سواليف:
2024-07-19@06:58:08 GMT

نور على نور

تاريخ النشر: 7th, July 2024 GMT

#نور_على_نور د. #هاشم_غرايبه

في مثل هذا اليوم من كل عام، تعطل الدوائر الرسمية في كثير من الأقطار العربية، احتفالا برأس السنة الهجرية، أسوة بعطلتها في رأس السنة الميلادية.
اليوم ليس عيدا بالمفهوم الشرعي، فلا أعياد في الاسلام إلا عيدي الفطر والأضحى، لكنها ذكرى لمناسبة هامة، وهي هجرة الدعوة من مكة الى المدينة، وليس ، فالأيام سواء لا تفاضل بين راس سنة وذيلها، بل الأهمية للحدث الذي جرى في ذلك اليوم، والذي هو أهم حدث فارق في التاريخ البشري.


من الواجب استذكار هذا الحدث، لأنه كان إيذانا بتطبيق منهج الله عمليا في أول دولة أقيمت على الأرض تحكم وفق منهج الله – الدين الذي ارتضاه الله لعباده بعد أن أكمله لهم بالرسالة الخاتمة، فبذلك يكون قد أتم عليهم النعمة العظمى – الهداية – من بين كل ما أنعم عليهم، من نعم ظاهرة لهم أو خفية عليهم.
الملاحظ في كل ما يقال من خطب في إحياء هذه الذكرى، الاستغراق في سرد الأحداث التي وقعت قبل خمس عشر قرنا، والتركيز على تفاصيل الروايات، وكأن الرحلة هي أصل الموضوع ومنتهاه.
المهم في الهجرة ليس في كيف حدثت، بل لماذا أرادها الله.
المعروف أن الدعوة بدأت بالتوسع في مكة بحذر، بسبب عداء المترفين التاريخي للرسالات السماوية، وممانعتهم لمنهج الله كونه يحد من أطماعهم ويقلص امتيازاتهم وعلوهم على الضعفاء، ولما كان هؤلاء يتمتعون بالنفوذ والتأثير المجتمعي، فقد ألبوا الجميع على هذه الدعوة، حتى المستضعفين والعبيد الذين هم أكثر المنتفعين من اتباعها.
لم تكن الهجرة بسبب العداء والتضييق فقط، فهذا أمر يمكن زواله مع الزمن، ولكنها جاءت موقوتة بتدبير الله العليم الخبير، فقد أراد بداية للشدة والمعاناة تدريب المسلمين الأوائل ميدانيا، كما يدرب العساكر تدريبات شاقة ليتحملوا فيما بعد أقسى الظروف، ويتهيؤوا للمهام العظيمة التي تنتظرهم وهي دعوة العالمين.
عندما وجدهم الله تعالى قد اجتازوا هذه الدورة بنجاح، إذن لهم بالإنتقال الى الميدان الذي سيمارسون فيه عمليا المهام التي أوكلها إليهم، وأولها التطبيق العملي لمنهجه ، ليشكلوا الدولة الأنموذج التي ستكون قدوة لكل من سيأتي بعدهم، والتي ما كان لها أن تقام إلا في بيئة مؤمنة.
هذه الحالة الفارقة قدرها الله ليستنبط المسلمون في كل العصور دروسا منها، ومما نستفيد منها في عصرنا هذا:
1 – من أراد العلا تحمل الصعاب، وبقدر عظم المهام تكون الشدائد، ولما كان المؤمن شخصا ارتقى ببشريته فوق الشهوات الحيوانية والمتع الزائلة، فاقترب من الملائكية في أخلاقه، ومن الأنبياء في سلوكه بالصبر والجلد، لذا فعلى المؤمنين حقا أن يتوقعوا الهجمات العدوانية من أعداء الله على الدوام، أو وقوع الملمات والنوازل الطبيعية، فهي ليست عقوبة من الله، بل هي ابتلاء بقصد اصطفاء الشهداء المجاهدين، وكشف المنافقين القاعدين، وبقصد التمحيص والفرز، فيرتقي المرابطون والصابرون، ويسقط من كانوا يؤمنون انتفاعاً: “وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ” [الحج:11].
2 – أنزل الله الدين ليطبق كمنهج حياة، ولا يمكن أن يكون ذلك إلا بانتهاجه من قبل النظام السياسي، لأن الله يزع بالسلطان ما لا يزعه بالقرآن، والدولة هي الضابطة للسلوك المؤدي الى صلاح المجتمع، ولا يتحقق ذلك بالتوقف عند الصلاح الفردي وأداء العبادات، فهذه متطلبات فردية تنفع صاحبها، لكن المجتمع ككل لا يصلح إلا بتطبيق المنهج القويم من قبل دولة قيادتها مؤمنة مخلصة لعقيدتها.
3 – أراد الله أن يعلمنا درسا في الانتماء والولاء، صحيح أن الوطن غالٍ وفيه أثمن ما يملكه المرء ماديا، لكن العقيدة أغلى وأثمن ما يملكه الإنسان في دنياه وآخرته، ورغم أن الغربة عن الوطن والأهل قاسية على النفس، لكن الاغتراب عن الدين والإيمان خسارة محققة.
وقد طبق النبي صلى الله عليه وسلم هذا عمليا بالهجرة، فقد ودع مكة حزينا آسفا على فراقها، واصفا بأنها أحب بقاع الأرض إليه، لكنه ضحى بها مقابل انتصار دينه وعقيدته.
بناء على ذلك، فالجامع الأعظم للمسلمين عقيدتهم، فهي ما توحدهم، وأقوى كثيرا من روابط الجغرافيا واللغة والموروثات القومية والقطرية.

المصدر: سواليف

إقرأ أيضاً:

عن ضوع عبد الله جلاب الفكري

عن ضوع عبد الله جلاب الفكري
غادرنا إلى الرحاب أخي الدكتور عبد الله أحمد جلاب. وكنت عرضت لكتابه "الجمهورية الإسلاموية الأولى" (آشقيت 2007) وهو باكورة ثلاثيته عن دولة الإنقاذ. وعرب العرض صديقنا المشترك المرحوم محمد عبد الله عجيمي غفر الله له. وأنشرها هنا ضوعاً لعطر جلاب الفكري فينا ولأن أفكاره مما مست الحاجة إليه في خطابنا العاقب لسقوط الإنقاذ (والسابق) الذي بدا لي دائماً كأنه لم يقرأ الإنقاذ كما أراد جلاب.
الإنقاذ الإسلامية: رباط، جامعة، ورأسمالية
عبد الله علي إبراهيم

اذكر انني قرأت في ستينيات القرن الماضي لرجل حكيم قال إننا نظل نقوم بالثورات الفاشلة بسبب الكتب الرديئة التي نقرأها عن الثورة والعصيان. وفي الذكرى العشرين الوشيكة لما يسميه عبد الله جلاب " الجمهورية الإسلاموية " (1989- ) (في مختلف مراحلها) في السودان، التي تنبأ اعداؤها المتعجلون بسقوطها ذائبة تحت وطأة أول خريف لها في السلطة، يجد المرء نفسه ميالا لأن يعزو تماسكها وبقاءها للكتب السيئة الكثيرة التي كتبت عنها. كانت هذه الكتب، في جانب كبير منها، تأبينا سابقاً لأوانه لحركة ودولة ترفضان أن تموتا.
لقد كتب جلاب كتاباً مختلفا عن عناد تلك الدولة الإسلامويه وتصميمها على البقاء. وهو يحاول في كتابه ان يفسر ديناميكية الدولة أكثر مما يحاول الحكم عليها. ومع ذلك فقد اعجبت بالأدوات التي استخدمها في سرد الحكاية بأكثر من البحث شديد الموثوقية الذي انتهى الى كتابته. وعلى خلاف الباحثين الآخرين في شأن هذه الدولة، الذين يتعاملون معها وكأنها أمر شاذ عن القاعدة يصلح للإدانة لا التفكر فيه على هدي نظري، فان جلاب يروي قصتها وكأن النظرية الغربية امر لا مندوحة عنه لفهم هذه المؤسسة شبه المنبوذة والتعامل معها. انه يطوح بشبكته بعيداً باحثاً عن مرفأ لها (وعرضنا في النص الإنجليزي المفاهيم الغربية العديدة التي استعان بها جلاب لفهم دولة الترابي الإسلاموية. ولن نثقل على قارئ الصحيفة السيارة بها وسيجدها القارئ المستزيد في النص الإنجليزي من هذا العرض). وكنت اتمنى لو ان جلاب تأمل هذه المفاهيم بعمق أكثر لإضاءة أفضل لديناميكية الدولة الإسلاموية.
يروي جلاب أيضاً قصة الدولة الإسلاموية في السودان وكأن الشيوعية في السودان (الواقع الذي نال، بدون جدال، أقل حظ من الدراسة في النصف الثاني من القرن الماضي) امر لا مناص من التعرض له لفهم دولة الترابي الإسلاموية. لقد ظهرت الحركة الاسلامية وسط منافسة قاسيه لكسب قلوب وعقول السودانيين مع حزب شيوعي نشط وحيوي ذي قواعد متجذره. وكان بإمكان هذه الحركة أن تتجاهل الحزب الماركسي استناداً على أنه غريب المنشأ لا خطر منه. فلو أغراها هذا التجاهل كانت ركبت مركباً مغامراً من اهمال هذا الحزب المنافس وتجرعت غصص الفشل. إن عرض جلاب المحكم البارع لثورة اكتوبر 1964 يكشف تنافسهما، الحركة الإسلامية والحزب الشيوعي، على وجدان الناس في احدى قمم الصراع السياسي – الثقافي في السودان. المهم ان سعي الحركة الاسلامية لنشر ايديولوجيتها لتحقيق أسلمة الدولة قد بدأت في المركز وفي مواجهة طويلة صعبة مع الحزب الشيوعي والقوى المسماة "حديثة" في المدن والمناطق الحضرية الشمالية في خمسينات وستينات وجزء من سبعينات القرن الماضي.
وفيما بعد هُمِشت هذه العملية لأسلمة الدولة (انتقلت من المركز الى الاطراف). في كلمات اخرى، طفحت الى الهامش دون تدبير مسبق. وكان الترابي، كما يوحي بذلك جلاب، يراقب الشيوعيين عن كثب ويتبنى أساليبهم في العمل.
فوق ذلك تناول جلاب الدولة الإسلاموية وكأن الكتابات بالعربية عنها في السودان مرجع لا غنى عنه. فالكتاب الذين يحملون أفكاراً ووجهات نظر حول التجربة الإسلاموية يحتلون موقعاً متقدماً في كتاب جلاب: الطيب زين العابدين، حيدر طه، عبد الوهاب الافندي، التجاني عبد القادر، امين حسن عمر، محمد سعيد القدال، محمود قلندر، حسن مكي، عصام ميرغني، حيدر إبراهيم، ومحي الدين عبد الرحيم. وقوة حبكة قصة جلاب عن الدولة الإسلامويه الأولى تعود، في جزء كبير منها، الى قراءاته المتنوعة هذه في أدبنا السياسي السوداني المحلي.
جلاب، لمن لا يعرفونه، شاعر. وشاعريته هنا كانت اداة ملائمة لإيجاز قصة الدولة الإسلاموية ببلاغة. ولقد اعجبتني كثيرا طريقة تصويره لنشاط الحركة الإسلامية خلال عهد الرئيس نميري (1978-1985). فقال إنها تمثلت في ثلاث هجرات: الهجرة الاولى الى " المعسكر "(camp) اي فترة إقامة الاسلاميين مع قوات المعارضة الاخرى في ليبيا لمواجهة النظام عسكريا، وتمثل ذلك في المحاولة الفاشلة لغزو السودان عام 1976. الهجرة الثانية كانت الى " الحرم الجامعي " (campus) حيث أصبح ذلك الحرم بمثابة المحرك "الموتور" للحركة الإسلامية. الهجرة الثالثة كانت الى ما يطلق عليه جلاب " أرض الوفره " (land of plenty). وكنت أود، من أجل المحافظة على الايقاع، لو أنه سماها "أرض الشركات والهيئات"(capitalism أو corporation)، وهو المصطلح الذي لجأ لاستخدامه في النهاية في الاشارة الى انغماس الحركة في الرأسمالية من خلال النظام المصرفي الاسلامي الذي استحدثته.
إذا كان هناك ما تحثنا هذه القصة جيدة الحبكة على فعله فهو ان نعيد النظر في صورة الترابي التي درجنا عليها وهي أنه شبيه بقائد عصابة للمافيا. إن الضوء الذي يسلطه جلاب على كيفية عمل دولته لا يثبت هذه الصورة التي يلوح بها خصومه على الدوام. لقد أراد الترابي التمكن من الأمر بغير منافس، ولكنه اصطدم بأعراف المهن الحاذق في البيروقراطية والجيش والاعلام التي لم تستسلم له، واعتصمت بمهنيتها الجريحة. فالترابي في وصف جلاب رجل سعى للاستئثار بالحكم والانفراد به. ولكن فأل الله ولا فأله. فحتى الجهاز البيروقراطي الذي خلخله النظام حتى النخاع لم يستسلم بسهولة. وعمليات التطهير المتلاحقة التي تعرض لها برهنت على ان قوة المؤسسات " تكمن في نزاهتها وتجردها ومهنيتها وتضامنها الجماعي " (ص111). فحتى البيروقراطيين الإسلاميين الذين تم انتقاؤهم بعناية فائقة استسلموا "لعقلنة وترشيد بيروقراطية الدولة "، (ناءوا) بأنفسهم عن تصرفات الحزب الحاكم العدائية وتصوراته الخاطئة (143). لقد انهزم الترابي على أيدي أولئك الإسلاميين الذين استأنستهم البيروقراطية بتوجهها الذرائعي النفعي. والمرونة التي تميزت بها هذه البيروقراطية قد تربت على حليب التقاليد النقابية الحية للمؤسسة. ان التقاليد السياسية في معارضة انظمة الحكم العسكرية (1964 و1985)، والتي يسميها جلاب "دين السودانيين المدني (134) " قد نفثت تعويذتها القاتلة في النظام الإسلاموي، رغم عناده في التشبث بالسلطة. ومع ذلك فان أكثر طول إقامة هذا النظام بيننا وغلظتها هي هدية خالصة من معارضيه الأشقياء العجولين.
كان الجيش بدوره كارها لإملاءات الترابي وبرما بهاً. وقد نجا من مشروعه الذي كان يهدف الى حله بحجة ردم الهوة بين المدنيين والعسكريين (ص 117). وفي نوبة غضب وبخ الترابي الجيش على تقاعسه عن عبور الحدود الى داخل إرتريا وعلقهم به علقة ساخنة لا تنسى. اما رجال الدين، من الناحية الاخرى، فلم يكونوا يحبونه لأنه حرمهم من تكوين مجلس للفقه يمكنهم من السيطرة على المناقشات والخوض في المسائل المتعلقة بالدين. وليس من المستغرب أن الدكتور أحمد علي الامام، مستشار الرئيس لشئون التأصيل، قد برز كواحد من الموقعين على مذكرة العشرة (ديسمبر 1999) التي كانت الإشارة الى سقوط الترابي. ولم يكن الترابي يثق حتى في البشير وهو من يزعم أنه انتقاه بنفسه للرئاسة. ويصف جلاب علاقتهما بأنها "صراع على السلطة " (ص 130) ظل يختمر عبر السنين. ويكفي أن نذكر أن البشير قد أحبط رغبة الترابي في ان يصبح نائبا له عقب حادثة الطائرة التي قُتل فيها النائب السابق الزبير محمد صالح. ولقد غمر السودانيين الحزن عندما انكشفت رغائب الترابي تلك إذ ما كانوا يصدقون أن رجلاَ في قامته ومنزلته يمكن ان يطأطئ رأسه بهذه الدرجة في دهاليز السلطة. فالترابي ليس "وحش شاشة" السياسية بلا منازع كما يصوره خصومه. لقد رعى بقيده رغماً عنه.
ومن جانب آخر فالصحافة، وهي ميدان تجربة جلاب الطويلة وحقل درجته العلمية، كانت صريحة في التعبير عن عدم إيمانها بالحكمة الرامية الى تشكيل العقول (144) وإعادة صياغتها بطلب من نظام الترابي. ومن هنا كان الكتاب والقراء السودانيون بارعين في خلق "بديلهم الاعلامي" (ص 144). فمناسبات الزواج والسهرات اصبحت تعج بالمناقشات السياسية وبذلك انكسر حاجز ثقافة الخوف. واضافة الى ذلك جاءت العولمة لتوفر للناس بدائل فتحولوا الى قنوات تلفزة ومحطات راديو أخرى ليس بحثاً عن الأخبار فقط، بل من اجل الترفيه أيضاً. هذا العزوف عن أجهزة الدولة الاعلامية نابع من تقليد قديم في استقاء الاخبار من "هنا لندن "، اذاعة البي بي سي، كمصدر موثوق به.
الصحافة المكتوبة، التي يقول جلاب أنها لم تستسلم للنظام، نجت من هجمة نظام الترابي إما بالصدور من خارج البلاد أو بفتح صفحاتها لصحفيين متمرسين برعوا في استخدام هامش الحرية المتاح، مهما كان ضيقاً وغير ثابت، لخدمة قضية الحرية. ونجحت الضغوط من أجل صحافة مكتوبة مستقله فسمح بها النظام في اواخر تسعينات القرن الماضي. وانفتح عش الدبابير مجرد ما أعاد هؤلاء الكتاب المشغولون بالشأن العام فتح الحوار الوطني حول مستقبل البلاد والذي انقطع بسبب انقلاب 1989.ويستنتج جلاب، وهو على صواب، أن دولة الترابي الإسلاموية الاولى لم تفشل فقط في تشكيل عقول ومفاهيم الناس، بل انها تحللت وماتت موتاً بطيئاً بفضل هؤلاء الصحفيين الذين لم يهابوا قول الحقيقة للسلطة على صفحات صحفهم التي استردت حريتها واستقلالها. ان فكرة المعارضة والانشقاق في صفوف الحركة الاسلامية نفسها قد ترعرعت بفضل هذه المنافذ التي اُستعيدت. وينحني جلاب إجلالاً لدور الصحافة المكتوبة التي تستحق "من موجبات الثناء فوق ما يعرف أكثر الناس" (ص 147).
يصف جلاب دولة ما بعد الترابي، وهو محق في وصفه، بأنها " اشبه بدولة النميري العسكرية " (ص 131). ولا جديد في هذا. فقد كان هذا طابع دولة الترابي أيضاً. ولكن الترابي وناقديه وحدهم الذين لم يروا ذلك لتركيزهم على دينية الدولة لا ديكتاتوريها. وبإبعاد الترابي عن السلطة لم تفعل الدولة سوى أن نضت عنها ايديولوجية فقدت سوقها السياسية: الاسلام. والعسكريون تحت حكم نميري فعلوا نفس الشيء بالنسبة للاشتراكية، تماما كما قال ملي روبرت عن الجزائر: " إذا كانت الامم لديها جيوش فجيش السودان لديه أمه ". إن نصف قرن من ممارسة السياسة بوسائل اخرى جعل العسكريين يتمترسون في السلطة حتى أصبح الضباط رجال دولة أكثر منهم مقاتلين. لقد كانوا كرجال دولة (لا عقائد) في فورة "تبضع" بحثا عن ايديولوجيات تصلح كي يموت من اجلها الجنود طالما ان النازع الوطني المجرد لم يعد يلهم أو يحرك الكوامن. والايديولوجية التي عثروا، سواء في ذلك اشتراكية نميري أو إسلامية البشير، هي "سكرة السلطة ". وإذا ما اشتد الضغط على هؤلاء العسكريين ليختاروا السلطة أو سكرتها فإنهم سيختارون السلطة ويتخلون عن السكرة أي الإيدلوجية. وهذا أصل في تجنب النظام الراهن الخوض الكثير في إسلامية الدولة.
انني اتعاطف مع جلاب تماما في اشارته الى مأزق الاسلام الذي نتج عن زعيق الدولة الإسلاموية الاولى وغضبها الضاري. وما كان السقوط الوشيك للإسلاميين الممسكين بالسلطة وقتها ولا احلام معارضيهم بإبعادهم عنها، حسب قول جلاب، "قد ألهم تحليلا متعمقا لدور الاسلام في موت الجمهورية الاولى". التفكير المتعمق لم يكن في يوم من الايام ميزة لمنتقدي الترابي. ولقد غادر الرجل المبنى وتركنا مع ما أطلقت عليه مرة اسم " اسلام ما بعد الترابي ". ولا أحد منا يبدو قد استعد لفهمه أو منازلته.

IbrahimA@missouri.edu  

مقالات مشابهة

  • إعلام إسرائيلي: المسيّرة التي انفجرت في تل أبيب تشبه مسيّرات حزب الله
  • عُمان.. وطن يلفظ الفكر الضال
  • قرن من الزمان في مواجهة قرنِ الشيطان
  • حَمَى الله الوطن
  • عام الرّمادة.. ما أشبه البارحةَ باليوم!
  • عبقريّة ابن غفير تُعلن الحرب على مُعزّز عبيّات
  • عن ضوع عبد الله جلاب الفكري
  • كربلاء تتجدد فعلا ونتيجة
  • 10 فوائد لصيام يوم عاشوراء
  • فضل الله دان الاعتداء في سلطنة عمان