د. عبدالله باحجاج

سكان دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، ما عدا دولتين، تشكل ديموغرافيتها الوطنية -مواطنيها- الآن أقليات؛ إذ لا يتعدون 20% من إجمالي السكان، بينما البقية تستهدف التساوي العددي بين مواطنيها ووافديها، ولا يدرك خليجيًّا -أي على مستوى الدول الست- أنَّ هناك تحديات مُقبلة قد لا تمكنها حتى من الحفاظ على تلكم النسب الفعلية والمستهدفة، هذا إذا اعتبرنا التساوي العددي بين المواطنين والوافدين مُسلَّمًا به من حيث مستقبل تأثيراته الاجتماعية والسياسية، وهذه التحديات لها منزلة الضرورة المستعجلة الآن، وهي التي تقف وراء فتحنا لهذا الملف، لكي نضعها فوق الطاولات السياسية للتفكير فيها، واستدراك ما يجعل المستقبل آمنًا، وقبل أن تتبلور تداعياتها -أي التحديات - في البنية السكانية لكل دولة.

كُبرى هذه التحديات وأخطرها تراجع نسبة الخصوبة في منطقة دول مجلس التعاون الخليجي؛ ففي المؤتمر الخاص بالأسرة الذي عقده مركز دراسات الخليج بجامعة قطر -بالتعاون مع المعهد الدولي للأسرة- تحت عنوان "الأسر الخليجية: الاستمرارية والتغيير"، كشف عن تراجع نسبة الخصوبة بشكل يُثير القلق؛ إذ يبلغ معدله الإجمالي لمنطقة دول المجلس الخليجي (1.8) 2022 وهو أقل من المعدل (2) العالمي للحفاظ على ثبات عدد السكان، وحسب أحد المواقع الإحصائية، فإنه من المتوقع أن ينخفض معدل الخصوبة في الخليج إلى 1.5 بحلول العام 2060، ويرى خبير عربي قدَّم ورقة في هذا المؤتمر أنَّ المفاجأة بأن نسب الطلاق ليست بالمشكلة المرعبة المتصورة قبل المؤتمر، ولكن المشكلة الأهم هي العزوف عن الزواج، مُوضِّحا تقارب نسبة الإناث مع الذكور إلى حد المناصفة، مستشهدا بدولة كبيرة في الخليج عندما قال إنه من بين 10 فتيات هناك 7 منهن لم يسبق لهن الزواج.

وهنا التساؤل الذي نستخلصه مما سبق، وهو: كيف تضمن الدول الخليجية الحفاظ على نسبها الديموغرافية الوطنية 20% الفعلية، أو 50% المستهدفة في ظل تراجع معدل الخصوبة وزيادة عدد الوافدين؟ هنا مكمن القلق الكبير من حيث الكم. أمَّا من حيث الكيف الذي يعمق القلق، وهو سيكون متلازمًا للاختلال السكاني في الخليج، فهو أن الوافدين الجُدد للخليج يأتون مع أموالهم وأسرهم وأيديولوجياتهم للاستقرار الدائم، ويؤسسون لهم كياناتهم الفكرية في موازاة مع تأسيس كياناتهم الاقتصادية والتجارية والمالية، وتتم برعاية ودعم الدول الخليجية المستقبلة لهم، مما تجد معه الدول هنا نفسها تحت التسليم لهم بمُمارسة دياناتهم ومعتقداتهم أسوة بمكونها الديموغرافي الوطني.

ويُرافق سياسة الانفتاح الخليجي نحو الأجانب تغيير مفاهيمي من منظور نيوليبرالي، وهو اعتبار العامل الديموغرافي -السكان- ببعديه الوطني والأجنبي كمصدر دخل -إيرادات عامة- وكلما كان عدد سكان أي دولة قليلا كانت الإيرادات بالمثل، والعكس صحيح؛ لذلك لابد أن يكون عدد السكان كبيرًا حتى تكون في المقابل الإيرادات السنوية كذلك. ومن هنا، تستهدف الدول رفع عدد سكانها لدواعٍ مالية وتحريك تجارتها الداخلية، لكن الخطورة هنا أنَّ رفع عدد السكان يكون من منظور الوافدين وليس المُواطنين، خاصة في ظل ما أوضحناه سابقًا من تراجع معدل الخصوبة لأسباب كثيرة؛ منها: تأخر الزواج والعنوسة والبطالة وتفضيل الأجنبيات؛ ففي إحدى الدول الخليجية وصل بها الشعور بالخطر إلى تدخل مُفتيها للمطالبة بتقنين الزواج من الأجنبيات بعد أن أفرز مائتي ألف طفل خلال بضع سنوات، وكذلك يرجع إلى بروز مفاهيم جديدة عند الجيل الخليجي الجديد وبالأخص عند الإناث، وهي الاستمتاع بالحياة في ظل الراتب، وإثبات الذات الوظيفية قبل تحمل مسؤوليات الحياة الزوجية والأسرية.

وفي ظل هذه المفاهيم، قد يفشل الزواج عند أي تحدٍّ قد يواجهه.. وعند الكثير من المتزوجات العاملات سنجد حنينًا للعزوبية، لأنهن لم يعُدن يتحملن ضغوطات التربية واستحقاقات التعليم، والبعض منهن تركن قضايا التربية للشغالات، وهناك في المقابل من ينظرن للعمل كوسيلة لحياة تشاركية فاعلة مع الزوج لإقامة حياة سعيدة بدخلين يعززان تربية وتعليم أولادهم، تأسيس أسرة مترابطة متضامنة لمستقبل العمر القادم، فشتان بين الجانبين، وهذا يعني أنَّ هناك خللا في التفكير يُصيب جيلًا ليس بقليل العدد، لكنه في تزايد يحتم مواجهته بخطط وبرامج عاجلة.

إذن، إلى أين تسير منطقة دول مجلس التعاون؟ التساؤل مُستهلك من حيث التداول، لكن من خلال ما أوضحناه سابقًا نرى أنَّه لم يكن متماهيًا مع الواقع مثل ما هو الآن، وهو الآن في توقيته الزمني وفي استحقاقاته السياسية، ولا ينبغي أن تعتقد أي دولة أنَّها بمنأى عن هذه القضية، الدول الست غارقة فيها مع التباين.. فالخليج سيواجه -لا محالة- مشكلة نقص المواطنين مقابل زيادة الوافدين، والنظرة التشاؤمية من الحاضر يمكن إطلاقها نتيجة التفوق العددي للوافدين على المواطنين في ثلاث دول خليجية على الأقل؛ فكيف بعام 2030 وهو عام نهاية معظم رؤى الخليج التنموية بكل استهدافاتها المالية والاقتصادية والسكانية: التساوي عدديا بين المُواطنين والوافدين؟

وماذا سيكون مستقبل القوة الناعمة الخليجية؛ سواء كان المواطنون أقلية أو متساويو العدد؟ الإجابة عن هذا التساؤل تحتاج لسلسلة مقالات، لكننا نكتفي بالإشارات التالية:

- سيختل ميزان القوة الناعمة الخليجية لصالح القوة الناعمة الأجنبية داخل كل دولة، وسيفرضون أجندتهم الأيديولوجية، وستكون قوتهم الناعمة الأقوى -تأثيرًا وعدديا.

- الاختلال لصالح الوافدين يتم في إطار محيط إقليمي: دولة مكتظة بالسكان، كاليمن والعراق وإيران.. إلخ.

- سيطالب الوافدون بالمشاركة في اتخاذ القرارات وصناعة التشريع والرقابة.

- سيعلِّمون أبناءهم التعليم المنتج للمهارات والكفاءات والقدرات؛ فالتعليم الراقي في الخليج مدفوع الثمن؛ فهناك مدارس دولية تنسخ من ترابها الأجنبي -فكرًا ووجدانًا- وتزرع في كل دولة، وتؤسس الأبناء من مرحلة ما قبل الدراسة، وتذهب بهم إلى ما بعد الجامعة.. إلخ.

- سيكون الوافدون محتكرين للقطاع الخاص الذي تعوِّل عليه الأنظمة في الخليج لتشغيل الخليجيين؛ مما يصبح معه الجيل الخليجي الجديد تحت تأثيرهم المباشر، لأنهم المالكون للمال والوظائف.

وبالتالي؛ فإن كلَّ المخاطر العابرة للحدود والتي تخشى الآن منها الدول الخليجية؛ مثل: المثلية والنسوية والإلحاد...إلخ ستجد بيئات داخلية مؤاتية لها وبسهولة، وكما يقولون: "الكثرة تغلب الشجاعة"، وكما يقولون: "الفقر بوابة الكفر"، ومن ثم على كل عاصمة خليجية أن تجيب من الآن عن التساؤل التالي: أي مجتمع جديد تريد صناعته بسياساتها المالية والاقتصادية والسكانية الجديدة؟ قد نتناول الإجابة عن التساؤل في مقال مُقبل.

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

ممثل الأمير بعث ببرقية شكر إلى أمير قطر: استضافة بلدكم لمؤتمر القمة رسَّخت دورها الهام في المجتمع الدولي

وإذ أغادر بلدي الثاني دولة قطر الشقيقة عائدا إلى دولة الكويت بعد حضور مؤتمر القمة الثالث لحوار التعاون الآسيوي تحت شعار «الديبلوماسية الرياضية»، الذي عقد في الدوحة ممثلا عن صاحب السمو الأمير الشيخ مشعل الأحمد، أود أن أعرب لسموكم عن أعمق آيات الشكر وأصدق معاني الامتنان، لما حظيت به والوفد المرافق من حسن وفادة وكرم ضيافة وحفاوة أصيلة نابعة من كريم سجاياكم معبرة عن عمق الروابط التاريخية ووشائج الأخوة الوطيدة التي تجمع بلدينا وشعبينا الشقيقين.

وأؤكد أن استضافة بلدكم الشقيق لمؤتمر القمة الثالث لحوار التعاون الآسيوي وبمشاركة رفيعة المستوى، رسخت الدور الهام لدولة قطر الشقيقة في المجتمع الدولي، وجسدت حرصها على تعزيز مكانة الدول الآسيوية لتتبوأ مكانتها في العالم من خلال إبراز دور الرياضة في توطيد العلاقات بين الدول الأعضاء، وفتح آفاق جديدة للتعاون المشترك بينها، والدفع بها إلى مستوى شراكات أعلى وأرحب، للوصول إلى ما نتطلع إليه جميعا من خير لأوطاننا وصالح شعوبنا في ظل الظروف والمتغيرات الدولية الدقيقة التي لسنا بمعزل عن آثارها وتداعياتها.. وبكل تقدير وثناء أشيد بما بذلتموه سموكم من تنظيم متميز وجهود واضحة توجت بنجاح هذا المؤتمر، موقنا بأن ما توصل إليه من نتائج إيجابية سيسهم في الارتقاء بالشراكة الاستراتيجية الآسيوية لتحقيق التنمية المستدامة المنشودة.

وأسأل الله (عز وجل) أن يحفظ سموكم، ويمتعكم بموفور الصحة والعافية، وأن يديم على دولة قطر وشعبها الشقيق الازدهار والرخاء والرقي في ظل قيادتكم الحكيمة.

وتفضلوا صاحب السمو بقبول أسمى عبارات مودتي واعتباري،،

مقالات مشابهة

  • أميركا.. إلى من تميل المجموعات الديموغرافية الرئيسية بانتخابات 2024؟
  • وزير البترول يشارك في افتتاح القمة التاسعة عشر للفرانكفونية بباريس
  • وزير البترول يشارك في افتتاح القمة التاسعة عشرة للفرانكفونية بباريس
  • العراق يتحفظ على عبارة دولة إسرائيل
  • 101 دولة في التحالف العالمي قبل نهاية 2024
  • ناشطون يهاجمون مقر جامعة الدول العربية في تونس احتجاجا على موقفها من الحرب على فلسطين ولبنان
  • وزيرة المالية تؤكد أهمية توطيد العلاقات الاقتصادية الخليجية
  • ممثل الأمير بعث ببرقية شكر إلى أمير قطر: استضافة بلدكم لمؤتمر القمة رسَّخت دورها الهام في المجتمع الدولي
  • زعماء 30 دولة يشاركون في قمة «بريكس»
  • ‏إلى أركان الطبقة السياسية‬ في العراق‬ :