طاولات معدودة، مُزيّنة بتفاصيل شديدة النعومة والرقة، مُقننة بعدد الأشخاص المُتوقع حضورهم، طعام متنوع وفاخر لكنّه مُقدّر. قاعات مُجهزة بكل ما قد تطلبه الحفلة من احتياجات جمالية وتقنية. هذا ما يحدث مؤخرًا في أغلب مناسبات «الملكات» و«الأعراس» التي نحضرها منذ أن أفصح الصيف والإجازات عن قدومهما.. وهنا لا أتحدث عن مسقط وحسب وإنّما عن القرى البعيدة أيضًا.
فقبل أقلّ من عشرين عامًا، كابد مُجايلونا مشقة هائلة بسبب اتساع دائرة المعازيم التي كانت كلما وصلت إلى رقم خُرافي تَمثّلت قيم الكرم والعطاء في أكثر صورهما بهاء. يصل الأمر بالبعض لأن يستلف مبالغ طائلة لتوقد المراجل، لتطعم الأفواه القادمة من أماكن شتى. تلك الأفواه التي نُربي الخشية منها فإن لم تشبع تتفوه بكلام قد يُفسد كل شيء!
كانت قدرتنا على تحديد عدد المعازيم ضبابية، الأمر الذي يدفع الأهل لقلق هائل، ولذا تعمل الحكمة التي تقول: «يزيد ولا يقصر»، فيبقى الزوجان في شقاء جرّاء ما تجلبه تلك الحكمة من تهلكة لأيامهما المقبلة!
لا أعرف على وجه الدقة إن كانت العادة الأخرى المتعلقة بتوزيع أجزاء من مهر العروس لأقاربها قد انقرضت أم لا؟، فقد كانت تفصيلا أساسيا من تفاصيل الكرم والعطاء أيضا، وكأنَّ الأقارب والجيران الذين شاركوا في تربيتها من حقهم أن يحصلوا على شيء ولو يسير من مهرها! الأمر الذي يُصعب عليها شراء احتياجاتها الأساسية في وقت تتنامى فيه الأسعار بشكل مرعب.
أمّا العادة التي أرغب من كل قلبي أن تكون قد تلاشت، فهي تلك المتعلقة بدعوة النساء للنظر فيما اشترته العروس من ذهب وثياب وحاجيات، حيث تجلس العروس هلِعة من أي تعليق قد يُصيبها، وفزعة من أن يكون ذوقها الشخصي محط تقييم عندما تُمرر أشياؤها بين الأيدي ! هذه العادة كانت تدفعنا لشراء ما لا حاجة لنا به، ليرى الناس أن لا قصور يشوبنا!
ثمّة تغير جذري أصاب مناسبات اليوم، تمثل أول ما تمثل في تقليص دوائر المعارف الكبرى إلى دوائر صغيرة، وكما يبدو فثمّة عوامل جديرة بالدراسة والتمعن لرصد هذه التحولات، فقد بدا للعين المجردة أنّها امتداد خفي لما أحدثه وباء كورونا من تغيّر في بُنى المجتمع العُماني، فذلك الإبعاد القصري والإقصاء الحاد كَمَن فينا، غيّرنا بدرجة أو بأخرى، حتى صرنا أكثر التفافا على دوائرنا الصغرى، وأكثر عناية بالتفاصيل، على نقيض ما قد يقترحه حضور الأعداد الكبرى من حالة تقشف، إذ يذهب جل تفكيرنا في الإطعام لا في صيد الرفاهيات الأخرى.
علينا ألا ننكر أنّ الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي يمر بها جيل الشباب، جعلتهم أقلّ ارتهانا لرؤى الأجيال التي سبقتهم وأكثر اعتدادًا بوجهات نظرهم الخاصة، على نقيض أجيالنا التي كانت أكثر استلابًا وتسليمًا وخضوعًا فلا نفصح عن رغباتنا بهذا الوضوح، كنا نمضي غالبًا في الأفق المتوقع منا، رغم عدم اقتناعنا بالكثير من المسائل.
الأمر برمته رهن تدافع الأفكار وتغيّر الوعي وربما هذا الجيل يحصد ثمار ما كنا نزرعه من محاولات للانفلات من قبضة العادات المهيمنة.
لقد تملّص هذا الجيل -إلى حد ما- من عبء الجماعة وانتصر لفرديته وخياراته، ربما لأنّ الآباء والأمهات الجُدد باتوا الآن من حاملي الشهادات، ولأنّهم قبل عقود قليلة كانوا يرغبون في قول كلمة «لا» لكن الصمت كان يغلفُ ضجيج احتجاجاتهم الداخلية.
لكن بشيء من التروي نُدرك أيضا أنّ هذا الجيل لا يُقدّم صورة مثالية بالتأكيد، فثمّة مبالغ هائلة تذهب في تفاصيل لم نكن نراها بعين الأهمية، لكنه يراها كذلك، وغالبًا ما تنضوي تلك الرغبات تحت هوس التصوير والثيمات والأزياء، التي تصنعُ -ربما- استلابا من نوع آخر!
هدى حمد كاتبة عمانية ومديرة تحرير مجلة نزوى
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
لولا كلمة..
تذهب الفكرة هنا إلى أمرين أساسيين؛ الأمر الأول: الالتزام «المادي» بما تعهد به المرء أمام الآخر من قول، وهي العلاقة التشاركية بينه وبين الآخرين من حوله، والأمر الثاني: الالتزام «المعنوي» بما تعهد به المرء أمام ذاته؛ وهي العلاقة الضمنية بينه وبين نفسه، وهذا الالتزام فـي كلا الحالتين، هو التزام يعبر عن مستوى عال من الصدق والأمانة، اللتين يتحلى بهما المرء، وهما الأمران اللذان يقاس عليهما الحقيقة الإنسانية التي يتحلى بها هذا المرء أو ذاك، ولأهمية هذا الأمر، فإنه لا يمكن أن يقاس على فترة زمنية معينة دون أخرى، بمعنى لا يمكن تعطيل هذه الحقيقة فـي فترة زمنية ما، على اعتبار أن الزمن تغير، وأن الجيل؛ ربما؛ قد تجاوز هذه الثقافة المتوارثة، ويحمل ذلك الزمن، حيث يقال: الزمن الآن لا يتسع لمثل هذه هذه المثاليات، فمثل هذه القناعات تتقاصر عن تأثير ثقلها على واقع الناس، فالناس ملتحمون بهذه المثل، مهما كان الزمن قاسيا فـي تجاوزها، حيث لا يمكن إنكار تأثيرها على حياة الناس فـي التعامل فـيما بينهم.
الكلمة سيف مسلط على رقاب العباد، مهما تغيرت ظروف الحياة، ومهما تبدلت القناعات بين الأفراد، فمسار العلاقات بينهم قائمة على كلمة، فالحق كلمة، والباطل كلمة، وما بين العفو والانتقام كلمة، وما بين الرضا والسخط كلمة، ولذلك يشدد فـي الماضي؛ كما هو الحال؛ فـي الحاضر على ضرورة حفظ اللسان، وعدم التفريط فـي القول، والأمثلة كثيرة، والمواقف أكثر فـي صور وقوع الناس فـي مآزق التفريط، وتحمل المسؤوليات؛ فقط؛ لأنهم لم يضعوا للكلمة حقها من الحذر والاحترام، والتقدير، «وهل يكب الناس فـي النار على وجوههم فـي النار أو على مناخرهم، إلا حصائد ألسنتهم» - كما جاء فـي نص الحديث - يحدث هذا فـي وقت كان الخطاب مباشرا، وربما يحتاط الإنسان على نفسه كثيرا؛ خاصة؛ فـي المجالس العامة والخاصة، ومع ذلك فمأزق السقوط فـي كلمة غير مقصودة متوقع وبدرجة كبيرة، فالإنسان بطبيعته يحب أن يسمع له الآخرون، وأن يكون على قائمة المتحدثين، وأن يروي قصصا وأخبارًا - صدقا أو كذبا - لمن يستمع له، حيث تأخذه نشوة الحديث إلى عدم التفريق بين الخطأ والصواب فـي قول الجواب، فـيقع فـي المحظور.
فكيف الحالة الآن عبر وسائل التواصل المختلفة، عندما يكون الفرد منزويا مع ذاته، لا مشاركة مادية مباشرة ترسل له إشارات استفهام، أو تعجب، أو عدم استحسان، كيف الأمر الآن، والجميع يُنَظِّرْ على طول الأرض وعرضها، لا يفرق بين صالح وطالح، ولا بين صديق وعدو، ولا بين حاكم ومحكوم، ليس أمامه إلا تلك الشاشة الصغيرة يتفنن من خلالها إرسال التهم، والأباطيل، والقذف، والسب، واللعن، ولا يترك لنفسه مساحة للمراجعة، إلا بعد «وقوع الفأس على الرأس» حيث يثور هذا وذاك، وهذه وتلك، عليه، يطالبون بالقصاص من لسانه؛ الذي لم يوفر لهم مظلة للأمان، من جراء تسلسل التهم الباطلة، والله إنها لكبيرة من الكبائر، والناس عنها غافلون.
(لولا كلمة).. قد تردع هذه الكلمة سلوكًا؛ ربما سيكون شائنا؛ فـي حق آخرين، وربما قد يؤدي إلى ظلم آخرين، وربما قد يؤدي بآخرين إلى مهالك لا أول لها ولا آخر، كلمة حفظت سرا، وأغمضت عينا، وسَمَّرَتّْ قدما، وأحيت نفسا، وأوقفت حربا، وجلت قدرا، وأوقفت نزيفا، وحافظت على ماء وجه؛ كاد أن يراق على أرصفة الضياع.
هل الأمر صعب؟ قد يجاب بـ «نعم» وقد يجاب بـ «إطلاقا» وفـي كلا الحالتين يحتاج الأمر إلى كثير من الصمت، ومن السمت، ومن التعقل، ومن ممارسة ضبط النفس، فمآلات حصائد الألسنة - أغلبها - مصائب.