قراءة في كتاب: أطروحات ما بعد التنمية الاقتصادية: التنمية حريّة – محمود محمد طه وأمارتيا كومار سن (مقاربة)، (2- 15)
تاريخ النشر: 7th, July 2024 GMT
تأليف عبد الله الفكي البشير- الناشر ط1: مركز أسبلتا للاستنارة والنشر، أيوا، الولايات المتحدة، الموزع: دار الأجنحة للنشر والتوزيع، الخرطوم.. ناشر الطبعة الثانية: دار بدوي للنشر، كونستانس، ألمانيا، 2022
بقلم بدر موسى
ماجستير برامج دعم التنمية في دول العالم الثالث (2000)، جامعة أيوا، الولايات المتحدة
يدرس حالياً في ماجستير التدريس والتعليم، جامعة أيوا، الولايات المتحدة
bederelddin@yahoo.
البروفيسور علي عبد القادر: "هذا كتاب مذهل"
وطلب البروفيسور علي عبد القادر، قائلاً: "أرى أن ينشر هذا الكتاب في السودان، حتى يستفيد منه الناس وحتى يستفيد منه الشباب والحاكمين، وآمل أن تقام حوله حوارات ونقاش".
قدم الكتاب مقارنة بين أفكار الأستاذ محمود محمد طه وآرائه تجاه التنمية مع أفكار المتخصصين وآرائهم، فمثَّل نموذجاً فريداً لهذه المقارنة، التي أبرزت و"تبرز امتياز الإسلام على كل فلسفة اجتماعية معاصرة، وعلى كل دين، بصورة تقنع العقول الذكيَّة". قارن الكتاب بين أطروحة: التنمية حرية، التي قدمها عالم الاقتصاد والفيلسوف الهندي أمارتيا كومار سن، الحائز على جائزة نوبل في العلوم الاقتصادية عام 1998، وأستاذ الاقتصاد والفلسفة، حالياً، بجامعة هارفارد، والتي جاءت ضمن كتاب له نُشر عام 1999، وبيَّن طرح الأستاذ محمود محمد طه ورؤيته تجاه التنمية، والتي كانت سابقة، وقد قدمها منذ خمسينات وستينات وسبعينات القرن الماضي، ومثلَّت محوراً أساسياً في مشروعه الفكري: الفهم الجديد للإسلام/ الفكرة الجمهوري/ الفكرة الجمهورية، وجاءت في العديد من كتبه ومقالاته وأحاديثه، كما قام بتفصيل كل ذلك الدكتور عبد الله في كتابه المتميز والعجيب والمدهش.
وتزداد قيمة مقاربة الدكتور عبد الله الفكي البشير، في أنها أظهرت المرجعية الفكرية لرؤية الأستاذ محمود محمد طه تجاه التنمية، وهي القرآن في مستوى آيات الأصول (الآيات المكية). قدم الأستاذ محمود من خلال الفهم الجديد للإسلام، وجهاً مشرقاً للإسلام، في الوقت الذي يواجه فيه الإسلام والمسلمين التهم بالعجز والقصور والتخلف والتطرف ومحاربة التقدم والفهم باسم الله. وهذه التهم تجد سندها وتعزيزها في أخذ الإسلام عن جهل، يقول الأستاذ محمود: "إن الإسلامَ سلاحٌ ذو حدين.. إذا أُخذ عن علمٍ ومعرفة رفع الناس إلى أوج الرفعة والإنسانية والرقي، وإذا أُخذ عن جهلٍ، ارتد بالناس إلى صورٍ من التخلفِ البشع، الذي يحارب باسم الله كل مظهرٍ من مظاهر التقدم والفهم". ولقد أوضح عبد الله في كتابه أن رؤية الأستاذ محمود تجاه التنمية تنطلق من دعوته لإرجاع الحياة إلى الله، وأن منشأ العلوم في حاجة ماسة وضرورية للمزج بين العلم التجريبي المادي مع العلم التجريبي الروحي، نسبة لوحدة الوجود، وأن تعريف التعليم هو تمليك الحي للقدرة، أي القدرة على تكيف الإنسان مع البيئة، وأن عناصر البيئة هي المعلم المباشر، بينما المعلم الأصلي هو الله، وأن الحرية هي العبودية لله، وأن سبب أزمة الأخلاق في العالم يتصل بالتخلف بين تقدم العلم التجريبي، وتخلف الأخلاق البشرية، وقد فصل عبدالله في كتابه كل ذلك تفصيلاً دقيقاً ومسدداً، فقد كتب عبد الله، قائلاً: "أرجع طه أزمة الأخلاق، التي أدت الى الاضطرابات التي يشهدها عالم اليوم، إلى سبب أساسي، وهو مدى التخلف بين تقدم العلم التجريبي، وتخلف الأخلاق البشرية". وأضاف عبدالله، قائلاً: يرى الأستاذ محمود بإن العلم التجريبي الحديث رد مظاهر المادة المختلفة، التي تزخر بها العوالم جميعها، إلى أصل واحد، وأن البيئة التي يعيش فيها الإنسان هي بيئة روحية ذات مظهر مادي. هذا الاكتشاف الجديد، كما يرى الأستاذ محمود، يواجه الإنسان المعاصر بتحد حاسم، فالعلم المادي التجريبي، والعلم الروحي التجريبي، التوحيدي، اتحدا اليوم في الدلالة على وحدة الوجود. ولهذا، كما يقول عبدالله مستشهداً بقول الأستاذ محمود: فإنه على الإنسان "أن يوائم بين حياته وبين بيئته هذه القديمة الجديدة، وبهذه المواءمة والتناسق يكون الرجوع إلى الله بعقولنا، بل وبكل كياننا، حتى نحقق العبودية لله".
عرض عبدالله كتابه على البروفيسور علي عبد القادر (1944- 2022)، أستاذ اقتصاديات التنمية، والخبير السوداني المعروف، الذي عمل قائداً لبعض المؤسسات وفرق العمل التنموية، إقليمياً وعالمياً، وذلك باقتراح من البروفيسور عصام البوشي. أطلع البروفيسور علي عبد القادر على الكتاب، وناقش كل فصوله ومحاوره مع عبدالله، فعبَّر عن اعجابه بالكتاب، وبما جاء فيه من مقارنة علمية، وبما اشتمل عليه من رؤية للأستاذ محمود تجاه التنمية. ثم وصف الكتاب، قائلاً: "هذا كتاب مذهل". تبع ذلك أن حكى البروفيسور علي عبد القادر لعبدالله، قائلاً: "لقد تحدثت مع بعض الأصدقاء عن الكتاب، الذي تضمن رؤية محمود محمد طه تجاه التنمية، فعبَّر أحدهم عن دهشته عن معرفة محمود محمد طه بالتنمية، فرددت عليه، قائلاً: إذا كان كل دارس يمكن أن يعرف تنمية، هل من المعقول أن يكون محمود محمد طه لا يعرف تنمية". وأضاف البروفسور علي عبد القادر، قائلاً: "محمود محمد طه يعرف بدقة وعمق وشمول، بينما نحن الذين لا نعرف". كذلك كان البروفيسور علي عبد القادر حريصاً على أن ينشر الكتاب داخل السودان، وليس خارجه، حيث تحدث إلى عبد الله، قائلاً: "أرى أن ينشر هذا الكتاب في السودان، حتى يستفيد منه الناس وحتى يستفيد منه الشباب والحاكمين، وآمل أن تقام حوله حوارات ونقاش". واستجاب عبد الله من جانبه، لطلب البروفيسور علي عبد القادر، على الرغم من المعروض المقدمة لنشر الكتاب خارج السودان".
كلما زاد العبد في التخضع لله كلما زادت حريته
يقول عبد الله إن العبودية لله، كما هي عند الأستاذ محمود، "هي غاية الحرية، وكلما زاد العبد في التخضع لله، كلما زادت حريته". وذكر عبد الله بأن الأستاذ محمود يقول: "بالعلم التجريبي لا نستطيع الرجوع إلى الله، وإنما أسرع الطرق للرجوع لله يكون عن طريق الفكر، النابت في البيئة الروحية". وأضاف عبد الله بأن الفكر، كما يرى الأستاذ محمود، "أسرع من الضوء، وبالطبع أسرع من الآلة التي ينجزها العلم التجريبي". ولهذا، كما أورد عبد الله، يقول الأستاذ محمود: "إن قواعد الأخلاق البشرية إذا لم ترتفع إلى هذا المستوى فترد جميعها إلى أصل واحد، الأصل الروحي، كما ردت ظواهر الكون المادي إلى أصل واحد، فإن التـواؤم بين البيئـة، وبيـن الحيـاة البشرية، سيظـل ناقصاً، وسيبـقى الاضطراب الذي يعيشه عالم اليوم مهدداً الحياة الإنسانية على هذا الكوكب بالعجز، والقصور، في أول الأمر، ثم بالفناء والدثور، في آخر الأمر".
نواصل في الحلقة القادمة.
bederelddin@yahoo.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الأستاذ محمود محمود محمد طه تجاه التنمیة یستفید منه عبد الله فی کتاب
إقرأ أيضاً:
أطروحات فكرية تجدد شرعية الاستبداد وتغذي تحالفات السلطة في العالم العربي
قبل عشر سنوات كتبت مقالا بعنوان: "أفكار في خدمة الاستبداد"، علقت فيه على أطروحتين تم تداولهما في مؤتمر عقدته مؤسسة مؤمنون بلا حدود بمراكش سنة 2014، تقول الأولى: إن المدخل إلى العقلنة والتنوير والحداثة يتم عبر العقلنة والتحديث، ونقد الموروث الديني، وتفكيك أنساق تفكيره. وتقوم الثانية، على فكرة إعادة إحياء التقليد بإحالاته المعروفة في الفقه السلطاني وتعزيز الثقة في المؤسسة الدينية التقليدية واعتبارها صمام أمان الاستقرار السياسي في المنطقة.
وقتها كان يبدو لي أن الفكرتين اللتين تبدوان متعارضتين مفصليا، وألا لقاء بينهما في مجال الفكر والمعرفة والمنهج، تخدمان في الواقع هدفا مشتركا في حقل السياسة، وهو خلق تحالف بين التقليد بكل مستوياته ومكوناته وبين الفكر الحداثي بكل تحققاته الواقعية، ورسم معادلة: "لا استقرار بدون تعايش مع الاستبداد" في مقابل معادلة: "لا استقرار بدون إصلاح وتغيير"، فيتم بناء تحالف في عالم الفكر، بقصد الوصول إلى تحالف آخر في عالم السياسة، يضع هدف مواجهة تيار مجتمعي، يؤسس لفكرة مواجهة الاستبداد من قاعدة المرجعية الإسلامية والفكر الإسلامي.
الآن، وبعد استقراء طويل لعدد من المشاريع والأطاريح الفكرية التي أصّل لها مفكرون ومثقفون من إيديولوجيات مختلفة، نضجت الفكرة النقدية أكثر، واتضح لي أن القصد لا يتوجه بالأساس إلى مواجهة ما يعرف بـ "تيار الإسلام السياسي"، بحجة أنه يمثل العائق الحقيقي أمام التحديث، وإنما يتوجه إلى إعادة تجديد الأطروحة السلطوية، وبناء مشروعيتها وحججها الفكرية والمعرفية، وأن الاختباء وراء نقد الموروث، أو القطع مع التراث والفطام عنه، أو طرح مفهوم "إسلام القرآن" في مقابل "إسلام الحديث"، أو "استعادة التنوير الرشدي" عند البعض، كان القصد منها بالأساس هو الاقتراب من مربع السلطة، وتقديم خدمات لها بعرض مشاريع فكرية لتجديد المشروع السلطوي، وتبرير تأخير معارك الحرية والعدالة والديمقراطية، وخلق خلط والتباس أو صراع أولويات بين مكونات منظومة الحرية بوضع الثقل كله في خانة الحريات الفردية، خاصة منها ذات البعد الغريزي، وإهمال الحقوق المدنية والسياسية، التي تعتبر الهيكل الأساس لـي مشروع تنويري حداثي.
معركة الحرية ومواجهة الاستبداد تراجعت بالمطلق، وصار مطلب "القوى المستنيرة" هو إنقاذ المجتمع من "إسلام تيارات الإسلام السياسي"، سواء بالتحالف مع المؤسسة الدينية التقليدية، أو بدعم التصوف، أي دعم اللامعقول، أو من خلال التمييز بين إسلام القرآن، وإسلام الحديث، أو من خلال دعم شرعية الدولة بإحياء أطروحة الأحكام السلطانية بعيدا عن مطلب دمقرطة الدولة وتحديث السياسة. في هذا المقال، نتقاسم مع القارئ مسار التحول في فكرة خدمة الاستبداد، وبعض المشاريع الفكرية التي حاولت تجديد المشروع السلطوي، ونقدم مساهمة في كشف الجسور التي التقت عليها هذه المشاريع مع اختلاف أصولها وخلفياتها الفكرية والمعرفية. لكن، قبل ذلك، من الضروري الإشارة في مدخل هذا لوثيقة مهمة اسمها "الإسلام المدني الديمقراطي"، صدرت عن مركز راند، وصدر لنا كتاب مستقل في تحليليها والكشف عن خلفياتها، تشير توصياتها إلى الكيفيات التي يمكن من خلالها إحداث التحالفات الممكنة بين التيارات الثقافية في العالم الإسلامي، حتى ولو كانت متعارضة من حيث المواقع الفكرية، لأن ما يبرر اجتماعها مع تناقضها الفكري هو مواجهة تيار الإسلام السياسي بمختلف مكوناته، والبحث عن تأويلات معتدلة وحداثية للإسلام.
تعارض مفصلي في حقل الفكر والتقاء في عالم السياسة
تقدم ورقة "الإسلام المدني الديمقراطي" تصنيفا لأربعة اتجاهات فكرية تخترق العالم العربي والإسلامي، كل منها يحمل تأويلا خاصا للإسلام. أولها الأصوليون الذين يتمسكون بالإسلام كمرجعية وإيديولوجية، ويضم هذا الاتجاه طيفا واسعا ومتباينا يجمع ملالي الشيعة وحزب التحرير وطالبان والوهابيين، وتميز الورقة بينهم بضابط ممارسة الإرهاب والعنف من عدمه. واتجاه تقليدي محافظ يحرص على تطبيق الشعائر والطقوس الدينية الرسمية مع مجاورة دائمة للدولة. واتجاه حداثي، يؤمن بأن الإسلام جاء لمرحلة زمنية مضت، ويمكن اليوم تطويره بحسب الواقع الجديد والقيم العصرية، واتجاه علماني، يقول بفصل الدين عن الدولة.
توصي ورقة "راند" بعدد من التوصيات التي تحكم طبيعة التحالفات التي ينبغي الاشتغال عليها لتقريب بعض هذه الاتجاهات من بعض وإبعاد بعضها عن البعض الآخر، وترى أن محاصرة الأصوليين، ينبغي أن تتم من خلال سيناريو التحالف بين التيار الحداثي والاتجاه التقليدي، مع العمل ما أمكن على عدم تقديم الولايات المتحدة الأمريكية أي دعم ظاهر الاتجاه العلماني، لأن ذلك قد يرتد على ردود فعل مجتمعية معاكسة، تفسد اللعبة كلها. وتوصي الورقة بضرورة دعم التصوف بمختلف تياراته، بما في ذلك الأشكال الأكثر معاداة للعقل منه، ولا تطرح أي فكرة بخصوص مواجهة الاستبداد، أو أي دور يمكن أن يقوم به الإسلام، أو على الأقل تأويلاته المعتدلة في مواجهة استبدال السلطة، لأنها في البدء والمحصلة مشغولة بفكرة واحدة هو إبعاد تيارات الإسلام السياسي سواء التي تستبيح العنف والإرهاب، أو التي تطرح فكرة التغيير السلمي، لأن ذلك يشكل في نظرها خطرا على المصالح ألأمريكية.
نسوق هذه الورقة، لأنها تلخص الرؤية الأمريكية للتغيير المطلوب في العالم العربي، والتي تركز أساسا على فكرة ترويج فهم معتدل للإسلام، أو تأويلات مدنية له، لكنها في جوهر الأمر، لا توصي بالتركيز على المضامين التحررية في الإسلام، أي التأصيل لذات القيم الثورية التي أنتجت الثورة الفرنسية، أو الأفكار الأساسية التي كانت وراء نهضة أمريكا، أي فكرة العدالة والحرية المساواة والديمقراطية، وإنما تركز فقط على فكرة "تطهير" الإسلام والنص الديني عموما من العنف، علما أن العنف في المفهوم الأمريكي يتسع لدلالات كثيرة، بما في ذلك مقاومة الاحتلال.
وإذا كان اشتغال مستودعات التفكير الأمريكية بمثل هذه الأفكار مشروعا، لأنها في البدء والمحصلة، تبحث تحقيق المصلحة الأمريكية، وإحداث تحول في العالم العربي، يخدم المصلحة الأمريكية، فإن سقف المثقف العربي، يختلف تماما عن هذه الرؤية، أو هكذا يفترض أن يكون، لكن، الواقع، يؤكد بأن الرؤيتين، تقتربان في عالم السياسة، بل يقوم المثقف العربي، من حيث لا يدري بخدمة هذه الرؤية الأمريكية التي تقصد إخضاع العالم العربي كله للمصالح الأمريكية. فالمثقف العربي، المزهو بفكرة التقدم، يتغافل أزمة النخب، وبشكل أساس نخب الحكم (أطروحة برهان غليون النقدية مهمة في هذا الصدد) ويحاول أن يبحث عنها في مكان آخر، في الدين والتراث والعقل الإسلامي وقواعده، ويلتقي في ذلك، سواء درى أم لا يدري بالرؤية الأمريكية، التي تختصر التغيير في العالم العربي في سطر واحد هو إعادة قراءة الإسلام قراءة معتدلة، حتى توفر لإسرائيل أمنا مستداما لم تحلم به من أكثر من سبعة عقود.
العروي قيدوم أطروحة دعم الاستبداد
كشف الدكتور محمد عابد الجابري في لقاء مع إحدى القنوات الفضائية الفرق بين مشروعه الفكري ومشروع عبد الله العروي، وذكر أن العروي كان على هامش حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وأنه يؤمن بأطروحة التعاون مع السلطة لإنجاز التحديث، بينما كان الجابري، يلح على أن فعل التحديث والدمقرطة لن يتم إلا ممن خلال "كتلة تاريخية" تتسع لمشاركة تيارات الإسلام السياسي التي كان يعدها العروي الوجه الآخر للتقليد الذي لا يمكن بناء الحداثة من غير مواجهته.
تكشفت أطروحة العروي مع كتابه "الإيديولوجية العربية المعاصرة" الذي أثار ضجة كبيرة، بنقده للسلفية والقومية والاشتراكية، وتأكيده على أن هذه التيارات كلها، وإن كان بعضها يحمل عنوان التحديث، إلا أنها في الجوهر تتبنى التقليد كمنهج من أجل الوصول إلى الحداثة، وأنها في نهاية المطاف ستجد نفسها داعمة للتقليد لا الحداثة.
بينما كان الجابري يؤصل لفكرة الكتلة التاريخية، وتحديد مكوناتها الأساسية، والعناوين التي يمكن اللقاء على أرضيتها، كان مشروع العروي يتلخص في بناء تحالف مع السلطة السياسية، ببرنامج "فكري ثقافي" يهدف ابتداء تقويض نفوذ تيارات الإسلام السياسي باعتبارها الرمز الأقوى للتقليد، والمساهمة في إضعاف الخلفية الفكرية والثقافية والتراثية التي يقتات منها، وتقوية المضامين الحداثية، على الأقل في برامج التربية والتعليم وأوعية الثقافة وقنوات الإعلام. تأسست أطروحة العروي على دعامتين مترابطتين، الأولى أن المرور نحو التحديث يتطلب استلهام نفس القواعد التي التزمتها الحداثة الأوربية لتأصيل نفسها في المجتمع، وهو ما دعاه إلى طرح فكرة الليبرالية كمرحلة انتقالية. فيما أصل في الدعامة الثانية لفكرة إمكان حصول "اللبرلة من فوق"، أي بشكل قسري من خلال السلطة، على اعتبار أن فعل التحديث، قد لا ينجح إذا تم الاقتصار فيه على فعل التيارات المجتمعية، وأنه في هذه الحال، يمكن اللجوء إلى فكرة وسط، أو أرضية لقاء بين تيارات التحديث وبين السلطة، عنوانه، "التحديث من فوق"، وأرضيته الأساسية "الفطام عن ثقافة الأم"، بما تعنيه هذه الثقافة من موروث تراثي وثقافي متصل بالمصادر المرجعية للأمة والعلوم التي دارت حولها.
وبينما كان الجابري يؤصل لفكرة الكتلة التاريخية، وتحديد مكوناتها الأساسية، والعناوين التي يمكن اللقاء على أرضيتها، كان مشروع العروي يتلخص في بناء تحالف مع السلطة السياسية، ببرنامج "فكري ثقافي" يهدف ابتداء تقويض نفوذ تيارات الإسلام السياسي باعتبارها الرمز الأقوى للتقليد، والمساهمة في إضعاف الخلفية الفكرية والثقافية والتراثية التي يقتات منها، وتقوية المضامين الحداثية، على الأقل في برامج التربية والتعليم وأوعية الثقافة وقنوات الإعلام.
وإذا كانت انتقادات أمس للعروي تركز على أسباب تغافله عمق التقليد داخل السلطة نفسها، وفي الآن ذاته تجاهل المضمون الديمقراطي في التحديث، فإن النقد المتوجه اليوم إلى هذه الأطروحة يسائل مستقبلها وما أنجزته بناء على الأطر التأصيلية التي اعتمدتها، إذ يبين الفارق الزمني بين "الإيديولوجية العربية المعاصرة"، وبين كتابه "ديوان السياسية" أو "السنة والإصلاح" ألا شيء تحقق على مستوى هزم ثقافة الأم، وألا شيء تحقق أيضا على مستوى الاتجاه نحو الليبرالية إلا ما كان من تحريف لمضامينها، وتبني مفهوم هجين لها، يجمع بين الشيئ وضده، وأن النتيجة التي لا يشك فيها أحد أن السلطوية جددت شرعيتها، وأن تيارات التحديث توارت بشكل كلي، لتخلق طبقة أخرى بديلة كليا للمثقفين، هي طبقة المؤثرين، أضحت السلطة مستغنية بالكامل عن خدمات العروي وأمثاله لبناء وتجديد شرعيتها من جديد.
مفكرو نقد الموروث الثقافي
منذ أن كتب المستشرق البريطاني هاملتون جب كتابه "الاتجاهات الحديثة في الإسلام" عن تجزيئية أو ذرية العقل الإسلامي، انصرفت كتابات العديد من المفكرين إلى نقد التراث، ونقد العقل العربي، ودراسة تكوينه وبنيته وقواعد تفكيره، وأصبحت موضة التأصيل لفكر النهضة، أو نقد التخلف، هي جلد الموروث الثقافي، والبحث فيه عن جينات التخلف.
في الواقع لا يمكن أن نقيس أدبيات فكر النهضة التي كانت تنبه على أهمية نقد التراث، إلى كتابات المعاصرين ممن اندمجوا في فكرة خدمة الاستبداد، فما كتبه طه حسين في "مستقبل الثقافة في مصر" أو حتى في كتابه: "نظام الأثينيين" أو ما كتبه سلامى موسى وفرح أنطون وغيرهم، كان مبررا بفعل واقع الصدمة اكتشاف الغرب، والقناعة بأن العقل اليوناني كان سببا في إقلاع الحضارة الغربية، وأن سر نهوض الحضارة العربية الإسلامية يعود إلى اكتشافها لهذا العقل الهليني سواء مع ابن رشد أو مع غيره.
كتابات النهضة التي حملت نفس المضمون النقدي للتراث الأدبي والديني والثقافي، كانت محكومة بهاجس سد فجوة التأخر، بالأفكار التي استلهمها مفكرو النهضة لحظة الصدمة والاكتشاف للغرب، ولم تكن قضايا العدالة والحرية والتمثيل الشعبي غائبة عن مشاريعهم النهضوية، لسبب بسيط هو أن همهم كان النهوض، وكانت الحل هو الوصفة نفسها التي سار عليها الغرب، ولذلك، لم يتردد طه حسين في القول بأنه يجب اتباع الغرب في كل شيء حلوه ومره، قبل أن يتداعى في آخر حياته إلى كتابة الإسلاميات. أما الجيل الجديد من المفكرين المعاصرين المشغولين بفكرة نقد الموروث الثقافي، فمع تمكنهم من فكر الأنوار، وفكر التحديث، وآخر التقليعات الفلسفية فيه (هابرماس)، فإنهم أزاحوا من اهتمامهم قضايا الحريات والعدالة ودمقرطة السلطة، ووضعوا كل بيضهم في سلة نقد الدين، سواء بالتركيز على الاجتهادات التراثية في مختلف مستوياتها الكلامية والفلسفية والشرعية، أو التوجه بشكل مباشر إلى نقد النصوص الشرعية قرآنا كانت أم سنة، أو محاولة الفرز التكتيكي بينهما من خلال تبني أطروحة "الاكتفاء بالنص القرآني" دون السنة، وأن منظومة الاستبداد كلها جاءت من خلف نص"الحديث" وفقهه.
بالأمس القريب، حصل توافق كبير بين المفكرين الإسلاميين والعلمانيين على فكرة مخاطر أدبيات "الأحكام السلطانية" في تكريس منظومة الاستبداد، وكتب الترابي في الفقه السياسي مبينا تأثيرات فقه التغلب على الفكر الإسلامي، تماما بنفس الطريقة التي كتب بها خصومهم من العلمانيين، وبدأت تتسع أرضية المشترك بين الطائفتين على ضرورة أن يخضع التراث الإسلامي لنخل عميق، وأن يميز النص الشرعي بمقاصده العليا عن الفهوم التي تلبست بالتاريخ، وتأثرت بإكراهات السياسة، وأثمر هذا الالتقاء البحث عن صيغ تنقل المشترك المعرفي إلى ساحة السياسة، أي البحث عن "كتلة تاريخية" تجمع كل المؤمنين بضرورة توطين الديمقراطية في وطنهم على أرضية واحدة لمواجهة الاستبداد، لكن اليوم، سار جزء مهم من المثقفين في المسار الخطأ، أي مسار تبديد هذه المساحة المشتركة، والعودة إلى المربع الأول، أي اعتبار الدين والمضامين الدينية، أساسا للتخلف، واعتماد صيغة واحدة للانطلاق نحو التقدم، هي القطيعة مع الموروث الديني سبيلا للنهوض، وتأجيل قضايا الحريات والعدالة والديمقراطية إلى ما بعد التخلص من عقائد الأمة.
لقد حصلت أزمة كبيرة في الفكر النهضوي العربي المعاصر، بسبب هامشية التيارات العلمانية في الوطن العربي، وعزلتها وضعف تأثيرها في المجتمع، وأيضا بسبب العجز عن فهم تيار الإسلام السياسي في الوطن العربي. وبينما كان المطلوب أن تتحد الجبهة لمواجهة الاستبداد، ذلك العدو الذي شخص النهضويون الأوائل أزمة الأمة من زاويته، تغيرت البوصلة تماما، وصار الطلب على التحالف مع الاستبداد لمواجهة العدو الأول، أي تيار الإسلامي السياسي، بحجة أن عدو التقدم هو الموروث الديني، وأنه ما لم يتم التخلص منه مجسدا في تيارات الإسلام السياسي، فلا كلام عن التحديث.
قدم عبد الله العروي الوصفة النظرية. فلا مرور إلى التقدم دون فطام مع ثقافة الأم وقطيعة مع الموروث الديني، ولا سبيل لهذه المرحلة دون ليبرالية، ولا ليبرالية بدون تحالف مع السلطة، لأنه "الليبرالية من تحت" تتطلب فعلا مجتمعيا، تعدم التيارات الحدتثية القدرة على القيام به، وما دام هناك مشترك بين السلطة وهذه التيارات هو مواجهة تيارات الإسلام السياسي، فالأولى في هذه المرحلة، تبني "فكرة اللبرلة من فوق" ولو بشكل تكتيكي، حتى يتم التخلص من وجع الإسلاميين، ثم يتم التفرغ بعد ذلك إلى التحديث السياسي، أي مواجهة تغول الدولة.
والمشكلة التي لم يتم الانتباه إليها هؤلاء أن هذا التحالف التكتيكي، أو زواج المتعة بين تيارات التحديث وبين السلطة، تم في الواقع في سياق غير متكافئ، فالسلطة كانت قوية في ميدانها ضعيفة في شرعيتها، بينما كانت التيارات العلمانية، ضعيفة في ميدانها (الفكري)، فاقدة للشرعية في محيطها الاجتماعي، وهو ما جعل ناتج هذا التحالف يؤول من جهة إلى تجديد شرعية السلطة وتقوية تغولها في المجتمع، ومن جهة أخرى إلى ابتلاع نخب التحديث، ودخولها في مربع الارتزاق، أو على الأقل مربع الانحراف عن وظائفها التنويرية. فأصبح التكتيك (التحالف مع السلطة) لأداء مهام مرحلية، زواجا شرعيا محاطا بشرط التأبيد، وتحولت كل نظريات التحديث إلى مجرد هدم القديم أو نقد الماضي والتراث، دون تطلع إلى المستقبل، فالمستقبل هو السلطة، ولا مستقبل لتيارات التحديث سوى فيما تقدم السلطة لهم من فضاءات ومواقع وامتيازات.
رضوان السيد من نقد التقليد إلى إعادة إحياء منظوماته
لا نريد أن نسرد الكم الهائل من المشاريع الفكرية التي تفرغت في جلد التراث، باسم التأسيس للتقدم، فالسلسلة ممتدة من عبد الله العروي إلى علي حرب، ولا يوجد نشوز في تضاريسها إلا ما تعلق بانتقاء أجزاء تراثية يراد تأسيس الفكر العقلاني من متنها (المعتزلة، ابن رشد، ابن باجة، ابن حزم أحيانا، ابن خلدون). فسواء تعلق الأمر بفكرة القطيعة أو الانتظام التكتيكي في التراث من أجل القطيعة معه، فالحصيلة واحدة، هي أن البيض كله وضع في سلة أخرى غير سلة مواجهة عدو الأمة الأول، أي الاستبداد، فما أسهل نقد التراث الذي لا كلفة فيه، إلا ما كان من تعرض لنقد الإسلاميين، وما أثقل نقد السلطة، لأن المثقف العضوي، صار خلف الستار، وصار مثقفو نقد التراث يخافون من كلفة الالتزام.
لقد حصلت أزمة كبيرة في الفكر النهضوي العربي المعاصر، بسبب هامشية التيارات العلمانية في الوطن العربي، وعزلتها وضعف تأثيرها في المجتمع، وأيضا بسبب العجز عن فهم تيار الإسلام السياسي في الوطن العربي. الجديد في موقف المثقفين، أن التناقض الذي كان بشكل دائم موضوعا رئيسا للنقد الماركسي والماوي، صارت تسوغه اعتبارات السياسة، فلا مشكلة إن حصل التناقض في حقل الفكر، بقصد تحقيق الوظيفة في عالم السياسة.
رضوان السيد، الذي وجه جزءا مهما من مشاريعه الفكرية المبكرة لنقد الأشكال الانحطاطية في التراث، لاسيما الأجزاء التي تسوغ الانحطاط، وبشكل خاص، أدبيات الأحكام السلطانية، ويعتبر أنه يؤسس للاستبداد السياسي، ويكرس واقعه هيمنة السلطة، وتغولها على المجال العام، حصل له انقلاب كبير في عالم الأفكار، فصار يدعو إلى التصالح مع المؤسسة الدينية التقليدية ومع الآداب السلطانية، ومع المنظومة التراثية التي تعيد إنتاجها، وفي الآن ذاته، يجعل من التحالف مع السلطة، ضرورة لمواجهة تيارات الإسلام السياسي وإيديولوجيتهم الفكرية والسياسية.
بدأنا المقال، بأطروحة راند في "الإسلام المدني الديمقراطي" قصدا لكن تتبع إفلاس المشروع الفكري الحداثي، أثبت أنه لم تعد له من وظيفة تحديثية إلا وضع "عقله" في خدمة الاستبداد. فإذا كانت اعتبارات السياسة، ومتطلبات التمكين للمصالح الأمريكية في الشرق الأوسط، اقتضت في مرحلة دعم الأنظمة الاستبدادية، واقتصت في مرحلة أخرى دعم التحول السياسي، وفي المرحلتين معا، ظهرت عقبة الإسلام السياسي، لأنه يمثل المعارضة السياسية الأولى للأنظمة الاستبدادية، ويمثل الرابح الكبير من دعم التحولات السياسية، فإنه في الحالتين معا، لا بد من عمل على الواجهة الفكرية يوازي العمل الذي تقوم به واشنطن وحلفاؤها في مواجهة هيمنة هذا التيار على الحياة السياسية والثقافية، وهو ما يبرر دور المثقفين الحداثيين المعاصرين.
تقوم أطروحة "راند: على فكرة محاصرة تيارات الإسلام السياسي، في شقها الأصولي التطرف، أو المعتدل، وترى أن أقرب طريق لذلك أن يحدث تحالف متين بين تيارين رئيسيين، الليبرالي، والديني التقليدي، وترى أن ذلك ضروري لسحب المشروعية الدينية على تيارات الإسلام السياسي، وتقوية السلطة السياسية.
هي الأطروحة نفسها التي يطرحها رضوان السيد بعد أن أفضى مشروعه الفكري في مساره الطويل إلى تثبيت فكرة التناقض في حقل الأفكار، ذلك أنه وضع في حقل السياسة سيناريو يعتبر ضمن المخاطر التي ينبغي تجنبها، وهي فكرة حدوث تحالف بين تيار الإسلام السياسي وبين المؤسسة الدينية التقليدية، وأن ذلك، يعني إضعاف للسلطة السياسية واضطرارها للخضوع لضغط الإسلاميين، ويعني ذلك مزيدا من العزلة للتيارات الليبرالية والعلمانية، ولذلك وجب الاشتغال على سيناريو مقابل ه تحالف الاتجاه الحداثي مع التيار الديني التقليدي، فجمع بين أطروحة راند في هذا الشق، وأطروحة العروي، في الشق المتعلق بإحياء أدبيات الأحكام السلطانية.
والمحصلة، أن معركة الحرية ومواجهة الاستبداد تراجعت بالمطلق، وصار مطلب "القوى المستنيرة" هو إنقاذ المجتمع من "إسلام تيارات الإسلام السياسي"، سواء بالتحالف مع المؤسسة الدينية التقليدية، أو بدعم التصوف، أي دعم اللامعقول، أو من خلال التمييز بين إسلام القرآن، وإسلام الحديث، أو من خلال دعم شرعية الدولة بإحياء أطروحة الأحكام السلطانية بعيدا عن مطلب دمقرطة الدولة وتحديث السياسة.