القدس المحتلة- لقصاصات الورق تبوح الغزية أم مصطفى، وقد رفضت الإفصاح عن اسمها خشية الملاحقة الإسرائيلية، بحزنها وعجزها عن حماية ما تبقى من آمال عائلتها، وأحلامهم التي تجمدت مع اندلاع الحرب على غزة يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول.

"يا كاشف الكرب قد ضاقت بنا الخيم

نار من القهر في الأحشاء تضطرم

لم يبقوا فينا شيئاً لم يُقاسِ ألم

لم يرحمونا وزادوا ليلنا عتم

جئناك ضرعى وكل ما بنا سقم

جئناك صرعى وكل ما بنا كلم

فاشدد لنا الأزر واجبر قلبنا الهشم

أنت الولي ونعم الرب والحكم"

في بيتها بالمدينة المقدسة -الذي انتقلت للعيش فيه مع زوجها المقدسي قبل سنوات- استقبلتنا السيدة الغزية أم مصطفى، ورحبت بنا بابتسامة تخفي خلفها سيلا من الدموع التي انهمرت بمجرد الحديث عن حنينها لغزة التي أسمتها "مدينة القلب".

وطُويت صفحة الشهر التاسع من الإبادة الجماعية التي تُمارس في القطاع المحاصر، وطُويت فصول حياة عشرات الآلاف بعد استشهادهم، ولا أحد في العالم استطاع حتى الآن أن يطوي صفحة هذه الحرب، هذا ما يعبر عنه صوت أم مصطفى المرتجف، وقلبها العاجز عن تحمل المزيد من الألم.

أم مصطفى تحتفظ بذكريات طفولتها في حي الرمال الذي هجرت منه عائلتها خلال الحرب (الجزيرة) شتات ورعب

تعيش عائلة أم مصطفى في مدينة غزة ويتوزع أفرادها بين أحياء تل الهوى والصبرة والرمال، وكان آخر لقاء جمعها بهم عند زيارتها للقطاع خلال سبتمبر/أيلول المنصرم أي قبل أسابيع من اندلاع الحرب.

وحملت معها هواء غزة ورزمة جديدة من الذكريات وعادت بها إلى العاصمة المقدسة، لكن الفرح لم يدم طويلا مع انطلاق الحرب التي تشعر أم مصطفى منذ اندلاعها أن شيئا كبيرا ينقصها بسبب شح التواصل خاصة مع شقيقتها التي تعتبر أقرب إنسانة إلى قلبها.

عبّرت السيدة الغزية للجزيرة نت عن كثير من المشاعر التي تنتابها لكن تنهيدات الألم والصمت المتكرر الذي تخلل الكلمات كان أكثر مما تمكنت هذه الغزيّة من البوح به.

واستهلت بوحها بالقول "التواصل معهم هو الذي كان يخفف عني صعوبة الحياة وتفاصيلها في البعد عنهم، وكنت أُمنّي نفسي طيلة العام بأنني سألتقي بهم في عطلة الصيف.. أمل اللقاء بهم كان هو الحافز الذي يمكنني من مواصلة الحياة في الغُربة.. بلقائهم كان قلبي يرتوي والآن الأمل معدوم بلقائهم".

البحر جزء من ذكريات طفولة الغزية أم مصطفى وآخر عهد لها به كان قبيل الحرب بأسابيع (الأناضول) بحر غزة

في غزة كانت أم مصطفى تعود إلى طفولتها فتمارس مع أحبابها هواياتها بالسير على شاطئ البحر، والنوم على الشُرفة الخارجية للمنزل لتستيقظ على صوت أمواجه، والهروب من صخب مدينة غزة إلى البيّارة (بستان) للاسترخاء، لكن ذلك كلّه اندثر فالمنزل دُمر ولم يعد صالحا للعيش والبيارة سلبها الغرباء، والسيارة التي احتضنت ضحكاتهم احترقت.

"في بداية الحرب توقفت حياتي وتسمّرت أمام شاشة التلفاز لمتابعة الأخبار، ومرّت أيام متتالية دون أن أعرف مصير عائلتي هناك، وبعد شهرين قررت البوح بكل ما أشعر به للورق فكتبتُ وما زلت أكتب لأحافظ على اتّزاني النفسي، واعتزلت متابعة الأخبار ودخلت في حالة هروب كي لا أغرق في الوجع أكثر".

وعند سؤالها عما إذا كان لديها أمل أو رغبة في العودة إلى غزة في حال انتهت الحرب، قالت إنها حتما ستزورها فـ"لدي أمل للعودة إلى مدينة القلب والذكريات، وكما قال محمود درويش إن الحنين: استرجاع للفصل الأجمل في الحكاية".

وحتى تضع الحرب أوزارها فإن "في الانتظار.. يصيبني هوس برصد الاحتمالات الكثيرة" وهو اقتباس لدرويش أيضا الذي تستأثر أم مصطفى بنصوصه عادة.

ومع كل الألم الذي تعيشه هذه المواطنة فإن الحرب جعلتها ممتنة لنعم كثيرة تحظى بها وكانت تعتبرها بديهية، كأن تحرص على عدم التفريط بأي حبّة أرز أثناء غسلها وتحضيرها للطبخ، أو أن تنام في الليل على سرير ووسادة لا بخيمة، أو أن يكمل أطفالها مسيرتهم التعليمية بسلاسة.

وتختتم حديثها بالقول إنها "مدينة لغزة بكل الحب، مدينة لها بضحكاتي المجلجلة، بغمازتيَّ حين تشرقان، وقلبي حين يثمل فرحاً مدينة لها ببئر الذكريات الذي أغترف منه فترتوي روحي".

أمام ما يجري من غزة تلجأ أم محمد للصمت وبداخلها وجع عقدين لم تر فيهما عائلتها بغزة بسبب إجراءات الاحتلال (الفرنسية) الألم عميق

في منزل أم محمد، الغزيّة المتزوجة من مقدسي، الحالة النفسية ليست أفضل على الإطلاق، والصمت كان أبلغ من الكلام في أحيان كثيرة، والدموع عبّرت عمّا لا يمكن أن تعبر عنه الأحرف الأبجدية.

منذ عقدين ونيف تعيش أم محمد، في القدس منسلخة بفعل الإجراءات الإسرائيلية عن عائلتها في غزة والتي يفصلها عنهم حاجز "إيريز" العسكري سيئ الصيت، وبالتالي فإن زياراتها لمهوى قلبها كانت متذبذبة دائما، ومنعدمة التحقق حاليا.

تعيش أُسرة أم محمد في حي الرمال، وتذكر أنها في اليوم الرابع للحرب شاهدت على التلفاز خبرا يدعو أهالي هذا الحي للنزوح منه فورا نحو الجنوب، فـ "اتصلتُ بهم مباشرة وطلبت منهم تحضير أوراقهم الرسمية والخروج، لكنهم قالوا لن نترك المنزل وهذه ليست الحرب الأولى وسنصمد، لكن الهجوم كان أقوى من أن يواجه بالصمود.. وخلال ساعتين اتصلوا بي وقالوا إنهم نزحوا إلى دير البلح".

وعن وصفها لحالها وهي تعيش بعيدة عنهم قسرا قالت "نجحت مؤخرا في الخلود إلى النوم ليلا، كنت أستيقظ طوال الليل مع اشتداد القصف خوفا من سماع خبر سيئ عن عائلتي.. اتصلت بي إحدى قريباتي يوما تسألني إذا كانت عائلتي ممن استشهدوا بعد سماعها خبر استهداف في دير البلح كُشف فيه عن أسماء أشخاص من عائلتنا.. الظروف قاسية وشعور العجز قاتل".

أكثر ما يخيف أم محمد هو الفقد، وأكثر ما يغضبها هو عجز العالم عن إيقاف المجازر "ومن وجهة نظري الكل متواطئ ولا أرى مستقبلا أفضل".

مراجعة ذاتية

يرفض أشقاء أم محمد فتح الكاميرا في محادثات الفيديو كي لا ترى شقيقتهم إلى أي حال وصلوا بعد 9 أشهر من الحرب التي كانت المجاعة وسوء التغذية أبرز سماتها، لكنهم قالوا لها مرارا إنهم باتوا يتمنون لو أن الرصاصات القادمة تستهدفهم لتنتهي حياتهم وينتهي الوجع معها.

ورغم كل الألم فإن أم محمد حاولت البحث عن جوانب إيجابية فقالت إنها نجحت على الصعيد الشخصي في إعادة ترتيب أولياتها وعلاقاتها الإنسانية، وأسقطت الكثير من الأشياء من قانون الأهمية لديها، وقد جعلتها الحرب تكتشف أن الكثير من الأمور التي كانت تبذل جهدا خرافيا لأجلها لا معنى لها أمام الحياة والموت.

أما في غزة فترى هذه السيدة أن معاناة الحرب وطدت العلاقات بين أبناء القطاع، وستجعل جزءا منهم يخرج بوعي أكبر في كيفية تنظيم حياته وترتيب أولوياته، لكنها ستجعل آخرين يتعاملون بلا مبالاة ولا يفكرون سوى بإسعاد أنفسهم وأطفالهم في كل لحظة قبل أن تأتي لحظة تضيع فيها الحياة منهم.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات أم مصطفى أم محمد

إقرأ أيضاً:

إسرائيل والصحفيون بغزة.. إستراتيجية قتل الشهود لطمس مسرح الجريمة

رغم الحماية التي يجب أن يتمتعوا بها، لم يتوانَ الجيش الإسرائيلي عن استهداف الصحفيين الفلسطينيين على مدى عام من حرب الإبادة التي يشنها على قطاع غزة على مرأى ومسمع من العالم.

ومنذ اندلاع الحرب المدعومة بشكل مطلق من أميركا، ونتيجة للعمليات الإسرائيلية، قُتل 174 صحفيا فلسطينيا في القطاع، وأصيب أكثر من 190 آخرين، في حين دُمرت 87 مؤسسة إعلامية، بحسب المدير العام للمكتب الإعلامي الحكومي في غزة إسماعيل الثوابتة.

وبدعم أميركي مطلق تشن إسرائيل منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 إبادة جماعية على قطاع غزة أسفرت عن أكثر من 138 ألف شهيد وجريح، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 10 آلاف مفقود، وسط دمار هائل ومجاعة أودت بحياة عشرات الأطفال، في إحدى أسوأ الكوارث الإنسانية بالعالم.

وفي استهانة بالمجتمع الدولي، تواصل إسرائيل هجومها على قطاع غزة متجاهلة قرار مجلس الأمن الدولي بوقفها فورا، وأوامر محكمة العدل الدولية باتخاذ تدابير لمنع أعمال الإبادة الجماعية ولتحسين الوضع الإنساني الكارثي بغزة.

مقتل العشرات

وقال إسماعيل الثوابتة إن الاحتلال الإسرائيلي يضع الصحفيين والإعلاميين في دائرة الاستهداف منذ بدء حرب الإبادة الجماعية بغزة، حيث يتعمد قتلهم وتصفيتهم.

وكشف الثوابتة عن أنه بسبب العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة "نتحدث اليوم عن ارتقاء 174 شهيدا من الصحفيين والإعلاميين، وإصابة 396 آخرين، على مدى عام من الإبادة".

وتابع "كما وثقنا اعتقال إسرائيل 36 صحفيا خلال الحرب نفسها، أُفرج عن 4 منهم، بينما لا يزال 32 في السجون".

وعن أسباب استهداف الصحفيين، أوضح أن "الاحتلال يهدف إلى ترهيبهم، وطمس الحقيقة، ومنعهم من التغطية الإعلامية لجرائمه ضد الأطفال والنساء والمدنيين، في إطار حرب الإبادة الجماعية على جميع أطياف شعبنا".

ورغم تلك الاستهدافات، أكد الثوابتة أن "الصحفيين والإعلاميين الفلسطينيين تمكنوا من اختراق حاجز الخوف والإرهاب، الذي حاول الاحتلال فرضه عليهم".

وأوضح أنهم تمكنوا من إيصال رسالة مظلومية الشعب الفلسطيني إلى العالم، وفضح الاحتلال وجرائمه ضد الإنسانية، التي كان أكثرها قسوة قتل الأطفال والنساء وقصف المنازل.

وطالب الثوابتة الاتحادات الصحفية والهيئات الإعلامية والحقوقية بإدانة هذه الجرائم والضغط على الاحتلال لوقف هذه الحرب الإجرامية ضد الصحفيين والمدنيين.

تحذيرات دولية

وخلال العام، حذرت مؤسسات فلسطينية ودولية من استهداف الجيش الإسرائيلي للطواقم الصحفية في قطاع غزة، لكنه واصل استهدافهم رغم ارتدائهم سترات الصحافة والخوذ الإعلامية، متحديا بذلك التحذيرات الدولية.

وفي الخامس من سبتمبر/أيلول المنقضي، دعا المفوض العامّ لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)  فيليب لازاريني الصحفيين ومؤسسات الإعلام الدولية لدعم زملائهم في غزة.

كما دعا لازاريني الصحفيين إلى الضغط على إسرائيل، للسماح بدخول طواقم الصحافة إلى قطاع غزة، لتنقل المعاناة فيه بحُرية.

وأعرب عن إعجابه بالصحفيين الفلسطينيين، وتقديره لهم، مشيرا إلى أنهم "يواصلون حمل الشعلة، رغم مقتل العديد منهم".

ويواجه صحفيو غزة الموت البطيء كغيرهم من الفلسطينيين بالقطاع، حيث تعرضوا للنزوح، والجوع، ونقص الدواء والماء والطعام والمأوى، إضافة إلى انقطاع الإنترنت الذي يؤثر على قدرتهم على نقل صورهم وتقاريرهم.

ألم ومعاناة

في كل مرة يحاول المصور الصحفي الفلسطيني محمد الزعانين (43 عاما)، التقاط صورة لانتهاكات إسرائيل في غزة، يخشى أنه قد يكون مكان الضحية في المرة القادمة.

وقال الزعانين "نحن في جنوب القطاع بعد نزوحنا من مدينة غزة (شمال)، أعاني كأي مواطن من معاناة النزوح القسري، لكن عملنا رسالة وطنية يجب أن نوصلها للعالم".

وأضاف "تعرضت للإصابة في يوليو/تموز الماضي، وتعافيت، وما زلت لا أستطيع ممارسة عملي مصورا لنقل صورة الأوضاع وآلام شعبنا في قطاع غزة".

وأكد أن الاحتلال لا يفرّق بين صحفي وطبيب ورجل دفاع مدني، فالكل مستهدف في غزة، معربا عن أمله أن تنتهي حرب الإبادة، ويعود مع أسرته إلى مدينة غزة، وينتهي من معاناة النزوح وآلام الحرب.

حماية مفقودة

ولا يختلف عن أوضاع زملائه، حال الصحفي غازي العالول، الذي يصر على مواصلة عمله رغم معاناته النزوح، وفقد العديد من أفراد عائلته، خلال الحرب المستمرة منذ عام على قطاع غزة.

واستنكر أن يكون الصحفي في كل العالم محميا، لكن في قطاع غزة يتعرض لاستهدافات مباشرة من الاحتلال الإسرائيلي.

وقال "مسؤوليتنا هي تغطية الأحداث ونقل صورة قضيتنا ومناصرة الإنسان الفلسطيني الذي يعاني"، وأضاف "لم نأخذ يوما واحدا من الراحة على مدى عام، بسبب استمرار العمليات العسكرية".

وعن موازنته بين واجبه الصحفي ودوره رب أسرة، أجاب العالول "تقع علي مسؤولية كبيرة لا يمكنني أن صف مدى صعوبة عملي كوني زوجا وأبا لطفلين".

وأوضح أنه يقضي جزءا من وقته مع عائلته في المخيمات ليطمئنهم، ثم يتركهم ولا يعرف هل سيعود إليهم مجددا، متوجها لأماكن الاستهداف لتغطية الاعتداءات الإسرائيلية المستمرة على القطاع.

مقالات مشابهة

  • عدد الجرحى تجاوز الـ 10 آلاف.. ماذا عن المستشفيات التي خرجت عن الخدمة؟
  • ماذا غيّرت الحرب في المقدسيين؟ وما أكثر ما يخشونه؟
  • إسرائيل والصحفيون بغزة.. إستراتيجية قتل الشهود لطمس مسرح الجريمة
  • نفخٌ في البوق وأداء طقوسٍ تلموديةٍ.. ماذا يعني اقتحام الأقصى يوم الجمعة؟
  • "أوقفوا الإبادة" وسم تضامني مع اكتمال عام على "طوفان الأقصى"
  • حصيلة ضحايا الحرب الإسرائيلية على غزة تتجاوز 138 ألف فلسطيني
  • ما الذي قاله قائد أنصار الله عبد الملك الحوثي عن الضربة الصاروخية الإيرانية التي أرعبت “إسرائيل”؟
  • قائد الثورة يكشف تفاصيل حساسة بشأن الهجوم الإيراني على كيان العدو والمواقع التي تم استهدافها وما الذي حدث بعد الضربة مباشرة
  • ماذا يعني يوم المدن العالمي؟.. تحتفل به مدينة الإسكندرية الشهر الجاري
  • 13 كاتبا فلسطينيا يقدمون شهاداتهم عن عام الإبادة الجماعية