة. بالطبع، العمل مع هذه الفئة من الناس، وفهم ما عاشوه، يساعدنا على فهم الواقع أكثر ومعاناة الناس هناك.

يمكن أن أشير إلى فكرتين في رأسي، الأولى هي كيف كانت تقول كل امرأة تحدثنا معها: إنها مجرد شخص عادي، تقول: «أنا فقط أنا»، وأنه عندما يحدث أمر ما معك، ليس لديك خيار، فقط عليك أن تتصرّف. وأنا أفهم حقًا هذا الشعور عندما نسمع قصصهم، نشعر أن هؤلاء الأشخاص ليسوا أشخاصًا عاديين، إنهم أشخاص مذهلون، وفي الوقت نفسه هؤلاء الأشخاص المذهلون هم مجرد أشخاص عاديين، يستيقظون صباحًا، يأخذون أطفالهم إلى المدرسة، يأكلون وينامون.. الفكرة مفادها أن الأشخاص العاديين يمكن أن يكونوا مذهلين.

والفكرة الثانية هي أهمية أن نتذكر أنه يمكننا دائمًا أن نقاوم. يمكننا دائمًا الرد. عندما نسمع هذه القصص التي عاشتها هذه النساء، يمكن أن تتخيل كيف تعيش امرأة في السجن لسنوات عديدة مع التعذيب، بدون طعام، مع وجود أشخاص حولها يستجوبونها طوال الوقت بأوضاع رهيبة، ومع سجّانين. كيف يمكنها الاستمرار في المقاومة، قصة بعد قصة بعد قصة... هذا أمر ملهم للغاية، نحن جميعًا نعمل حيث نحن، أنا معلمة، وقد أشعر بالإحباط، من أشخاص في حياتي، في عملي، مسؤولياتي مع الطلاب، والأمر ليس سهلاً ولكن من المهم أن نتذكر أنه أينما كنا، هناك أشخاص آخرون يقاتلون ويقاومون، وهذه الفكرة هي ما أشعر به بعد هذا المشروع. وأشعر أنني أقوى بكثير، وأننا يجب ألا نستسلم. هناك دائمًا ذلك الشيء الذي يجب أن نقاومه باستمرار.

***************************************************************************************

إلى أي مدى تعدّ هذه الكتب إحدى طرق وعي المجتمعات الغربية بالقضية الفلسطينية؟

آمل أن تتحقق هذه الفكرة. مرة أخرى، هي عملية بطيئة. الأمر ليس وكأننا نترجمها، وغدًا عندما يقرأها الجميع يخطر ببالهم شيء ما. لكنني أرى تحقق ذلك الوعي عندما نُحضر هذه الكتب للطلاب ونتناقش بها في الفصل الدراسي. غدًا لدينا أنا ومالك أبي صعب ندوة حول كتابنا الأخير عن نساء الحرب مع مجموعة طلابية في كلية الحقوق، وسيجرون مناقشة حول الكتاب. سيكون هناك بعض الأشخاص الذين يشاركون بالفعل، وسيكون هناك بالتأكيد آخرون سيأتون فقط للاستماع. ولكن يمكننا أن نرى التغيير عندما نتحدث إليهم، شيء مثل ضوء المصباح الكهربائي، تلك اللحظة التي نراهم يدركون كيف تجري الأمور في الواقع. يمكنني تقدير ذلك.

بالنسبة لي، علينا أن نستمر في التفكير في طرق للتعريف بالقضية الفلسطينية. لذا فإن أحد الأشياء التي يمكنني القيام بها، لأنني أعرف العربية والإنجليزية، هو أنني أستطيع الترجمة، لذلك أحاول بذل بعض الجهود. وأتحدث مع الكثير من الأشخاص، نحتاج إلى أن يعرف الناس أن فلسطين موجودة. هناك الكثير من الناس الذين لا يعرفون عن القضية الفلسطينية شيئًا. هناك كتب أخرى أيضًا باللغة العربية وباللغة الإنكليزية وباللغة الفرنسية عن فلسطين ونحتاج إلى نشر مضمونها بين الطلاب على نطاق أوسع.

***************************************************************************************

أنت ناشطة ومناضلة متواجدة بشكل دائم في التظاهرات لدعم غزة، كونك كندية، كيف تعرّفت على القضية الفلسطينية، وصولًا إلى انخراطك في الوقوف إلى جانبها؟

لقد حدث ذلك عندما كنت في مثل سن هؤلاء الطلاب، وعيي للنضال الإنساني، والنضال من أجل العدالة؛ لقد نشأت طوال حياتي منذ أن كنت طفلة على الإيمان بالعدالة الاجتماعية والعدالة العرقية، وكانت هذه الأفكار قوية جدًا في طفولتي. نشأت على هذا النحو. ومع تقدّمي في السن وتعلّمي عن هذه القضية، أصبحت من القضايا التي أدركت أنني يجب أن أشارك فيها أيضًا، وبسبب أيضًا ما بدأته، أي دراسة اللغة العربية. لذا بالطبع إنها واحدة من القضايا الرئيسية في حياتي، وبالتالي فإن كل شيء يتداخل مع بعضه البعض. وأعتقد أن السبب وراء ذلك هو أن هناك الكثير من القمع ضد الأشخاص الذين يدعمون فلسطين هنا. ومنذ أن كنت شابة وحتى الآن، لا يزال هذا القمع موجودًا. يمكنك هنا دعم قضايا أخرى من أجل العدالة، وربما يتجاهلونك ولا يقمعونك بهذه القوة. ولكن يصير القمع قويًا مع قضية فلسطين التي تعد نضالًا واضحًا من أجل العدالة، ونضالًا واضحًا من أجل التحرير. أنا حين أقف مع فلسطين أشعر بثقل هذا القمع، لذا، من الصعب أحيانًا النضال من أجلها في هذه البلاد.

***************************************************************************************

الجامعات في كندا متورطة بطريقة أو بأخرى مع شركات الأسلحة الإسرائيلية، ويتم الضغط على الطلاب المناهضين للاحتلال الإسرائيلي بطرق شتى، ماذا عنكم كأساتذة وأكاديميين، هل هناك ضغط عليكم في هذه القضية مع وجود تهديدات بإقصاء المتعاطفين مع غزة؟

أعتقد أننا نشعر بالضغط بدرجة أقل من الطلاب بسبب الطريقة التي نكافح بها. فالطلاب والشباب في مقدمة النضال في المظاهرات بالشوارع. في المظاهرات، كأساتذة لسنا في المقدمة، نحن موجودون معهم ولكننا ندعم بطريقة مختلفة. أعتقد أن الطرق التي نؤدي بها عملنا كأساتذة، تجعلنا نواجه أنواعًا مختلفة من القمع، ولكن ربما لا يكون ذلك بشكل مباشر. لدينا حرية أكاديمية، نستطيع أن ندرّس ما نرغب بتدريسه، ولكن الأمر يصبح أكثر صعوبة يومًا بعد آخر. هناك العديد من الزملاء تم استدعاؤهم إلى مكتب العميد لشرح أسباب أقوالهم، أو تصريحاتهم بأن قمع الطلاب المتضامنين مع فلسطين ليس ممارسة طبيعية في الجامعة. هناك دفع صهيوني قوي لمحاولة إغلاق الحديث عن فلسطين في الحرم الجامعي. ولهذا السبب يواجه الأساتذة ذلك. أعتقد أيضًا أن ما يثير القلق الشديد في أجواء الجامعة هو وجود ضغط صامت.

هناك ضغط علينا من الأساتذة الذين يتعاطفون مع إسرائيل ويطالبوننا بعدم التحدث بصوت عالٍ عن غزة. الناس في كندا بشكل خاص يحبون أن يكونوا مهذبين مع الآخرين، ولا يحبون أن يشعر الآخرون بالسوء. لذا إذا قلت شيئًا يجعل زميلًا ما يشعر بالسوء، فهذا غير مقبول اجتماعيًا. هنا، لا توجد ثقافة من نوع المناقشة الفكرية حول القضايا الحساسة. قد يكون من الصعب مناقشة القضايا الحساسة. لذا هناك ضغط صامت أحيانًا لعدم القيام بذلك. وبالطبع، نرى أيضًا إغلاق بعض البرامج. نرى تقدمًا صغيرًا في الوعي بالموضوع الفلسطيني ونرى أنه يتم انتزاعه. نرى ذلك ربما أكثر في الولايات المتحدة وخاصة الآن مع وصول ترامب لسدة الرئاسة. ولكن هذا يتسلل إلى كندا.

في الوقت الحالي، القمع الأكبر هو ضد الطلاب الذين يعتصمون من أجل فك الارتباط مع شركات الأسلحة. ولهذا السبب أنا أرتدي دائمًا الكوفية الفلسطينية ومكتبي مليء بالرموز الفلسطينية، لأنه يجب أن نكون مرئيين ونُظهر هذه القضية، أنا وأساتذة آخرون هنا، وكي نشجع الطلاب ولا يشعروا بالخوف.

لا أعتقد أن الأمور تصل لإيقاف الأساتذة الجماعيين عن التدريس، هناك بعض الحالات مع معلمين في المدارس الذين لم يُسمح لهم بقول أشياء من هذا القبيل في المدارس، ولكن هناك حرية أكاديمية أكثر في الجامعات. في الجامعات عادةً يكون الضغط أكثر هدوءًا. إنهم يضغطون عليك بطرق أخرى. إنهم لا يقولون لك: إنه لا يمكنك القيام بذلك بطريقة مباشرة. إنهم يجعلون القيام بذلك أكثر صعوبة. يأتي زملاؤك إليك ويقولون لك: لماذا لا تتغير، وتقوم بنضالك لأمور أخرى؟ إنهم يفعلون ذلك بطرق أكثر دقة.

كانت هناك بالطبع حالات معروفة جدًا، كان هذا قبل حوالي خمس سنوات، حيث حاولوا توظيف أستاذة في كلية الحقوق في تورونتو وكانت مناصرة صريحة لحقوق الفلسطينيين، وسحبوا منها عرض العمل. لكنها ورفاقها قاتلوا بشدة واستعادت عرضها. لذا، فإن الجامعات هي مواقع لصراع حول هذه القضية بالتأكيد. لذا، ليس من السهل دفع هذه القضايا إلى الأمام. والأساتذة في كندا الذين يعلّمون عن القضية الفلسطينية عددهم قليل.

***************************************************************************************

في مقال لك في مجلة الآداب بتاريخ 4-5-2016 بعنوان «لماذا لا يزال النضال من أجل فلسطين أمرًا مهمًا؟ ولماذا ندعم مقاطعة إسرائيل» تقولين: «المقاطعة تتجاوز المسألةَ الرمزيّة. فهي أيضًا أداةٌ قويّة ونافذة بَثّتْ الخوف في الدوائر الغربيّة»، كيف تلمسين دور هذه الحركة في كندا على صعيد المقاطعة الثقافية؟ وهل هي مجدية على الصعيد الاقتصادي؟

المقاطعة أحد الأدوات التي لدينا، وليس لدينا الكثير من الأدوات، فنحن لسنا على الأرض ولسنا المقاومة. ماذا يمكننا أن نفعل للضغط؟ لدى كندا روابط اقتصادية وروابط ثقافية مع إسرائيل، كما هو الحال مع الولايات المتحدة، وهذه الروابط الاقتصادية والثقافية والأكاديمية عميقة للغاية. لذا أشعر بأن محاولة المضي قدمًا لكسر هذه الروابط هي إحدى أدواتنا المهمة التي يمكننا أن نمتلكها. ومرة أخرى، هي عملية بطيئة.

نحن نفعل ذلك منذ فترة طويلة، والمقاطعة قوية وتنجح. إنها مسألة رمزية، ولكن هذه الرمزية لا تنتهي عند هذا الحدّ، نريد استخدام هذا الرمز ونحتاج للتفكير في كيفية جعل هذا الرمز يؤثر فعليًا.

نحن نفهم أن الناس يفهمون المقاطعة الاقتصادية بأن لا نشتري من بضائعهم، وبالتالي يعاني اقتصادهم. ولكن هناك أيضًا المقاطعة الثقافية والمقاطعة الأكاديمية، وهي مهمة جدًا لأنها رمزية، ولكنها أيضًا على الأمد البعيد، ستضغط على الولايات المتحدة أو إسرائيل لتسقط. وهذا هو اتّباع نموذج جنوب أفريقيا، حيث بمرور الوقت وببطء تحقق ما يريدونه، في الوقت الذي لم يكن يرغب أحد بالقيام بأي نشاط مع حكومة الفصل العنصري البيضاء في جنوب إفريقيا. كان من المخزي المشاركة في مؤتمر أو الذهاب إلى جامعة أو عزف حفلة موسيقية أو ممارسة الرياضة مع البيض في جنوب إفريقيا في ظل الفصل العنصري. هذا النموذج هو ما نحاول وضعه موضع التنفيذ اليوم أيضًا، حتى يخجل الناس من الذهاب إلى مؤتمر في تل أبيب، وللضغط بقوة لتغيير الواقع على الأرض. هذه هي فكرة ما نحاول تحقيقه من خلال المقاطعة.

***************************************************************************************

في مقال آخر لك تتحدثين عن «أمّهات الموهوك» اللواتي كنّ يصارعن للعثور على رفات أولادهن الذين ماتوا في أراضيهن المسلوبة، وعن تضامنهنّ مع الشعب الفلسطيني، ما هو دور هذا التضامن الجماعي بين المجتمعات المختلفة في كندا بالوقوف بوجه الأجندات الحزبية التي لا تزال بمعظمها تقصي في لوائحها الانتخابية كل من يعتبر إسرائيل دولة احتلال؟

من المهم حقًا إقامة هذه الروابط، لأن النضال هو نفسه. إنه نضال من أجل الأرض، إنه نضال من أجل الحقوق، إنه نضال من أجل الكرامة والعدالة. لذا إذا كنا سنمضي قدمًا، فسيكون الأمر في اتجاهين. إذا كنا سندعم فلسطين وفكرة حقوق الشعب الفلسطيني، وسنفعل ذلك هنا، يتعين علينا أن نفكر في أنفسنا كمشاركين بالقيام بنفس الدعم لمواجهة سلب السكان الأصليين أرضهم.

عندما نتحدث عن دعم هنا في مونتريال، يتعين علينا أن نفكر في حقيقة أننا نعيش على تلك الأرض المسروقة. أن نفهم ما هي الصراعات التي يقاتل من أجلها الشعوب الأصلية؟ وأن نتحد جميعًا ونحاول أن نفهم ما يقاتلون من أجله حتى نتمكن من مشاركة هذا النضال.

من المهم جدًا بالنسبة لنا أن نشارك في هذا النضال. ولأنه بخلاف ذلك، أن نهتم بحقوق بعض الناس، لكننا لا نهتم بحقوق الجميع، يعد عملًا منافقًا. وأعتقد أن الناس يساء فهمهم في هذه الحالة. نسمع الشعوب الأصلية يقولون: «علينا أن نغادر، إلى أين نذهب؟». الأمر لا يتعلق بالمغادرة أو البقاء، إنه يتعلق حقيقة بحقوق الناس في أراضيهم الأصلية في كل مكان على الأرض.

إن أحد الصراعات هنا هي القبور والجثث الموجودة تحت هذه الجامعة ويمكنك رؤيتها من النافذة هنا في مكتبي. المكان الذي تقع فيه المقبرة قامت الجامعة بحفر الأراضي فيه لبناء مشروع، وحاولت أمهات الموهوك إيقافه.

هناك صراعات مهمة أخرى تكافح من أجلها المجتمعات الأصلية المحلية، مثل إلقاء القمامة على أراضيها. وهناك العديد من الصراعات المختلفة. لذا، فنحن بحاجة ماسة، مرة أخرى، رمزيًا، وأيضًا ماديًا، وأيضًا من الناحية العملية، إلى إيجاد طرق لربط نضالاتنا. هذا هو النضال المحلي والتفكير في كيفية ربطه بالنضال من أجل فلسطين الحرة، فهذان الأمران يسيران معًا.

مقالات مشابهة

  • الخارجية الصينية: الولايات المتحدة هي من بدأت حرب التعريفات الجمركية
  • الماضي الذي يأسرنا والبحار التي فرقتنا تجربة مُزنة المسافر السينمائية
  • الترجمة مدخل لفهم العالم العربي ونصرة فلسطين.. ميشيل هارتمان: الأدب المكان الذي يمكننا أن نجد فيه المزيد من التقارب
  • لماذا لا يستطيع ترمب تصنيع هواتف آيفون في الولايات المتحدة؟
  • الدور البطولي الذي قاده اللواء أبو عبيدة.. تكريم رئيس هيئة العمليات العسكرية لمتحرك المناقل الغربي
  • الرئيس اللبناني: على الولايات المتحدة و فرنسا تحمل مسؤولياتهما إزاء انتهاكات الاحتلال
  • العراق يوقف إرهابيا ساهم هجوم في نيو أورلينز الامريكية
  • شاهد | الولايات المتحدة تواجه معضلةً بشأن في اليمن
  • الطبيب السوري المغترب عبيدة عزيزي لـ سانا: حملة شفاء صلة وصل بين الأطباء المقيمين ‏في سوريا والمغتربين
  • إيران: خلافات لا تزال قائمة في المحادثات مع الولايات المتحدة