سلطان بن محمد القاسمي

مع وداع كل عام واستقبال عام جديد، تتسلل إلى عقولنا تساؤلات تلامس جوهر وجودنا: هل مضى العام السابق وانتهى بلا عودة؟ أم أن أثره ما زال عالقًا في نفوسنا وطموحاتنا وأحلامنا؟ هل مضى العام بما خططنا له وتمنيناه، أم أننا لم نحقق شيئًا مما رغبنا فيه؟ تكمن أهمية هذه التساؤلات في أن الإنسان هو في جوهره عبارة عن مجموعة من الأيام، فإذا مضى يوم مضى جزء من كيانه وعمره، فكيف وقد انقضى عام كامل، بل ربما أعوام عديدة؟ ولا يمكن للإنسان أن يجزم ما إذا كانت هناك أعوام قادمة في مستقبله أم لا.

الأيام تشكل لبنات الأعوام، والأعوام تشكل بناء العمر بأكمله. كما أنَّ الإنسان بحاجة لوقفة تأمُّل وتفكر ليسأل نفسه عما قدمه وادخره، وعما فاته وضاع منه: ماذا أعد للأيام القادمة من عزم وتصميم، ومن حكمة وتعلم من التجارب الماضية؟ عليه أن يستفيد مما أخطأ فيه ويعمل على تصحيح مساره، ويعزز مما أجاد فيه ويستمر في تطويره. يجب أن يكون استثمار العمر هدفًا رئيسيًّا، لا مجرد عيشه دون جدوى، وإن اقتناص الفرص والسعي لتحقيق الأهداف أمران ضروريان بدلاً من إهدار الوقت والفرص المتاحة.

إنَّ كل عام يمضي يجلب معه مكاسب وخسائر. قد نخسر في عام ما جمعناه من مال، أو نفقد حبيبًا رافقنا في رحلة الحياة، أو نبتعد عن صديق كان يشاركنا الأفراح والأتراح، قد نخسر أهدافًا وضعناها لأنفسنا وفشلنا في تحقيقها. لكن في المقابل، قد نكسب في هذا العام رفقة صالحة، أو نتعلم معلومة جديدة تضيف إلى حياتنا بعدًا مميزًا، أو نحصل على شهادة أكاديمية تفتح لنا آفاقًا جديدة. ينبغي أن نبدأ العام الجديد بروح متجددة، نطمح لكسب المزيد، ونشد العزم على تحقيق الأهداف التي كادت أن تضيع منا. إن إرادة قوية وعزيمة لا تلين يمكن أن تعيد لنا ما فقدناه وتحقق لنا ما نصبو إليه. لا تزال أمامنا الفرص مادام لدينا إيمان راسخ وعزم لا يتزعزع، وسعة صدر تستوعب التحديات وتستمر في التقدم.

نعم، هناك أمور مضت لكنها لم تمت، وأخرى قد تفلتت من أيدينا، لكن المستقبل يحمل في طياته الأمل بعودتها، لمن كان لديه قلب وعقل رشيدان. الأشياء التي تمضي في هذا الكون، بإذن الله، قد تعود بأشكال جديدة أو تعود بأثواب مختلفة. مادامت الحياة مستمرة، يظل الأمل موجودًا. وعندما سئل أحد العلماء عما سيفعله إذا علم أن ما تبقى من عمره هو ساعة واحدة فقط، أجاب بأنه سيطلب العلم. هذه الإجابة تعكس معرفة الرجل بما يريد، وإدراكه العميق لأهدافه، كان يسير في حياته ببصيرة ووعي، دون إضاعة الوقت بالتسويف والتأجيل، وكان مستعدًا للإجابة بسرعة ووضوح، لأن أهدافه لم تغب عن ذهنه يومًا.

وقد قال الخليفة عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه- مقولة حكيمة: "إن الليل والنهار يعملان فيك، فاعمل فيهما". وهذا يعكس فلسفة أن الوقت يمضي سواء أدركنا ذلك أم لم ندركه، لذا يجب أن نعمل بجدية ونستغل كل لحظة منه. الحياة، كما عبر عنها الشاعر العربي: هي دقائق وثواني: دقات قلب المرء قائلة له ... إن الحياة دقائق وثواني فارفع لنفسك بعد موتك ذكرها ... فالذكر للإنسان عمر ثاني.

إنَّ الإنسان العاقل هو من يغتنم كل دقيقة وساعة قبل أن تمر، مثلما قال الشاعر: إذا هبّت رياحك فاغتنمها، فعقبى كل خافقة سكون وإن درّت نياقك فاحتلبها، فما تدري الفصيل لمن يكون ولا تغفل عن الإحسان فيها، فما تدري السكون متى يكون".

ثم ماذا زرع أحدنا في عامه الذي مضى، وماذا جنى، وماذا ادخر؟ وهل أن أيامنا تشابهت فنعد من المغبونين؟ فكيف إذا تشابهت أعوامنا؟ بل وكيف إذا كان الماضي أفضل من القابل؟ لا شك أنها لخسارة ما بعدها خسارة. إنك إن نظرت إلى الماضي فعرفت أنك فقدت حبيبًا أو قريبًا، فهي إشارة بأن الدنيا تجمع وتفرق، وتقرب وتبعد، لكن يبقى صدق المودة وعبيرها هو الأصل الذي يحتكم إليه الحاضر أمام الماضي، لأن الجمال يبقى، والمودة أنقى، والعام الجديد أرض بكر لتروي فيها ما ذبل، وتجني فيها بعض ما زرعت، وتنمو فيها الباسقات ذات الثمر النضيد، وتواصل مسيرة محددة الأهداف واضحة الخطوات، مدركة الأبعاد، وإلا فيجب أن ترتسم في ذهن كل إنسان صورة لنفسه بين الناس، فيسعى لتعزيزها وهو يستقبل عامًا ويودع عامًا.

والآن هل خططنا لإدارة حياتنا طيلة الأعوام الماضية؟ إن لم نكن فعلنا، فلنفعل، ولا نكثر على الماضي التأسف، ولنأخذ بأيدي بعضنا بعضًا، ونتعاضد في شروع سفينتنا الواحدة، وأن نكون لبنات التشييد في سور مجتمعنا، وذواتنا، ووطننا، وأن نستقبل عامنا الجديد بروح وثابة، وإرادة قوية صلبة، وعزيمة تصمد للعاديات، وتصد الغازيات، وتقي بلادنا فتن الحروب والكربات. هذا كله يتوقف على حسن إدارتنا للوقت، والوقت هو الحياة، فالإخفاق في إدارته إخفاق في إدارة الحياة، وسيكون شأن الفاشل فيه عبئًا على نفسه وأهله ومجتمعه، وسيكون هو أول من يشكو من ضيق الوقت، ليعبر عن فشله بأنه لم يكن لديه الوقت، بينما هو هدر الوقت وذبحه. كل شيء يمكن أن يعوض إلا الوقت، فهو الفقيد وإلى الأبد، ولن تستعيض عنه إلا بمضاعفة الجهد والعطاء والإنجاز، والعناية بالدقائق - كما قيل - عناية بالساعات، والعناية بالساعات عناية بالعمر كله، وإلا فالخسارة لا تعوض.

لا عزاء بعد ذلك إلا لمن لا يملك الهمم العالية، والتخطيط السليم، والهدف الواضح، لرؤية سامية المبتغى والمقصد. تقول الدراسات الحديثة إن الإنسان الذي يعرف كيف يستغل وقته في أعمال مفيدة ونافعة، يكون أكثر سعادة من أولئك الذين يضيعون أوقاتهم من دون فائدة. السعادة مرتبطة بما يقدمه المرء من أعمال نافعة، وهذا ما أكده أيضًا علماء النفس من أن معظم الأمراض النفسية تنشأ نتيجة عدم الرضا عن الواقع، وهذه المسألة تسبب مشاكل نفسية وآلام لا تقل عن الآلام العضوية. النجاة من ذلك هي أن يحرص المرء أن يكون غده أفضل من يومه، وعامه الآتي أفضل من عامه الذي مضى.

فاحزم أمرك، وخذ مما مضى أجمله، وزد في تحصيل النجاح، واعتبر مما ضيعته، ولا تنكسر عند أعتابه، فبين يديك الآن ولادة عام جديد وأيام جديدة، فكن في ركب الطامحين، والقاصدين للعليا سببًا، ولا تصحب الكسالى، وعبيد اللهو والضياع، فكن للجديد جديدًا، وللشموخ صاحبًا ورفيقًا، وابدأ عامك بارتقاء وإصرار وطموح.

وفي سياق ما سبق، يتجلى لنا أن إدارة الوقت والاستثمار فيه ليس بالأمر الهين، بل هو مهارة تحتاج إلى تخطيط وإرادة. عندما نفكر في الأعوام التي مرت، يجب أن نتوقف ونتساءل عن مدى تحقيقنا لأهدافنا، وما إذا كنا قد استثمرنا وقتنا بشكل يلبي تطلعاتنا وأحلامنا. قد نجد في أنفسنا شعورًا بالندم على الفرص الضائعة، ولكن الأهم هو أن نأخذ هذا الندم كدرس يعزز من عزيمتنا في المستقبل.

علينا أن ندرك أن الوقت هو أغلى ما نملك، وأن كل دقيقة تمر هي جزء من عمرنا لا يمكن استعادتها. يجب أن نستثمر كل لحظة في عمل شيء مفيد، سواء كان ذلك في التعلم، أو العمل، أو حتى في الترفيه الذي ينعكس إيجابًا على صحتنا النفسية والجسدية. علينا أن نوازن بين مختلف جوانب حياتنا، فلا نغرق في العمل على حساب الراحة، ولا نتكاسل حتى نفقد قيمة الإنجاز.

 لنجعل من العام الجديد فرصة لتجديد العزيمة والإصرار، ولنسعى لتحقيق الأهداف التي وضعناها لأنفسنا، ولنجعل من إدارة الوقت أساسًا لنجاحنا. قد يكون الطريق مليئًا بالتحديات، لكن بالإرادة والتخطيط السليم، يمكننا أن نحقق ما نطمح إليه. فلتكن هذه السنة بداية جديدة مليئة بالإنجازات والسعادة، ولنجعل من استثمار الوقت جزءًا لا يتجزأ من حياتنا اليومية، حتى نصل إلى نهاية العام ونحن راضون عما حققناه، ومستعدون لمواجهة ما يأتي بعده بقلب قوي وعزيمة لا تلين.

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

السكر الأحمر في ولاية منح.. تراث زراعي متجدد واستثمار واعد

عرف العُمانيون منذ القدم زراعة قصب السكر وعصره لإنتاج السكر الأحمر، الذي لم يقتصر استخدامه على تحلية الأطعمة، بل كان جزءًا أساسيا من تقاليدهم الغذائية والدوائية. فقد استخدموه في صناعة الحلوى العُمانية الشهيرة، كما كان مشروبًا مفضلاً خلال فصل الشتاء، وعلاجًا شائعًا لأمراض البطن ضمن الطب الشعبي. ورغم مرور الزمن، لا يزال السكر الأحمر يحظى بمكانة خاصة وقيمة اقتصادية مرتفعة، إذ يصل سعر الكيلوجرام الواحد إلى خمسة ريالات، مما حفّز الأجيال الشابة على مواصلة زراعته وإنتاجه، حفاظًا على هذا الإرث الزراعي العريق.

وفي ولاية منح، يعد قصب السكر من الزراعات المعمرة إلى أكثر من خمس سنوات، حيث توجد زراعته كذلك في العديد من الولايات، نظرا لما يمثله من مصدر دخل لهم.

وقد بدأ العمل في المعصرة باستقبال قصب السكر الذي تم حصاده مؤخرا من مزارع "العويجا" بالولاية، كما تستقبل المعصرة القصب من الولايات المجاورة، حيث يبدأ العمل بشكل متواصل خلال أيام شهر رمضان المبارك بعد التوقف لما يقارب من عام كامل، مع انتهاء الموسم الماضي، وتمثل هذه الفترة ذروة إنتاج السكر الأحمر مع استكمال عمليات الحصاد ووصول المحصول تباعا إلى المعصرة بنظام الحجز اليومي، حتى يتمكن العمال من إنجاز العصر أولا بأول ودون فترات تأخير قد تؤدي إلى تراجم أعواد القصب. فعملية العصر تقوم على الآلة لكن العامل البشري يمثل عنصرا مهما، حيث يقوم بتلقيم آلة العصر أعواد القصب لاستخراج مادة "الشارج" وهو العصير الأولي للقصب، ومن ثم يتم تفريغه في مراجل مخصصة للطبخ على موقد باستخدام الديزل، وتستمر عملية الطبخ لمدة ثلاث ساعات تقريبا في المتوسط ويمكن أخذ "الزيج" من "المرجل" قبل تمام النضج بساعة تقريبا وهو الذي يستخدم بديل عسل النحل ليرش على خبز "الرخال" للأكل، وبعد اكتمال النضج ينقل العصير ساخنا ويوضع في أحواض التبريد المخصصة لهذا الغرض حتى يجمد ويتبخر منه ما بقي من الماء، ثم يوضع في علب وأواني التخزين أو في "جراب الخوص"، المتعارف عليها محليا والمصنوعة من سعف النخيل، ليسهل جفافه ونزول مادة "الخمير" منه والتي تدخل هي الأخرى في مكونات غذائية مثل صناعة الحلوى العمانية ليعطيها مذاقا ونكهة مميزة وبالتالي سعرا أعلى.

العمليات الزراعية لقصب السكر

وتعد منطقة "العويجا" الزراعية الخصبة في ولاية منح من المناطق التي تتمتع بتربة خصبة تناسب المحصول، مع وفرة المياه خاصة في المواسم الأخيرة، حيث غزارة فلجي الخطم. وتتطلب زراعة قصب السكر عمليات زراعية طويلة إلى جانب الري والتسميد وتهيئة الأرض. وتتابع دائرة التنمية الزراعية وموارد المياه في ولاية منح اهتمام المزارعين بزراعته من خلال المتابعة والتوجيه والإرشاد ومد المزارعين بالتقاوي الجيدة ومكافحة الآفات الزراعية للمحصول.

يرى محمد بن خلف المسروري صاحب معصرة "الزبادية" لعصر قصب السكر أن الجهود يجب أن تكون مضاعفة من خلال تدخل وزارة الثروة الزراعة والسمكية وموارد المياه من أجل تطوير المعاصر وإدخال تقنيات حديثة على عمليات الإنتاج والتصنيع حتى لا يبقى السكر الأحمر مجرد مادة خام. وربما يكون من الضروري إنشاء مصنع متخصص لإنتاج مكونات السكر الأحمر وإعادة تصنيعه واستخراج مشتقات متنوعة للسوق المحلي والتصدير بما يحقق الاكتفاء لجوانب متنوعة منه وخاصة أنه يدخل في صناعة الحلوى العمانية ذات الجودة العالية حتى يحقق قيمة مضاعفة للمزارع.

وتبدأ زراعة قصب السكر نهاية شهر مارس من كل عام، حيث يستمر المحصول عاما كاملا برعاية وري وتسميد، فيبدأ المزارع بحراثة الأرض وعمل الخطوط والأخاديد لثبات التقاوي عند غرسها في التربة لمواجهة الرياح التي قد تحدث على فترات الموسم الممتدة أحد عشر شهرا مع إضافة ثلاثة أكياس من "سوبر الفوسفات" في التربة ثم "سماد اليوريا" لاحقا ثم تتواصل عمليات المتابعة حتى الوصول لمرحلة ربط الأعواد ثم يتم قطعها وتقشير اللحاء الخارجي والأوراق والفروع الخضراء لتبقى العيدان بطولها نظيفة وسهلة العصر لتتم عملية الحصاد أو ما يسمى بمرحلة كسر القصب، ثم يقوم المزارع بربط الأعواد على شكل "كومات" وشحنها إلى موقع المعصرة ويتم الحصاد خلال شهري مارس وأبريل من كل عام. وهكذا تستمر علاقة المزارع بهذا المحصول على مدى عام كامل حتى تبدأ عملية الحصاد ويتم بعد ذلك شحن كميات قصب السكر بعد قطعه وربطه في حزم ثم نقله إلى موقع المعصرة.

مقالات مشابهة

  • بتوجيهات محمد بن راشد.. مشاريع جديدة لتعزيز جودة الحياة في دبي
  • ضمن مشروعات «عودة الحياة».. تسليم مدرسة جديدة في مصراتة
  • "أوبك+" يقرر زيادة حصة من الإنتاج النفطي حتى نهاية العام الحالي
  • أوبك+ يقرر زيادة حصة من الإنتاج النفطي حتى نهاية العام الحالي
  • السكر الأحمر في ولاية منح.. تراث زراعي متجدد واستثمار واعد
  • البترول تطرح فرصا استثمارية جديدة بالبحر المتوسط وخليج السويس لزيادة الإنتاج
  • موعد امتحانات الترم الثاني 2025 و إجازة نهاية العام لطلاب المدارس| توضيح عاجل
  • كيف نكون في رمضان ؟
  • "معًا نتقدَّم".. حوار وطني بسقف عالٍ ووقت محدود
  • «تأملات بيانية بالذكر الحكيم» محاضرة قرآنية في نادي مليحة