غزة– بينما يتنقل سكان العالم بين القارات لقضاء عطلة الصيف، فإن سكان غزة ينزحون بأبنائهم من مخيم إلى مركز إيواء سعيًا لمحاولة البقاء على قيد الحياة، في ظل حربي الإبادة والتجويع.

ومنذ 9 أشهر يواجه نحو مليوني فلسطيني في قطاع غزة شتاءً مريرا في قسوته، والآن صيفا ملتهبا وأمعاء خاوية، في ظل أسواق خالية مما يسدّ الجوع أو يطفئ الظمأ.

يقول المتجولون في شوارع غزة إن الحصول على الماء أصبح أمنية، وتحصيل العذب منه غنيمة، أما أن يكون الماء مثلجًا فيعدّونه من نعيم الآخرة الذي لا يظفر به إلا المحظوظون.

فمع تنفس الصباح يخرج الغزيون بعبوات المياه الفارغة يجرّونها إما على عربات أطفالهم أو على عربات تجرها الحمير، حيث يفتتحون نهارهم بالوقوف في طوابير الانتظار، ويرزحون ساعاتٍ تحت لهيب الحر والرطوبة المرتفعة من أجل ريّ ظمئهم.

تتحدث سيدة ستينية -للجزيرة نت- خلال انتظارها عودة ابنها من طابور المياه الذي لا يُبصر العيان آخره، وهي تمسح العرق المتصبّب من جبهتها بطرف منديلها، وتقول "هذا أقسى صيف يمرّ علينا من كل النواحي؛ نقف أمام النار ساعات لنطهو الطعام، ونحمل فيه الهمّ أن نعطش لأن الحصول على الماء معاناة".

الثلج الملون يعدّ الشراب السائد في شوارع غزة في ظل اختفاء المرطبات والعصائر الطبيعية (الجزيرة) شراب لا يروي وطعام لا يشبع

إلى الأمام قليلًا يطوف عجوز بظهرٍ محنيّ على الباعة في سوق الصحابة وسط المدينة، يسأل "هل من ماء؟"، حيث قطع الشارع ذهابًا وإيابًا دون أن يجد ما يرطب جفاف فمه، فاستسلم للشراب السائد والوحيد الذي يعرفه جُلّ الغزيين الآن.

ففي صندوق بلاستيكي يحفظ البرودة من الداخل عشرات أكياس الثلج الملون بأصباغ لا يُعرف لها نكهة، حتى إن تذوقتها، فلا لونها لون الماء ولا طعمها طعم العصائر.

يقول بائعها ردا على تعليق أحد المارّة "هذا ثلج وصبغة فحسب!"، موضحا "كنّا نضع السكر ونصنع شرابًا ونبرّده، لكننا امتنعنا عن وضع السكر، لأن الكيلو منه أصبح بـ100 شيكل (ما يعادل 30 دولارا)"، بينما يتناول العجوز منه وهو يعلّق "ليس له طعم! لا يهم، لكن المهم أن نجد شيئا يبرّد قلوبنا. منذ زهاء ساعة وأنا أبحث عن أي أحد يبيع ماءً فلم أجد".

لا يقتصر الأمر على عدم توفر الماء والمرطبات والعصائر فحسب، فانعدام الطعام أيضًا يحول دون شعور الغزيين بدخول الموسم الصيفي.

فقد اختفت من أسواق غزة طبخات الصيف التي اعتادها الفلسطينيون، فلا شيء سوى أوراق شجر التوت والليمون والفلفل الأخضر الذي يصل سعر الكيلو الواحد منه إلى 400 شيكل، أي ما يقارب 110 دولارات.

يقول أبو رائد، بائع الخضار في سوق الصحابة -في مقابلة مع الجزيرة نت- "طبخات الصيف ليست موجودة في السوق، ولا يوجد أيّ صنف من الفواكه منذ أشهر، فالبطيخ والمانجو والخوخ ليست موجودة والبطاطس والطماطم والفاصولياء والكوسا كذلك".

ويعزو أبو رائد شحّ المتوفر وقلة الإنتاج إلى "عدم قدرة المزارعين على الوصول إلى أراضيهم الموجودة على المناطق الحدودية، فيزرعون بين البيوت وفي حواكير المنازل".

ويتابع "لا يوجد كهرباء ولا وقود لتشغيل مولدات المياه للسقيا، ولا أسمدة أو مبيدات حشرية، لذا فحتى الخضار الموجودة مختلفة في الصنف والجودة عن كل صيف".

غصة انتهاء العام الدراسي

صيفٌ اختلفت ملامحه واختفت طقوسه ولم ينل منه الفلسطينيون إلا حرارته، حيث التقت الجزيرة نت عددًا من الأمهات اللواتي تحدثن عن شعورهن مع بدء العطلة الصيفية، في ظل استمرار حرب الإبادة.

تعبّرُ تسنيم (أم لـ3 أطفال) عن حزنها حين رأت إعلانات مموّلة لفعاليات عطلة الصيف خارج فلسطين ظهرت لها على وسائل التواصل الاجتماعي، فتقول "انتهاء العام الدراسي للأطفال في العالم وبدء عطلتهم يشعرنا بغصة، كيف مرّ كل هذا؟ وقد كنّا نخطط في مثل هذا الوقت لمشاريعنا ونتباحث عن المخيمات والدورات التي سيلتحق الأولاد بها".

وتكمل "لقد دمرت الحرب كل شيء، وخاننا الوقت فأصبحنا كالتائهين لا نعرف الأوقات وتختلط علينا الفصول والمواسم".

تبدو معالم الحسرة ذاتها على وجوه معظم الأمهات الغزيات اللواتي يُجمعن أن ثمة حربا أخرى ستبدأ بعد انتهاء الحرب، فقد ضاعت الحياة وتفاصيلها وفُقدت المنازل، وإن بقيت فقد رحل من فيها، وتغيّرت ملامح الشوارع والتبست الأماكن حتى تلك التي كانوا يقصدونها للترويح والتخفيف عن أنفسهم، فلا مطاعم متبقية ولا نوادي رياضية ولا ملاعب ولا حدائق أو متنزهات.

شملت حرب الإبادة كل شيء، لكنها لم تستطع القضاء على بحر غزة الذي يتكدّس على شطآنه آلاف الفلسطينين، حيث يتواعد الأصدقاء الذين حالت الحرب دون التقائهم ببعضهم منذ شهور. ثمة عناقات ودموع رافقتها تعليقات من قبيل "وأخيرًا وجدنا وجوهًا نعرفها بعد نزوح عدد كبير من أهالينا وسفر آخرين".

مئات الفلسطينيين يتكدسون على شاطئ بحر شمال غزة للاستجمام والترويح عن أنفسهم (الجزيرة) استجمام رغم الألم

يقول صائب الزرد، وهو صاحب استراحة وُلدت في الحرب، "بعد انسحاب الاحتلال من شارع البحر شمالي القطاع، أتيت مع أصدقائي إلى البحر لنستجم، فراودتنا فكرة أن نهيئ الشاطئ لاستقبال الناس".

عشرات الطاولات والمظلات ومئات الكراسي متناثرة على رمال الشاطئ، يبدو الإقبال غير متوقع لأصحاب الاستراحة، خاصةً بعدما كسر الناس حاجز الخوف من الاقتراب من البحر المليء بالزوارق الإسرائيلية.

يقول الزرد للجزيرة نت "من المفترض أن تكون لدينا قائمة أطعمة ومشروبات باردة وساخنة، لكننا نكتفي بتقديم القهوة والشاي التي تتطلب مجهودًا لإشعال الحطب لتحضيرها".

وبينما تسقط الشمس من كبد السماء إلى حضن البحر، في لحظات مغيب يتسمّرون أمامها، وهم يرقبونها بصمت يخفي ضجيجًا مدوّيا في دواخلهم، ينتظر الغزيون حلول فجر جديد لا قتل فيه ولا خوف ولا جوع، ليستعيدوا ذواتهم ويلتقوا بأحبتهم الذين لا يبعدون عنهم سوى شارع واحد ودقائق معدودة.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات

إقرأ أيضاً:

تغير المناخ يضاعف موجات الحر في البحار ويهدد التوازن البيئي

تسبب تغير المناخ في مضاعفة مدة موجات الحر البحرية 3 مرات، مما أدى إلى تفاقم العواصف المميتة وتدمير أنظمة بيئية حيوية في المحيطات مثل الشعاب المرجانية ومروج الأعشاب البحرية، لا سيما في البحر المتوسط، وفق دراسة حديثة.

ووفقا للبحث، المنشور أمس الاثنين في مجلة "وقائع الأكاديمية الوطنية للعلوم"، فإن نصف موجات الحر البحرية التي شهدها العالم منذ عام 2000 ما كانت لتحدث لولا ظاهرة الاحتباس الحراري الناتجة عن حرق الوقود الأحفوري.

كما أوضح البحث، الذي يعد أول تقييم شامل لتأثير أزمة المناخ على موجات الحر في محيطات العالم، أن موجات الحر البحرية لم تزد فقط من حيث التكرار، بل أصبحت أكثر حدة، مع ارتفاع درجات الحرارة بمتوسط درجة مئوية واحدة، بينما شهدت بعض المناطق ارتفاعات أكبر بكثير.

المتوسط "يغلي"

وأكدت مارتا ماركوس من معهد البحر المتوسط للدراسات المتقدمة في مايوركا، والتي قادت الفريق البحثي، أن درجات حرارة البحر الأبيض المتوسط ارتفعت بمقدار 5 درجات مئوية، ووصفت الوضع بقولها: "الأمر مروع، وكأنك تسبح في حساء".

وأضافت ماركوس أن تدفئة المحيطات لا تؤثر فقط على الحياة البحرية، بل تُغذي أيضا العواصف المدمرة التي تطال المناطق الساحلية والداخلية.

إعلان

وذكّرت بكارثة الفيضانات التي ضربت ليبيا عام 2023 وتسببت في مقتل أكثر من 11 ألف شخص، مشيرة إلى أن الاحترار الاستثنائي في البحر المتوسط ساهم في تكوين كميات ضخمة من بخار الماء، ما أدى إلى أمطار غزيرة بشكل كارثي.

كما حذرت من أن المحيطات الأكثر حرارة أصبحت تمتص كميات أقل من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، مما يزيد من حدة الأزمة المناخية.

ولفتت إلى أن الحل الوحيد يكمن في تقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري، وقالت إنه "إذا توقفنا عن تسخين الغلاف الجوي، سيتوقف تسخين البحار".

فيضانات شرق ليبيا عام 2023 دمرت أحياء بكاملها (غيتي) موجات حر

وأشارت الدراسة إلى موجات حر بحرية كبرى شهدها العالم مؤخرا، من بينها موجة طويلة في المحيط الهادي بين عامي 2014 و2015 أدت إلى نفوق واسع للكائنات البحرية، وموجة أخرى في بحر تسمان بين عامي 2015 و2016. كما شهد عام 2023 تسجيل درجات حرارة قياسية في مياه البحر حول المملكة المتحدة والبحر المتوسط.

من جانبها، قالت الدكتورة زوي جاكوبس من المركز الوطني لعلوم المحيطات في المملكة المتحدة، إن موجات الحر البحرية تُمثل خطرا اقتصاديا واجتماعيا كبيرا، إذ تؤثر على قطاعات حيوية مثل الصيد وتربية الأحياء المائية والسياحة، وتؤدي إلى تفاقم الظواهر الجوية المتطرفة كالأعاصير والعواصف.

واعتمدت الدراسة على نماذج تحاكي درجات حرارة سطح البحر منذ أربعينيات القرن الماضي، مع إزالة تأثير الاحترار العالمي، ثم قورنت بالبيانات الفعلية لإظهار أثر الانبعاثات على ارتفاع درجات الحرارة.

وخلص التحليل إلى أن عدد أيام موجات الحر البحرية قفز من 15 يوما سنويا في الأربعينيات إلى نحو 50 يوما في المتوسط العالمي حاليا.

بينما تشهد بعض المناطق مثل المحيط الهندي وغرب الهادي ما يصل إلى 80 يوما سنويا. وتُظهر هذه الأرقام، بحسب الباحثين، أن الأنشطة البشرية تُحدث تغييرات جذرية في المحيطات، مما يستدعي تحركا عاجلا لحماية النظم البيئية البحرية من الانهيار.

إعلان

مقالات مشابهة

  • حماس: نرحب بموقف مبعوث ترامب بإنهاء ملف الأسرى والحرب معًا
  • ابن فضل شاكر يقول إن والده بُرئ من تهمة قتال الجيش اللبناني
  • طرح استثنائي من الإسكان.. تملك شقتين حتى لو حصلت على وحدة من قبل
  • هجرة الغزيين إشاعة ورحيلهم عن غزة هدفٌ مستحيل
  • عبدالكبير: خريطة السيطرة في طرابلس تتغير.. والحرب قد تندلع فيها فجأة
  • بطولة فزاع للغوص الحر تنطلق بـ «الأشواط التحضيرية»
  • وزير الخارجية الإيراني يقول إنه سينقل رسالة من خامنئي إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين
  • تغير المناخ يضاعف موجات الحر في البحار ويهدد التوازن البيئي
  • التضامن: القانون المصري يكفل حقوق الأطفال المعثور عليهم .. فيديو
  • شاهد بالفيديو.. طفل سوداني يفاجئ المطربة عشة الجبل ويرمي عليها أموال النقطة أعلى المسرح الذي كانت تغني فيه وساخرون: (المشكلة بعد الحفلة تنتهي يبكي يقول عاوز قروشي)